• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

11 أكتوبر 2020

صلاة الله على المؤمنين الأحزاب الآية 41-43

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

صلاة الله على المؤمنين

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ” (41-44الأحزاب).

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي منَّ علينا أجمعين بمعرفته سبحانه، وملأ قلوبنا بنور الإيمان، وأذاقنا بفضله وكرمه وجوده لذة ذكر الرحمن، ونسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا إلى أن نلقاه من عباده الذاكرين الفاكرين الشاكرين الحاضرين بين يدي حضرته في كل وقت وحين، المذكورين منه تبارك وتعالى في الملأ الأعلى في الدنيا وفي الموقف العظيم يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الذاكرين، وإمام الشاكرين، وخير الحامدين لرب العالمين، إذا توجه أهل الموقف إلى الأنبياء والمرسلين ليقوموا بإنقاذهم من أهوال الموقف، نسأل الله النجاة من أهواله أجمعين، وأولهم سيدنا آدم ويقول: لست لها، اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى سيدنا نوح فيقول: لست لها، ويحولهم إلى سيدنا إبراهيم، وسيدنا إبراهيم يحولهم إلى سيدنا موسى، وسيدنا موسى يحولهم إلى سيدنا عيسى، وسيدنا عيسى يقول لهم: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا }[1]

فهو سيد الحامدين في الدنيا والآخرة لرب العالمين تبارك وتعالى، صلى الله عليه وسلَّم وعلى آله وصحبه، وكل من مشى على هديه ونهجه، واجعلنا منهم ومعهم أجمعين بمنك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.

كل العبادات الإسلامية فيها خصيصة تشترك فيها في طاعة رب البرية، وهي ذكر الله، فقد أمر الله سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام بالصلاة، وبيَّن له الحكمة من ذلك فقال: ” وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ” (14طه) حتى تذكرني فيها، لأن الصلاة كلها ذكر لله، إن كان تلاوة قرآن، أو تسبيح في الركوع، أو تسبيح في السجود، أو دعاء، وكل ذلك ذكرٌ لله تبارك وتعالى.

وبيَّن الله لنا أمة الحبيب؛ أن الحكمة العُليا مع تنوع حِكَم الصلاة هي ذكر الله، لماذا أمرنا الله بالصلاة؟ أتى لنا بحِكَم: ” إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ” (45العنكبوت) والحكمة الأعلى: ” وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ” (45العنكبوت).

وهذه فيها ما فيها من المعاني الإلهية التي يُلهم بها القلوب التقية النقية، إما أن تقول: مع أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، إلا أن ذكر الله أكثر في الإنهاء عن الفحشاء والمنكر من الصلاة، لماذا؟ لأن الصلاة على آماد وأوقات متباعدة، لكن الذاكر لله على الدوام يستحي أن يعصى مولاه وهو يعلم أنه يطلع عليه ويراه.

ذكر الله لب العبادات

فما الأكثر في الإنهاء عن المعاصي؟ المداومة على ذكر الله تبارك وتعالى، وهذا معنى، ومعاني القرآن لا يعارض بعضها بعضاً، فلو أعجبك معنى لا مانع، ولكن لا تُنكر غيره، لأن القرآن جامع مانع لكل المعاني الإلهية التي يريد الله تبارك وتعالى أن يوصلها لأحبابه من الأمة المحمدية.

وإما أن تقول أن ذكر الله في الصلاة هو العمل الأهم والمهم الذي من أجله فرض الله علينا الصلاة، لماذا؟ لأنه يُعرِّضنا لأن يذكرنا الله تبارك وتعالى: ” فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ” (152البقرة) يريدنا أن نذكره حتى يذكرنا، وماذا يساوي ذكرنا كلنا من أولنا لآخرنا مع ذكر الله تبارك وتعالى لنا؟! هذا لا يساوي هذا – حاشا لله سبحانه وتعالى – لو بقي أي عبد يتعبد لله ويذكر الله طوال عمره، وآتاه الله الصلاح والتُقى، وآتاه الله عمراً مديداً، وذكره الله مرة واحدة، فهي أكبر من عمل هذا العبد كله لله طوال هذه الحياة التي عاشها لله، لأنه من الذي يذكره؟ الله، فما بالك والله يذكره في ملأ خيرٌ من ملأه في عالم الطُهر، عالمٌ يقول فيهم خالقهم: ” لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ” (6التحريم).

إذاً ما عمدة الصلاة؟ ذكر الله، وكذلك الحج: ” فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا الله عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ” (198البقرة) وقال في أيام مِنى: ” وَاذْكُرُوا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ” (203البقرة) ” وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ” (28الحج) فأيام الحج وأيام منى أيام ذكر لله تبارك وتعالى.

وهذا الذكر ما مقداره؟ قال: ” فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ” (200البقرة) ذكر بقدر ما تجلسوا وتتباهوا بالآباء والأجداد والأولاد وأحوالكم:

وكذلك الصيام، الغاية منه كما قال الله: “وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ ” (185البقرة) الغاية من الصيام ذكر الله.

فالعبادات كلها الغاية العُليا والأرقى والأسمى منها هي ذكر الله تبارك وتعالى، ولذلك أمرنا الله بالذكر، وحضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم اختصر العبادة للضعفاء الذين لا يقدرون على قيام الليل، وصيام النهار، والأعمال التي لا تنتهي في طاعة الله عندما قال له رجل: إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَنْبِئْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، فَقَالَ:

{ لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ }[2]

اجعل لسانك لا يكف عن ذكر الله، ولا تجعله يكل أو يمل أو يصمت أو يغفل أو يسهو عن ذكر الله طرفة عين ولا أقل.

إذا مشى الإنسان على هذا الحال فياهناه، ولا نستطيع في هذه الجلسة ولا أضعاف أضعافها أن نصف على قدر علمنا بعض ما يأتيه من فضل مولاه تبارك وتعالى في عُلاه.

لأن الله يقول في شأنهم: ” وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ” (35الأحزاب) ماذا يريدون أكثر من ذلك؟! إذا كانوا خائفين من الذنوب، وخائفين من العيوب، فهذه المغفرة، وإذا كانوا يريدون العطايا، والمنح الإلهية الربانية، والمقامات الكبرى السامية في جوار خير البرية، فهذا هو الأجر العظيم، وكلمة عظيم هل يستطيع أحدٌ أن يُفسرها؟! وعظيم من العظيم سبحانه وتعالى، والعظيم يُعطي على قدر عظمته تبارك وتعالى.

من الذي يحسب أو يتصور أو يدرك الأجر العظيم من العظيم سبحانه وتعالى؟! يكفي أن تعلم أن الأجر العظيم من حضرة العظيم تبارك وتعالى، فتقف، لأن بعض الفضل العظيم الجنة، وليس كله، والجنة حضرة النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها:

{ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ }[3]

فلا تحاول أن تجتهد وتفكر وتقول الجنة فيها كذا وكذا، لأنك ستشبهها بكل الأشياء التي حولك في الدنيا، وسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو ترجمان القرآن، كان يقول: ((كل ما ذُكر عن وصف الجنة مما له مثيلٌ في الدنيا، فهو شبيهٌ له في الإسم فقط)).

الأشياء التي وصفها الله في الجنة على سبيل المثال: ” فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ” (15محمد) هل الأنهار التي هناك كالتي في الدنيا؟ لا، هي مثلها في الاسم فقط، هل الماء الذي هناك كالذي هنا؟ لا، وكذلك العسل وكذلك الخمر، لكن نعيم الجنة أعد الله لنا فيه مفاجآت سارة لنا أجمعين عند دخول الجنة، لكي نفرح بفضل الله وإكرام الله وعطاء الله تبارك وتعالى.

الذكر الكثير

فلذلك يقول لنا الله: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ” لو أعطاني القوي من قوته، وأمدني بحوله وطوله، ومكثتُ أذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وأطال الله عمري إلى ما شاء الله، فلن أكون أبداً قد ذكرتُ الله الذكر الكثير، لأنه إذا كان الملائكة، ومنهم الراكع أبداً من وقت ما خلقهم الله إلى يوم القيامة، ومنهم الواقف أبداً، ومنهم الساجد أبداً، ولن يقوم من السجدة إلا مع القيامة، وعندما تقوم القيامة يقول هؤلاء: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.

هؤلاء من قبل خلق الأرض وهم ساجدون بين يدي من يقول للشيء كن فيكون، ولا ينامون، ولا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتزوجون، ولا يموتون، وهم في هذه السجدة، ومع ذلك يقولون عند قيام الساعة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك!.

فهل أحدٌ منا يستطيع أن يعبد الله ويذكر الله حق ذكره؟ لا، حتى الأشياء التي حولنا: ” وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ” (44الإسراء) كل هذه الأشياء التي نراها تسبح الله، هذه الجدران تسبح الله، وهذا السلك يسبح الله، وهذه اللمبات تسبح الله .. كل شيء يسبح الله ونحن لا نسمع، فالذبذبات التي يتكلمون بها، واللغات التي أعطاها لهم الله، آذاننا لا تستطيع استيعابها، فلا نعرف ماذا يقولون، ولا نسمع ولا يصل إلينا هذا الكلام، لكنهم يسبحون الله تبارك وتعالى.

وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسمع أصحابه أصوات تسبيح الحصى في يده وفي يد أصحابه، حتى يعلموا أن الحصى كله يسبح الله، فعن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه قال:

 { إِنِّي لَشَاهِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَلْقَةٍ وَفِي يَدِهِ حَصَيَاتٌ فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، يَسْمَعُ تَسْبِيحَهُمْ مَنْ فِي الْحَلْقَةِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَسَبَّحْنَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ يَسْمَعُ تَسْبِيحَهُنَّ مَنْ فِي الْحَلْقَةِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عُمَرَ، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ يَسْمَعُ تَسْبِيحَهُنَّ مَنْ فِي الْحَلْقَةِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ إِلَى عُثْمَانَ فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُنَّ إِلَيْنَا فَلَمْ يُسَبِّحْنَ مَعَ أَحَدٍ مِنَّا }[4]

طبعاً هذه أسرار لا يعرفها إلا الأطهار والأخيار، لكن الشاهد أن كل شيء في الوجود يسبح الله سبحانه وتعالى.

وهذه الأشياء التي تسبح الله أيضاً ليس لها نوم ولا أكل ولا شرب، ولا مشاغل مثلنا، هل يوجد أحدٌ يلحق بها في التسبيح لله، وفي ذكر الله تبارك وتعالى في عُلاه؟! أبداً.

فالعبادة التي اختارها لنا الله تبارك وتعالى، والباب الذي فتحه الله لمن أراد أن يدخل هذا الرحاب، ويصير من جملة الأحباب للكريم الوهاب، وتُفاض عليه العطايا من عنده، عليه بالمداومة على ذكر الله تبارك وتعالى.

ولذلك قال لنا الله: ” اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا “ لماذا ذكراً كثيراً؟ يعني حاول أن لا تقصر وتغفل عن الذكر أو تسهو عن الذكر، وحاول دائماً أن تعمل بقول الله: ” يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ” (191آل عمران).

وأنت في الطريق قادم أو ذاهب لأي مكان، فلم لا ترطب لسانك بذكر الله؟! وماذا يمنعك أو يجمدك أو يسكتك؟! وحتى لو دخلتم الجنة وصرتم في منازل عالية، عندما تروا هذه المنازل وتراجعوا ملف أعمالكم، تندمون على اللحظات التي مرت عليكم دون ذكر الله، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى شَيْءٍ إِلا سَاعَةً مَرَّتْ بِهِمْ، لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا }[5]

يندم على الوقت الذي ضيعه في غير ذكر الله، والذكر ماذا يكلفني؟! هل يحتاج إلى مجهود جسماني؟! هل يحتاج إلى أي تعب بدني؟! هل أحس معه بعناء؟! أبداً.

فلو كان الإنسان في عمل شاق وذكر الله، فإن الله يُسهل له العمل وينتهي منه سريعاً بفضل ذكر الله تبارك وتعالى، ولذلك حتى حضرة النبي عندما كان يعمل مع أصحابه كان يعلمهم أن ييسروا العمل بذكر الله عز وجل، فعند بناء الخندق قال لهم:

{ اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ، فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا، عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا }[6]

وعند بناء مسجده الشريف، كان يعمل معهم، وهم يرددون ويقولون:

لئن قعدنا والنبي يعمل

فذاك منا العمل المضلل

وهذا الكلام رأيناه إلى عصر قريب من أهلنا الذين كانوا يعملون في الأعمال الشاقة، كانوا يسهلون العمل على أنفسهم بشيء من ذكر الله.

فذكر الله عز وجل هو الذي يُهون الصعاب، ويُسهل الشدائد، لذلك المؤمن دائماً لا يغفل عن ذكر مولاه طرفة عين ولا أقل.

أنواع ذكر الله

والتسبيح ذكر، والحمد ذكر، والتكبير ذكر، وسبحان الله وبحمده ذكر، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ذكر، وتلاوة القرآن أكبر الذكر، ومجالس العلم سماها الله ذكر: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله ” (9الجمعة) لم يقل: اسعوا إلى الصلاة، لأنهم يصلون الجمعة ركعتين والظهر أربعة، ولكن اسعوا إلى ذكر الله وهي الخطبة العظيمة والدرس البليغ الذي تسمعونه من رسول الله، أو ممن ينوب عن حضرته، فالعلم هنا ذكر لله، وأمرنا الله بأن نسعى إلى ذكره وإلى طلب العلم.

فالسعي إلى العلم، ومجالس العلم، وكل أعمال البر والخير ما دامت سبقتها نية صالحة فهي ذكر لله تبارك وتعالى.

التسبيح صباحاًومساءاً

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا “ نذكر الله عز وجل ونخص من بين الأذكار التسبيح، يعني التنزيه لله سبحانه وتعالى ساعة البكور، وهي ساعة صلاة الفجر، وفي ساعة الأصال، يعني المغرب والعشاء، أو العصر والمغرب والعشاء على اختلاف التأويلات والتفسيرات.

نخص هذين الوقتين بتنزيه الله سبحانه وتعالى، ولم هذين الوقتين؟ الكلام العام يقول هذين وقتين مباركين، وهذه حقيقة، فهي أوقات فيها إجابة الدعاء وتحقيق الرجاء.

البركة في البكور

لكن الله يريد أن يهمس في آذاننا بأشياء أُخرى، فنظام المؤمن الذي وضعه نبينا، وليس لنا شأن بنظام المؤمن في عصرنا:

{ اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا }[7]

يُصلي الفجر ويذهب للعمل، وهكذا كان آباؤنا من قبل، يصلون الفجر ويذهبون للغيطان، وكان معهم الخير والبركة، أين البركة الآن؟! ومن أين تأتي؟!.

فالمزارع الآن قد يذهب إلى حقله بعد العاشرة صباحاً، لأنه يسهر طوال الليل، وقد يكون السهر ليس في طاعة الله.

فكان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم بالبكور، يُصلُّون ثم يذهبون إلى العمل على الفور، وعندما يجد رجلاً ينام حتى شروق الشمس، كان يقول:

{ ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ }[8]

هذا الرجل أخذ اليوم حاجة من الشيطان خمدته وجمدته وهمدته، وسيظل في طوال يومه خبيث النفس كسلان.

وعندما دقَّ النبي صلى الله عليه وسلم الباب على ابنته فاطمة رضي الله عنها وزوجها الإمام علي ليوقظهما لصلاة الفجر، وذهب ليصلي، وكان صلى الله عليه وسلَّم رفيق ورقيق وذو ذوق عليّ، فلا يظل يدق على الباب حتى يفزع الناس من الداخل، لا، بل هي دقات خفيفة والله عز وجل يتولى إيقاظ القلوب بحكمته تبارك وتعالى.

حتى أنه أوصانا أنك عندما توقظ نائماً، لا تصيح فيه، وتقول له: قم يا فلان بصوت عال، لكن إذا أيقظت إنسان فتقول أولاً: (لا إله إلا الله) ثلاث مرات بصوت عال، ثم تهزه حتى يستيقظ، ولو مات يكون قد مات على الفطرة القويمة، لكن العنف ليس عند رسول الله أبداً، وإنما بالرحمة واللين: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ” (159آل عمران).

وبعد أن صلى ورجع وجدها نائمة فقال لها:

{ يَا بُنَيَّةَ قُومِي اشْهَدِي رِزْقَ رَبِّكَ، وَلَا تَكُونِي مِنَ الْغَافِلِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُقَسِّمُ أَرْزَاقَ النَّاسِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ }[9]

هذه ساعة توزيع الأرزاق للمؤمنين، الأرزاق التي فيها المدد والبركة من رب العالمين، متى توزع هذه الأرزاق؟ في الساعة التي تشبه الجنة، هل الجنة كالليل أم كالنهار؟ قيل الجنة كوقت الصبح قبل شروق الشمس، وهذه الساعة توزع فيها الأرزاق، ومعها البركة، ومعها الدعم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:

{ اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا }[10]

فكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حريص على أنهم يمشون على هذا المنهاج، فيا ليتنا نتوب من هذا الذي نحن فيه، ونرجع إلى هذا المنهاج مرة أخرى، حتى تأتينا البركة من الله.

ولا حياة لنا ولا مخرج لنا مما نحن فيه إلا إذا جاءتنا بركة الله تبارك وتعالى: ” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ” (96الأعراف) لم يقُل فتحنا عليهم خيرات، لأن الخيرات كما هي، ولكن عندما تنزل البركات فإن الذي كان يكفي الأولاد يوماً سيكفيهم أسبوع، والذي كان يكفيهم أسبوع سيكفيهم شهر، ولا تقول كيف؟! لأن هذا منهج إلهي، والأمثلة عليه كانت موجودة وحاصلة، وهناك نماذج مشهودة وتعيش في عصرنا أيضاً بالبركة النازلة عليها من فضل الله، حتى تكون لله الحجة البالغة، وهذا المنهج إلى يوم الدين.

حقيقة التنزيه

وعندما أخرج في الصباح للعمل أعلم علم اليقين أن الله تبارك وتعالى إن لم يمدني بقوته وحوله وطوله وعزيمة من عنده وإرادة من لدنه، فلن أستطيع أن أحصل على قليل ولا كثير، وهذه حقيقة التنزيه لأهل التنزيه، يعني لا ينسبون لأنفسهم قوة ولا حولاً ولا طولاً ولا علماً ولا شيئاً أبداً، وإنما ينسبون الأشياء لله سبحانه وتعالى.

ولذلك ما عبادتهم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهذه حقيقة التنزيه لله، وهذا بالطبع لا يتنافي أن سبحان الله كلمة تنزيه، وإنما حقيقة التنزيه أنك تنسب كل الفضل والخير الذي أنت فيه لله، فكلما سألك أحد تقول له: هذا من فضل ربي، هذا من عطاء ربي، هذا من معونة ربي، هذا مما أمدني به ربي، وهذا الاعتراض هو الذي يريده الله عز وجل منا جماعة المؤمنين، فالمؤمن دائماً ينسب كل خير وكل بر وكل فضلٍ لله: ” مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله ” (79النساء) حتى هذا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

وإذا تحدث مع من حوله، وقالوا له: أنت اليوم الحمد لله عملت كذا وكذا وكذا، يقول: هذا بعون الله، وهذا بتوفيق الله، وهذا بفضل الله، وكما قال الله: ” قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ” (73آل عمران) الفضل كله بيد الله سبحانه وتعالى، ولو تخلى عنا طرفة عين أو أقل من الذي يستطيع أن يقف في الصلاة ويُذكِّر نفسه بقراءة الفاتحة؟! لا أحد، لأنه إذا سحب حرارة الخط الذي بينك وبينه، فلن تتذكر شيئاً.

أحد المشايخ الكبار الجهابذة خطب خطبة عصماء، والمسجد كله كان معجب بألفاظه الرنانة، وتعابيره العظيمة، والمعاني العالية التي سمعوها منه، فأخذه في نفسه العُجب بالنفس، يعني فرح بنفسه، ثم نزل يصلي بالناس، ونوى الصلاة، ثم حاول قراءة الفاتحة فلم يتذكرها، وهل يوجد من لا يحفظ الفاتحة؟! لا، كلنا نحفظها ولكن بتوفيق الله، ولو سلب هذا التوفيق فمن أين تأتي؟! فأخذ الذين من خلفه يذكرونه بها، وهو لا يتذكر شيئاً، ما الذي حدث؟!! حتى نعرف أن:

وإذ العناية لاحظتك عيونها

نم فالمخاوف كلهن أمان

إياك أن تنسى العناية لحظة وتعتقد أنك شيء، أو معك شيء، أو تملك شيء، أو رأسك عامر بشيء، لأن كل هذه الأشياء في يد من يقول للشيء كن فيكون.

فنزِّه الله سبحانه وتعالى، واجعل كل حولك وطولك وآمالك وأعمالك بفضل الله، وبتوفيق الله سبحانه وتعالى.

صلاة الله على المؤمنين

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ” أتانا الله بهذه الآية حتى ننتبه، لأنه لما نزلت آية: ” إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ” (56الأحزاب) إذا كان الله يُصلي على حضرة النبي صلى لله عليه وسلم، فهل يحتاج إلى صلاتنا عليه؟ لا، بل نحن الذين في حاجة إليها، حتى لا يمن عليه أحد ويقول: أنا أُصلي على الرسول خمسين ألف مرة، فهذا لنفسك: ” مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ ” (46فصلت) لكنه غير محتاج فقد أغناه ربه، ولم يقُل: إن الله صلى على النبي، ولكن (يُصلي) بصيغة المضارع المستمر.

فالذي يصلي عليه الله هل يحتاج لصلاتنا؟! لا، حتى تعرف أنك تصلي لنفسك أنت، ليشفع لك، وليستغفر لك، وليدخلك معه في جواره في الجنة، ويجعلك في الدنيا والآخرة من الموفقين.

كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ذو همة عالية، فعندما نزل قول الله: ” إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ” (56الأحزاب) قال: يا رسول الله ما أعطاك الله تعالى من خير إلا أشركنا فيه، فنزلت الآية: ” هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ “

وكيف يُصلي علينا؟ السادة العلماء الأجلاء قالوا: صلاة الله علينا هي رحمة الله بنا، ونحن لا نستطيع أن نفارق رحمة الله في الدنيا ولا في الآخرة طرفة عين ولا أقل، فنحن نحتاج أن يرحمنا في الدنيا ويحفظنا من الذنوب، ونحتاج أن يرحمنا إذا وقعنا في الذنوب أن يوفقنا لنتوب، وهل أحدٌ منا يستطيع أن يتوب إلا إذا فتح الباب علام الغيوب؟!.

رجل يقول للسيدة رابعة العدوية: هل لو تبت يتوب الله عليَّ؟ قالت: لا، بل لو تاب الله عليك لتبت: ” ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ” (118التوبة) من الذي يتوب أولاً؟ الله سبحانه وتعالى، نريد أن يرحمنا في الدنيا ويحبنا لنحبه، الحب أولاً هل منا أم منه؟ ” يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ” (45المائدة) الحب من الله أولاً، حتى يوفقنا بعد ذلك لحبه تبارك وتعالى، وهكذا في كل شئوننا.

النعمة التي يستهين بها الكثيرٌ منا وهي عظيمة، أننا نحتاج في الدنيا إلى ستر الله وغطاء الله، من منا يستطيع أن يستغني عن ستر الله؟! من منا يستطيع أن يتحمل أن يكشف الله غطاء ستره عنه؟! لا أحد، لأنه سيُفضح بين الناس، لذلك كلنا نعيش في ستر الله سبحانه وتعالى، ونطمع في ستره في الدار الآخرة.

ونريد يوم القيامة أن ندخل الجنة بغير حساب، ونكون من جملة: ” إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ” (101الأنبياء) مبعدون عن النار وما حولها، حتى صوتها لن نسمعه، مع أن صوتها كما ورد يُسمع من على مسيرة خمسمائة عام: ” لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ” (102الأنبياء) الناس في الغم والهم والكرب العظيم، وهؤلاء:” لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ” (103الأنبياء) الملائكة تهنئهم، فيفرحوا بفضل الله وإكرام الله ورحمة الله تبارك وتعالى.

فصلاة الله علينا رحمته التي رحمنا بها في الدنيا والآخرة، ولو تخلى الله عنا برحمته طرفة عين ما استطعنا أن نعيش لحظة لأنها ستكون في أشد ألم الضيق والبين والبعد عن الله تبارك وتعالى.

صلاة الملائكة على المؤمنين

وصلاة الملائكة علينا كيف تكون؟ الملائكة مقربين ونحن مذنبون، فجعل الله الملائكة الذين يحملون العرش يعملون عندنا، وماذا يفعلون؟ منهم من يستغفر لنا، ومنهم من يدعوا لنا، حتى لا ننشغل بالاستغفار من الذنوب، وإنما ننشغل بالكلية بحضرة علام الغيوب تبارك وتعالى: ” وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ” (17الحاقة) لا تقول ثماني ملائكة، ولا تقول ثماني محموعات، ولا تقول ثماني فرق، لأن أمر الله غيبٌ ما دام لم يتحدث فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

هؤلاء الذين يحملون العرش ماذا يفعلون؟ ” الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا ” (7غافر) لماذا يستغفرون؟ الرجل الصالح قال: الله لا يريد أن يشغلكم حتى بالتوبة، لأنه يريد أن يشغلكم بحضرة ذاته، لأنك لو انشغلت بالتوبة ستظل تستغفر وتندم، وقد ينشغل بذلك عن القرب من القريب تبارك وتعالى، وهو يريد أن تفر إلى القريب فوراً، فجاء لك بمن يستغفر لك.

وماذا أيضاً؟ يدعون لنا، وانظروا إلى دعاء الملائكة لنا: ” رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ” (7-8غافر) يدعون لنا بأن ندخل الجنة، ولا يرضى أحدنا أن يدخل الجنة وحده، بل يريد أن يكون معه أبوه وأمه وزوجته وأولاده وإخوته، لذلك يدعون للذرية أيضاً إلى يوم القيامة حتى تطمئن عليهم.

من الذي يدعوا لنا هذا الدعاء؟ حملة العرش، وهؤلاء من أعلى أنواع الملائكة المقربين عند رب العالمين تبارك وتعالى.

فالملائكة يستغفرون لنا، ويدعون لنا، وهذا معنى صلاة الملائكة علينا.

الظلمات والنور

صلاة الله علينا ورحمته، واستغفار الملائكة ودعاؤهم لحضرة الله، ماذا يفعل؟ ” لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ “ بسر هذا الدعاء، وبسر هذه الرحمة، يُبغض الإنسان في المعاصي ويخرجها إلى نور الطاعة والإيمان، والظلمات كثيرة، كظلمة الغفلة، وظلمة البعد عن الله، وظلمة الذنوب .. ظلمات كثيرة، ولكن النور نورٌ واحد، وهو نور القرب من القريب، وكله بسبب نور الإيمان بالله، واتباع النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.

رحمة الله بالمؤمنين

” وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ” أكشف لكم عن سر بيَّنه أهل التفسير، فكلمة (كان) في اللغة تكون فعل ماض، لكن كلمة (كان) في القرآن إذا ذُكرت مع لفظ الجلالة يكون معناها كان ولا يزال.

” وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا “ هل انتهت هذه الرحمة؟ لا، بل كان ولا يزال بالمؤمنين رحيماً.

ولذلك حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم في إحدى الغزوات أراد أن يضرب لهم مثلاً ونموذجاً يبين قدر حرص الله وشفقة الله وعطف الله وحنان الله علينا جماعة المؤمنين، لعلنا نرعوي فنترك الذنوب ليس خوفاً، ولكن حياءاً من الله تبارك وتعالى.

امرأة من المشركين تاه طفلها الصغير في المعركة، فأخذت تبحث عنه كالمجنونة، إلى أن وجدته، فألقت بنفسها عليه وحملته، واحتضنته وأمسكت عليه بقوة حتى لا يأخذه أحدٌ منها، فقال لهم حضرة النبي:

{ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ، قالوا: لَا، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا }[11]

ولذلك من رحمته بنا تبارك وتعالى أنه لن يفضحنا يوم القيامة، من الذي سيحاسب يوم القيامة من الأمة المحمدية على الملأ وتكون له فضيحة؟ الذي فضح نفسه في الدنيا ولم يتب، كالذي يجلس مع الناس ويقول: أنا فعلت كذا وكذا ويتباهى بالمعاصي، وهذا لو ندم وتاب فإن التوبة تجبُّ ما قبلها، لكن لو فعل ذلك ولم يتب فإنه يكون كما قال حضرة النبي صلى الله عليه وسلم

{ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ }[12]

الذي يجاهر بالذنب، فأنت سترك الله، فلِمَ تفضح نفسك؟! أفلا تجعل نفسك في ستر الله، وتسأله أن يتوب عليك وتسأله أن يديم ستره عليك؟!.

أما بقية الأمة – ونسأل الله أن نكون منهم – يخرجون من القبور إلى القصور، فلا يرون موقفاً، ولا صراطاً، ولا ميزان، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَنْبَتَ اللَّه تَعَالَى لِطَائِفَةٍ مِنْ أُمَّتِي أَجْنِحَةً فَيَطِيرُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَى الجِنَانِ يَسْرَحُونَ فِيها وَيَتَنَعَمُونَ فِيها كَيْفَ شَاؤُوا، فَتَقُولُ لَهُمُ المَلائِكَةَ: هَلْ رَأَيْتُمُ الحِسَابَ؟ فَيَقُولُون: ما رَأَيْنَا حِسَاباً، فَتَقُولُ لَهُمْ: هَلْ جُزْتُمُ الصِّرَاطَ؟ فَيَقُولُونَ: ما رَأَيْنَا صِرَاطاً، فَتَقُولُ لَهُمْ: هَلْ رَأَيْتُمْ جَهَنَّمَ؟ فَيَقُولُونَ: ما رَأَيْنَا، فَتَقُولُ المَلائِكَة: مِنْ أُمَّةِ مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فَتَقُولُ: نَاشَدْنَاكُمْ اللَّهَ حَدِّثُونا ما كَانَتْ أَعْمَالُكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُونَ: خَصْلَتَانِ كَانَتَا فِينا فَبَلَغْنَا هذِهِ المَنْزِلَةَ بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَيَقُولُونَ: وَما هُمَا؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا إذا خَلَوْنَا نَسْتَحِي أَنْ نَعْصِيه، وَنَرْضَى بِاليَسِيرِ مِمَّا قُسِمَ لَنَا، فَتَقُولَ المَلائِكَةُ: يَحِقُّ لَكُمْ هذا }[13]

هاتين الخصلتين نحن في حاجة لهما ليُصلح الله مجتمعنا الآن، وهما الخوف من الله، والرضا بالرزق الذي قدَّره لنا الله تبارك وتعالى.

وهناك جماعة لن تأخذهم الملائكة للجنة، بل إن الجنة هي التي تتحرك وتذهب عندهم بالحور والقصور وتستقبلهم على القبور: ” وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ” (31ق) وأزلفت يعني قُربت، وهؤلاء الجنة تهواهم وتحبهم ومشتاقة إليهم، قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ اشْتَاقَتِ الْجَنَّةُ إِلَى أَرْبَعَةٍ: عَلِيٍّ، وَالْمِقْدَادِ، وَعَمَّارٍ، وَسَلْمَانَ }[14]

وهؤلاء الأربعة موجود أشباههم وأمثالهم في كل زمان ومكان، ولم تنته الحكاية على ذلك.

ومن الأُمة بعد ذلك من يحاسب، والذي يُحاسب من أمة النبي سيكون حسابه يسيراً، كيف يكون الحساب اليسير؟ قال صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ }[15]

وهذه الجزئية التي يُذكِّرنا ربنا بها في القرآن، فالدعوة الغالية التي كان سيدنا إبراهيم يدعو بها لنفسه فقط، وليس معه أولاده ولا أمته: ” وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ” (87الشعراء) الخزي يعني الفضيحة، والفضيحة تأتي عندما يُحاسب الإنسان أمام الكل، والكل يراه.

لكن الله  لأنه يحبنا قال: ” يَوْمَ لا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ ” (8التحريم) ليس هو وحده فقط، ولكن كلنا معه، وليس الذين آمنوا به في زمانه، بل كل من آمن به إلى يوم القيامة، وعدنا ربنا في هذا النص المقدس بأنه عز وجل لن يفضحنا ما دمنا لم نكشف ستر الله عنا ونتباهى بالمعاصي وفعلها أمام الآخرين، فيوم القيامة إن شاء الله نكون في ستر الله تبارك وتعالى: ” وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا “. وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه

[2] جامع الترمذي والحاكم عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه

[3] صحيح مسلم ومسند أحمد عن سهل بن سعد رضي الله عنه

[4] دلائل النبوة لأبي نعيم ومعجم الطبراني عن أبي ذر رضي الله عنه

[5] معجم الطبراني والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه

[6] البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه

[7] سنن الترمذي وأبي داود عن صخر الغامدي رضي الله عنه

[8] البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

[9] شعب الإيمان للبيهقي عن فاطمة رضي الله عنها

[10] سنن الترمذي وأبي داود عن صخر الغامدي رضي الله عنه

[11] البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

[12] البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

[13] أخرجه الحافظ العراقي في الإحياء عن ابن حبان وأبو عبد الرحمن السلمي عن أنس رضي الله عنه

[14] حلية الأولياء لأبي نعيم، والطبراني عن أنس رضي الله عنه

[15] البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما

 درس بعد صلاة العشاء  المنيا – مغاغة – ميانة        4 من صفر 1442هـ 11/10/2020م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid