الحمد لله الذي أعدّ لنا ولعباده الصالحين، من الأجر العظيم، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. والصلاة والسلام على نبيِّ الأمة، وكاشف كلِّ غمَّة، وسرِّ النّجاة من كلِّ كُربة، مفتاح الجنان، وباب الهُدى لحضرة الرحمن، سيدنا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ العدنان، وآله وصحبه، وكل من سار على هديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين، آمين .. آمين، يا رب العالمين.
إخواني وأحبابي: بارك الله U فيكم أجمعين
آيات القرآن تشوِّق المؤمنين والمؤمنات إلى الدرجات العظمى، والمقامات العليا، التي جهَّزها الله U لأهل الإيمان. غاية مُنى أهل الإيمان أن يكرمهم الله U بالنَّجاة يوم القيامة، والنَّجاة من عذاب النار ودخول الجنة. وحتى دخول الجنة بذاته، آخر من سيدخل الجنة، لا يوجد أحدٌ – من الأولين ولا من الآخرين – يستطيع أن يصف النعيم الذي جهَّزه الله له في الجنة!! وهذا آخر رجل سيدخل الجنة!! بعد أن يدخل النار، ويخرج له قرار عفو من العزيز الغفار U!! فحضرة النبي e يصف لنا حال هذا الرجل، وخذوا بالكم من حكايته، فيقول r: (آخر مَنْ يخرج من جهنم، رجل اسمه جهينة)[1]. حتى أن أهل الجنة وأهل النار يقولون: عند جهينة الخبر اليقين، كيف ذلك؟
بعد أن يخرج هذا الرجل من جهنم، ينادي منادِ الله: يا أهل الجنة، خلود بلا موت، يا أهل النار، خلود بلا موت. وهذا آخر واحد سيدخل الجنة؛ أي آخر واحد سيخرج له قرار عفو. وقرارات العفو هذه سيأتي بها رسول الله e، لأنه وحده المحامي المعتمد من في حضرة الله، ومعه تفويض لمخاطبة الله U لطلب العفو للمسلمين الذين عليهم أحكام، واستوجبوا بهذه الأحكام دخول جهنم، وحكم عليهم بقبس أو بشيء من عذابها، ويستمر حتى يقوم ويقدِّم هذه العريضة، ويقول فيها: يا ربِّ إئذن لي فيمن قال ولو مرة واحدة في حياته: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولم يعمل أيَّ شيء – لا صلى ولا صام ولا عمل أيَّ شيء نهائياً!! بعد ذلك الذي يبقى في النار الكافرون والمشركون، وهؤلاء في الدرك الأسفل من النار، فيظلون فيها خالدين فيها أبداً، ولا يخرجون منها أبداً.
وهذا الرجل الذي يخرج أخيراً من النار، حضرة النبي e يقول: (أنَّ ربَّ العزة سيوقفه بين يديه ويقول له: )تَمَنَّ – أي: ماذا تتمنى؟فيقول: أتمنى أن أدخل الجنة فقط، ولا أشترط أن يكون لي قصرٌ فيها، أو مبنى ولو حتى تحت سور الجنة، أو في شارع من شوارع الجنة. هل تريد شيئاً آخر؟ فيقول: لا أريد إلاَّ دخول الجنة. فيقول الله تعالى: إن لك في الجنة كمثل الدنيا كلها من أولها إلى آخرها عشر مرات. فيقول: الرجل أتهزأ بي وأنت ربُّ العالمين!! أي أتسخر مني – فيقول الله تعالى: إن لك في الجنة كمثل الدنيا كلها من أولها إلى آخرها عشر مرات ومثله معه)[2].
كم يكون ذلك؟ عشرون مرة، وهذا آخر واحد سيدخل الجنة بعد أن يدخل السجن ويأخذ نصيباً من العذاب، وليس جزاؤه كاملاً ؛ لأنه لا يوجد مؤمن سيأخذ جزاؤه كاملاً في جهنم لأن سيدنا رسول الله e سيتداركهم بالعفو، سيخرج بعد ربع المدة أو ثلثها، ويأخذ شيئاً خفيفاً، ولكن المهم أنه لن يكمل أحدٌ منهم المدة أبداً، ولا يوجد أحدٌ من المؤمنين سيأخذ تأبيدة، أي: (خالدين فيها أبداً)، ولكن من سيأخذ تأبيدة هم الكافرون فقط ، ولا يوجد أحد من المؤمنين سيأخذها، وبعد أن يأخذ فترته سيشفع له رسول الله e.
وانظر إلى آخر واحد سيخرج من جهنم ويكون له مثل الدنيا كلها من أولها إلى آخرها – كم مرة يا أحباب؟ عشرون مرة!! فما بالك بالمُجِدِّين والمجتهدين، والعابدين والصابرين والقانتين، والقائمين والراكعين والساجدين، والذاكرين والشاكرين والحامدين؟ هؤلاء لهم في الجنة ما لا يستطيع لسان أن يفصح عنه، ولا بيان أن يحيط به، ولا قلم أن يسطره، لأن هذه أمور فوق طاقة العقل، وفوق قدرات الإنسان في حياته البشرية. هذه تريد إنساناً آخر له قدرات أخرى، وهي القدرات الجِنَانِيَّة التي سوف يؤهلنا لها في الآخرة ربُّ البرية U. سيؤهلنا تأهيلاً آخر لندرك هذه النعم الإلهية، وهذه الفضائل والألطاف الربانية، التي تفاض علينا من الله U.
نحن كلنا نريد الجنة، لكن حضرة النبيِّ e بيَّن الآية التي سمعناها في بداية الدرس أن هناك أناس، الجنة سوف تشتاق لهم، وتتمنى قدومهم عليها، وستفرح عندما تسمع أنهم خرجوا لأرض الموقف، ولن تنتظر حتى تأخذهم الملائكة لها، ولكن الجنَّة بنفسها سوف تذهب لهم لتستقبلهم وهم في الموقف العظيم، } وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ{ (31ق). (أزلفت): أي قُرِّبت، الناس الآخرون في الموقف العظيم، كل واحد منهم يبحث عن النجاة ويريد أن ينجو من أهوال الموقف، أو من أن يصدر له كتاب؛ فيكون من أهل الشقاء، ويدخل جهنم وبئس القرار، لكن هؤلاء الطائفة، الجنَّة هي التي تبحث عنهم في أهل الموقف، تريدهم وتتمناهم وتطلب من الله U أن يُعَجِّلَ دخولهم فيها؛ لأنها تشتاق إليهم!! حضرة النبي e قال فيهم: (اشتاقت الجنة إلى أربع، عليٍّ وسلمان والمقداد وبلال)[3].
هؤلاء الأربعة الجنة اشتاقت لهم، وهل هؤلاء الأربعة في الزمان الأول فقط؟ لا، لأن هناك أربعة مثلهم في كل زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل واحد منهم له كرسي في دار العزَّة، كرسي جمال وكمال يصل إليه فرد من الأفراد في كل زمان فيجلس عليه، فيكون له كل الميراث الذي جُعِل لصاحب هذا الكرسي.
وسنقرب بالمثال الحقيقة، من الذي له حقُّ إصدار القرارات في كل النواحي والشئون التي تهم الدولة؟ رئيس الجمهورية، وهو من سنختاره ونُجلسه على الكرسي، ومن سيأتي بعده له نفس الصلاحيات؛ الصلاحيات التي أعطاها ربُّنا للأولين، كذلك يتفضل بها الله على من يجلس على أقدامهم، ويصل إلى مقاماتهم إلى يوم الدين: }ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ{ (13، 14الواقعة).
المَدَدُ واصل ومتصل على الدوام؛ لأن المدد من عند ربِّ العالمين U. مثلما بشَّرَ حضرةُ النبيِّ e أناساً بالجنة في العصر الأول، يبشّر أناساً بالجنة إلى يوم القيامة، هناك أناسٌ في وقتنا هذا – وبعد وقتنا هذا – يأتي لهم رسول الله e ويبشرهم بالجنة!! هناك من يُبَشِّرُهُ مناماً، وهناك من يُبَشِّرُه يقظة، هناك من يُبشِّرُهُ قبل الموت بفترة، وهناك من يبشره عند خروج روحه، كل واحد على حسب مقامه ودرجته عند الله وعند سيدنا رسول الله e.
لأن العشرة المبشرين بالجنة ليس الذين هم في الحديث فقط، وإنما هناك عشرة مثلهم في كل زمان ومكان، وهم ليسوا عشرة فقط، هؤلاء العشرة في حديث واحد، لكن هناك أحاديث كثيرة سيدنا رسول الله r بَشَّرَ فيها غيرهم بالجنة، عندما تضم هذه الأحاديث تجدها عدداً كبيراً جداً بشَّرهم بالجنة، وهناك أناسٌ مثلُهم في كل زمان ومكان يُبَشِّرُهم بالجنَّة.
وربُّنا قال له ذلك: }وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً{ (47الأحزاب). الآية هنا هل قالت له: وبشر المؤمنين في زمانك أنت؟ لا، وإنما في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، وهو لا يزال يُبَشِّرُ، ولذلك قال لنا خذوا بالكم: (من رآني في المنام فقد رآني حقًّا فَإِنَّ الشيطان لا يتمثل بي)[4]. إياكم أن يراني أحدٌ في المنام أبشِّرُهُ ثم يقول أن الشيطان يلعب بي، لا، لا ينفع هذا؛ لأن الشيطان ليس له طريق عند رسول الله e، فمن رأى رسول الله تكون رؤيا حقِّ ليس فيها جدال أو شك، ليثق ويعلم أنها بُشرى صادقة من إمام الأنبياء والمرسلين، أمَرَهُ بالتبشير بها ربُّ العالمين U: }وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً{ (47الأحزاب).
ومثلما قال رسول اللهr: (يدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب)[5]. فلو أن هؤلاء السبعين في زمانه فقط فهم قليل جداً، وهو قال: (سألت ربي أن يزيدني فأعطاني بكل ألف سبعين ألفا)، ولكن هذا أيضاً في كل زمان. في كل زمان هناك أناسٌ سيدخلون الجنة بغير حساب، وهي عملية نسبة وتناسب، فإذا كان في الزمن الأول سبعون ألفاً في سبعين، فانظر إلى عدد الأمة الآن كم هو؟ وكم ستزيد النسبة؟ }وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ{ (46فصلت). فإذا كانوا مثلاً خمسين مليوناً أو سبعين مليوناً، فانظر إلينا الآن ونحن حوالي مليار ونصف أو ملياران، هل سيكون العدد مثلهم؟ لا،
نحن عندما زاد العدد ألم نزد الدوائر الانتخابية؟ وكذلك عندما زاد عددنا فلابد وأن تزداد الدوائر الإلهية، التي تصطفي المصطفين والأخيار بقرار من الواحد القهار U. فالاصطفاء مستمر، }اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ{ (75الحج)، الاصطفاء مستمر على الدوام إلى يوم القيامة فضلاً من الله U. وحضرة النبيe قال: (أمتي هذه أمة مرحومة)[6]، أي مشمولة برحمة الله U، أمة مرحومة يا إخواني!!
فهناك أناس يشتاقون للجنة، وهناك أناس الجنة هي التي تشتاق لهم، ونحن نريد أن نكون مثل هؤلاء!! والجنة تشتاق لنا، وتبحث عنا يوم القيامة، وتأخذنا من أهوال الموقف العظيم، ويخرج الإنسان منا، وهي تبحث عنه، فإذا لم تجده الجنة في أرض الموقف تجده عند قبره لَـمْ يَصِلْ لأرض الموقف بعد، فتأخذه مباشرة من القبور إلى القصور، ليس له شأن بالميزان، ولا بالحساب، ولا بالصراط! من هؤلاء يا إخواني؟
هؤلاء مَنْ يصبر على أمر الله، ومَنْ يرضى بقضاءٍ قضى به مولاه، } إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ{ (10الزمر). هؤلاء ليس لهم شأن بالميزان ولا بالحساب ولا بالصراط، ولا باللوم ولا بالتعنيف ولا بالتوبيخ، ولا الفضيحة ولا العتاب، ليس لهم شأن بهذا كله، من القبور إلى القصور! نسأل الله أن نكون منهم أجمعين. هؤلاء الجماعة، ما الملف الذي يجهزه الواحد منا حتى يحظى بهذا المقام، وينال شرف هذه الدرجة، ويكون من أهل هذه المنزلة؟ قال لنا ربنا، هذا هو الملف حتى نجهزه: }وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ{ (31ق)، ويقول لهم: } هَذَا مَا تُوعَدُونَ – لمن؟ عِدُّوا معي – لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ { (32، 33ق).
كم بند؟ أوَّاب، وأوَّاب: يعني رَجَّاع، لن يخلو أحدٌ من الذنوب، ولن يخلو أحدٌ من العيوب، وحضرة النبي e قال: (كُلُّ ابن آدم خَطَّاء)[7]، إذن من الشاطر؟ هو مَن إذا أخطأ تاب إلى الله فوراً، فلا يؤجل ولا يسوّف؛ لأنه لو أجَّلَ أو سوَّفَ وجاء له الأمر بلقاء الله، ماذا يفعل؟! لن يجد وقتاً يتوب فيه، فلابد أن يكون جاهزاً للقاء الله على الدوام، فلا يقول – إذا أذنب: انتظر حتى يوم الجمعة وأتوب، أو أجهز نفسي وأذهب إلى بيت الله الحرام وأقوم بعمرة، أو أحجُّ وأتوب. ومن الذي سيضمن لي هذا الأمر؟ فإذا أذنبت في الصباح وقلت: إن شاء الله في المغرب أو آخر النهار سوف أتوب، ومن أين تضمن أنك ستعيش إلى المغرب؟!! بادر عند ارتكاب الذنب فوراً للمتاب، ساعة أن تقع في الخطأ إياك أن تتوانى أو تتريث، فوراً ارجع إلى الله وتُبْ إلى الله؛ فالله U قال في كتابه: } إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ { (222البقرة).
ولم يقل التائبين، أي يتوب مرة واحدة، لكن (التوَّابين)، أنا أعلم أني أعمل الذنب وأتوب، لكن نفسي أو شيطاني أو جيراني أو المرافقين لي سيوقعونني في الذنب مرة ثانية فأتوب ثانياً، وما المانع؟ المهم أنه كلما يقع الإنسان في الذنب؛ يرجع يتوب إلى الله فوراً، فلا يؤجل ولا يسوّف ولا يؤخّر. ما اسم هذا يا إخواني؟ أوّاب، مَنْ الأوَّاب؟ هو مَن كلما أخطأ تاب، وكلما أذنب رجع إلى الله وأناب، وكلما وقع في خطأ طلب العفو من العفوّ، وكلما أذنب ذنباً طلب المغفرة من الغفور U فوراً ولا يؤخر شيئاً من هذه الأشياء أبداً.
أنتم تعلمون أن مِنْ كرم الله U علينا أن الموظفين الذين عيَّنهم معنا، اختارهم كراماً، وقال لنا: لا تخافوا من هؤلاء؛ لأنهم } كِرَاماً كَاتِبِينَ { (11الانفطار)، فلا يتلهفون لتسجيل الأخطاء، لا، إنما يتلهفون لتسجيل الحسنات والصالحات، ساعة أن يقع الواحد منا في خطأ، فالمكلف بتسجيل المحاضر يريد أن يكتب فالثاني – وهو المكلف بتسجيل الحسنات وهو رئيسه – يقول له: انتظر قليلاً ربما يتوب، لا تكتب. كم ينتظر؟ ينتظر كما قال السادة العلماء – بما استنبطوه من أحاديث سيِّد الرسل والأنبياء r: ينتظرون ست ساعات؛ حتى يتوب!! وإذا سجَّلُوه يسجلونه بمادة كالرصاص؛ ليكون سهلاً أن يُمحى. يأتي العبد للصلاة: }إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ{ (114هود)، فتمحو الصلاة الذنوب التي فعلها قبل الصلاة، فإذا قال العبد: (لا إله إلا الله)، فهي كالممحاة فتمسح كل الذنوب، قال r: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله، ذهبت لصحيفته، فمحت كل سيئة تقابلها، حتى تجد حسنة تقف بجوارها)[8]. انظر إلى فضل المتفضل، وكرم الكريم U لنا جماعة المؤمنين!!!
وأقَلُّ شيءٍ أنني عندما أَقَعُ في الذنب، أقول: أستغفر الله، وأقول: (لا إله إلا الله)، وهل هذه صعبة علينا يا أحباب؟!! هل في ذلك مشكلة؟!! حتى لو أنني متدنس بالجنابة؛ لا يوجد مانعٌ أنني أقول: (لا إله إلا الله)، وأستغفر الله، فلا يشترط فيها الطهارة الظاهرة ، ولا يشترط فيها الوضوء أو أكون في بيت الله، بل في أي موقع أقول: (أستغفر الله)، وأقول: (لا إله إلا الله)، فيكون الإنسان توَّاباً.
إذا تاب – فشرط التوبة: } لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ { (32ق) – أن يحفظ الجوارح من الغفلة، ومن الوقوع في المعاصي بعد ذلك، طالما تاب فعليه أن يكون منيباً، فيحفظ العين من النظرات المحرمة، والتحسس والتجسس على عورات المسلمين، ويحفظ الأذن من الغِيبَةِ والنَّمِيمَة، والقيل والقال، والتصنت علي مجالس وبيوت المسلمين، ويحفظ اللسان من السَّبِّ والشَّتْمِ واللعن، والقيل والقال، والغيبة والنميمة والوقيعة، ويحفظ اليد من السرقة، والضرب وإعانة الظالمين، وترويع الآمنين بالسلاح – إن كان أبيضاً أو سلاحا آلياً أو نصف آلي أو غيره – ويحفظ الرِّجْلَ من المشي إلى أماكن المحرمات، أو المشي إلى أماكن الشبهات، ويحفظ الفَرْجَ من الحرام الذي حرَّمه علينا الله، ويحفظ البطن من أكل الحرام، ومن شرب الحرام، ومن كل شيء حرمه الله U في مطعم المؤمن ومشربه، لأن الحرام هو الذي يدعو الأعضاء إلي الوقوع في الذنوب والآثام، فلابد عليه أن يحفظ كل هذه الأشياء ؛ حتى يكون حفيظاً.
حفيظاً لأي شيء؟ لكل الجوارح والأعضاء التي كلفه الله U بحفظها، }وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ {(5المؤمنون). وكلمة الفروج معناها واسع، فهي تعني كل الفتحات، العين والأذن وكل الفتحات، فكلمة فرجة تعني فتحة، فلابد أن نحفظها ليكون العبد حفيظاً لله U. طالما سيحفظ هذه الجوارح، فلابد أن يراقب الله في السرِّ والعلن، في الخلا والملا، أمام الناس وفي الخلوة في غَيْبَةٍ عن الناس، يعلم علم اليقين أن الله يراقبه ويراه، ويطَّلع على سرِّه ونجواه، ويسمع وَجِيبَ قلبه، ويرى خطرات نفسه، ويطَّلع على كل ظاهره وباطنه، فيخش الله، }وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ{ (52النور)،}مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ{ (33ق).
فإذا مشى الإنسان على هذه الوتيرة وخشي الله؛ تجد القلب من نفسه يتوجه إلى الله، فيشتغل بذكر الله، ويكون دائماً حاضراً مع الله، ويكون خاشعاً أثناء الطاعات مع مولاه، ويكون دائماً خائفاً من البُعد عن حضرة الله، خائفاً من مَكْرِ الله، خائفاً من عذاب الله.
هذه يا أحباب الأوصاف التي ينبغي علينا إن أردنا أن نكون من الدرجة العليا في الجنة، مِن الذين تشتاق إليهم الجنة، ماذا نفعل؟ نجهز هذا الملف، فمن جهز هذا الملف فهنيئاً له، ويكون إن شاء الله – وهو هنا قبل أن يخرج للدار الآخرة، عندما تأتي لحظة الغرغرة – تجد الجنة أتت له تريه وتعرّفه منازله ونعيمه، ويرى ما جُهّزَ له في الجنة وهو هنا، فيخرج يوم القيامة وهو يعلم أين مسكنه، ويعرف العنوان، فلا يحتاج لأحد يسأله أو يوصله، لأنه عرَّفها لهم، }وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ { (6محمد). فهم عرفوها أثناء هذه اللحظة، لحظة خروج الروح.
رجل من الصالحين كان في سكرات الموت، ولكن معه عقله اليقظ، وعلامة الصالحين من فضل الله عليهم أن عقلهم يظلُّ ثابتاً حتى يخرجوا لله U. فلا يوجد أحد منهم يتوه أو يخرج منه ما لا يليق، فأخت هذا الرجل بجواره تبكي، فقال لها: ولم تبكين يا أختاه؟ وها أنا ذا أرى أبواب السماوات وقد فُتّحت، وأرى الجنَّات وقد زُيّنت – فقد استعدت له – وأسمع قائلاً يقول: لقد بَلَّغْنَاكَ الدرجة العليا في الجنة وإن لم تكن تردها.
نحن نعلم أنك لا تريد هذه الدرجة، وإنما تريد وجه الله، ولكن ها هي الدرجة، ها هي الفيلات والحور والجنات التي تملكها، فيرى كل ما جهزه الله له في الجنة وهو خارج من الدنيا، فيفرح بلقاء الله، فيفرح الله U بلقائه، فتأتي في الآخرة تتزين وتتجهز وتتحرك وتمشي، لأن الجنة ليست كمبانينا في الدنيا، وإنما في الآخرة تفهم وتعقل وتتحرك وتذهب وتأتي، بدون أن تتكلم، ولكن من أول أن يخطر على بالك أمر يتحقق ما تريده.
أنت في الجنة وتريد أن تأكل عنباً؛ فتجد شجرة العنب تحركت وأنزلت العنب في حجرك، من غير أن تتكلم أو تمسك بميكروفون أو تليفون أو أي شيء، فهي تعرف ما في نفسك، فتتعامل معك على ما في نفسك!! أنا أريد أن أذهب لفلان الذي كان صديقي أو رفيقي في الدنيا لأزوره – وهذا في نفسك – فتجد السرير يتحرك حتى يذهب لفيلا فلان، ويستأذن لك: أن أخاك فلان يريد زيارتك!!
وأنتم تعلمون ناقة رسول الله r – ولأنها كانت من الجنة – كانت كلَّما أراد أحدٌ أن يمسكها، يقول لهم رسول الله: (دعوها فإنها مأمورة)[9]، ليس لكم شأن بها، فتأتي عند بيت الكافر اليهودي وتسرع، وتأتي عند بيت المؤمن وتقف!! والمؤمنون منهم من كان قد جهَّز تمراً، ومنهم من كان قد جهَّز لبناً، ومنهم من كان قد جهَّز عسلاً، ومنهم من كان قد جهَّز فاكهة، فتأتي عند بيت المؤمن وتقف، وتأتي عند بيت الكافر اليهودي وتسرع، واستمرت في المشي حتى جاءت عند مكان معين ونخّت، أي: جلست، فكان هذا المكان مكان المسجد، مسجد رسول الله r!! هل أعطاها أحدٌ أمراً؟ بل معها خط سير باطني من ربِّ العالمين U.
هذه صورة أراها الله لنا لما سيحدث في الجنة، فستكون الجنة مثل ذلك، ساعة أن يذهب الرجل للموقف العظيم؛ تتحرك الحور، وتتحرك القصور، وتتحرك كل ألوان النعيم؛ لتستقبل هذا الرجل، والملائكة يزفُّونه زفَّةً عظيمة حتى يدخلون به إلى الجنان، وفي الجنة كل ما تريده؛ تجده بمجرد أن يخطر على البال، فلا يحتاج إلى طلب أو إلى سؤال، ولا لِمَ تأخرت يا فلان؟ ولِـمَ لَـمْ تأتِ بالطلب بسرعة يا فلان؟ بمجرد أن يخطر الطلب على البال؛ يجد ما يريده في الوقت والحال!! }لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ{ (35ق). وخذوا بالكم مِنْ دِقَّةِ كلام ربِّ العزَّة، لم يقل لهم ما يطلبون، وإنما قال: (لهم ما يشاءون)، أي الشيء الذي يخطر على البال، فلا يتركك حتى تطلب، ولكن لهم ما يشاءون.
نسأل الله U ، أن يدخلنا الجنة العالية، وأن يرزقنا هذه النعم الراقية، وأن يجعلنا من أهل هذه اللذة الباقية، وأن يوفقنا في الدنيا للعمل الموصل إلى أعلى درجات الجنان، وأن يجعلنا في الجنة في جوار النبيِّ العدنان، وأن يجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يجعلنا من الذين يخرجون من القبور إلى القصور، وأن يجعلنا من الذين يتمتعون بوجهه العظيم في هذا المقام الكريم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
****************
[1] جاء في الجامع الصغير وشرحه للحافظ المناوي رحمه الله: (آخر من يدخل الجنة رجل يُقال له جُهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين)، رواه الخطيب البغدادي في رواة مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه . والحديث بتمامه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال :تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول يا رب: ادنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، واشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يارب، ويعاهده أن لا يسأله غيرها، قال: وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من هذه أشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة له عند باب الجنة، وهي أحسن من الأوليين، فيقول: أي ربِّ أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟ قال: بلى، يا ربّ لا أسألك غيرها – وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه- فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة ، فيقول أي ربّ أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يارب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مِمَّ أضحك؟ قالوا مِمَّ تضحك؟ قال : هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا مما تضحك يا رسول الله؟ فقال: من ضحك ربِّ العالمين، حين قال: أتستهزئ بي وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر). وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] روى أبو نعيم عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ: (إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَى أَرْبَعَةٍ : إِلَى عَمَّارٍ وَعَلِيٍّ وَسَلْمَانَ وَالْمِقْدَادِ). وروى ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْتَاقَتِ الْجَنَّةُ إِلَى ثَلاثَةٍ: إِلَى عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَبِلالٍ).
[4] عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رآني في المنام فقد رآني –أي: حقا أو حقيقة أو يقظة –فإن الشيطان لا يتمثل بي).قال السيوطي في الجامع الصغير رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس. وروى أحمد والشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه بلفظ: (من رآني فقد رأى الحقَّ فإن الشيطان لا يتراءى بي).
[5] روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمْ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ. ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلامِ – فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَقَال: (هُمْ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
[6] أخرج البخاري في التاريخ الأوسط وبنحوه في التاريخ الكبير عن النبي
: (أمتي أمة مرحومة عذابها بأيديها)، وأخرج أبو داود عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن و الزلازل و القتل).
[7]أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أنس رضي الله عنه.