• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

29 أبريل 2001

علامات الصالحين

إقرأ الموضوع

شارك الموضوع لمن تحب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الذى فتح منا القلوب، وأودع فيها من نور الغيوب، نور الإيمان ونور الحبيب المحبوب. صلى الله وسلم على ألف البداية، وياء النهاية، وسرّ الولاية، وكنز العناية, وباب الرعاية، سيدنا محمد، وآله وصحبه، والمنتسبين لسره ونوره، إلى يوم الدين، وعلينا معهم، بمنك وجودك يا أرحم الراحمين. (أما بعد)

فيا إخوانى ويا أحبابي: بارك الله عز وجل فيكم أجمعين

بادئ ذى بدء، هذا اللقاء – الذى جمعنا فيه بأمره وبتقديره رب العزة عز وجل – كان ترياقاًً لنفسى، وشفاءاً لسقم قلبى. فقد علَّمنا سادتنا العلماء، وأساتذتنا من الصالحين الأجلاء، أن الإنسان منا إذا انتابته مشاغل الدنيا، وصار فى أوديتها، وتواردت عليه المشاكل، وشغل قلبه المشاكل، فعليه فوراً أن يبحث نفر من عباد الله المؤمنين المتقين – مثلكم –  يجتمع بهم، ويجلس معهم فى رحاب الله، فيدخل فى قول الله عز وجل :{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ما لهم يا رب؟ فى الآخرة سيدخلهم الجنات، لكن فى الدنيا يهون عليهم أمورها، ويسهل لهم كل ما يشغل ويقلق بالهم، ويهون عليهم السفر إلى الله سبحانه. بأى شىء؟ { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } (9- العنكبوت).

يرزقهم بإخوة صالحين يجالسونهم ويؤانسونهم فيفرج الله الكرب، ويشرح الله الصدر، وييسر الله الأمر. ربما بسرِّ رجل لا تلقى له بالاً، مغمور بيننا، لا يظهر حاله، ولا يبين مقاله، وإنما يكون داخلاً فى قول المصطفى صلوات ربى وسلامه عليه: (رب أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره)، عندما يقول يا رب، يلبيه فى الحال. وربما الناس لا تعرفه، لأنه يتوارى عن الخلق، ويبتعد عن الشهرة، ولأنه لا يرجو الظهور، لكن الله عمر قلبه بالنور، وجعل له جاهاً ومنزلة عنده. إذا سأله لباه، وإذا دعاه أجابه وأعطاه لأنه من الرجال الذين اختصهم الله عز وجل برحمته.

هذا – يا إخوانى- السبيل والطريق الذى علمه لنا أهل التحقيق. وهذا نجده فى كتاب الله فى قول الله عز وجل: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا } (2- الطلاق). ما المخرج الذى يجعله له ربه؟ رجل صالح وإن كان غير معروف يسأل له وفيه الله، فيلبيه الله عز وجل. يقول الإمام على رضى الله عنه وكرَّم الله وجهه وقد سألوه: كم ما بين السماء والأرض؟ فقال رضى الله عنه وكرم الله وجهه: (دعوة صالحة) ما بين السماء والأرض تقطعها فى لمح البصر: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (59- غافر). ندعوه ويستجيب لنا فى كم من الدقائق؟ أو كم من الثوانى؟ فى الحال. إذا دعا فى الحال يستجيب الله عز وجل لنا.

لما تعاظم الناس فى أنفسهم، وظن كل منهم أنه على خير، وأن عنده كنوز البر ومفاتيح الإجابة، وأن سهام الدعاء الخاصة به تحقق الإصابة، وتهيأ لكل منا أنه قد استغنى عن غيره، وليس فى حاجة إلى أحد، معه الكتاب ومعه السنة، ومعه الطاعة ومعه البضاعة، وإذا قال يا رب يستجيب له. ماذا حدث؟ هو ما نحن فيه الآن!! لكن المؤمنين كما قال ربنا عز وجل: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } (71- التوبة)،  يوالى بعضهم بعضاً. وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله بألسنة لم تعصوا الله عز وجل بها). قالوا: كيف لنا بهذه الألسنة؟ قال: ( ادعوا الله بألسنة إخوانكم). إذا دعا لك أخوك فهو لم يعص الله عز وجل بالنسبة لك، فتكون دعوته لك مستجابة، ولذلك قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يرد)، مستجاب على الفور.

والحبيب صلى الله عليه وسلم مع أن الله لا يؤخر له طلباً، ولا يرد له دعاءً كان إذا خرج للغزو يمر أولاً على المسجد. وكان مسجده الشريف يعمره باستمرار حوالى تسعون رجلاً، جاءوا من أقاصى الجزيرة العربية طلباً لله ورسوله، وسكنوا فى المسجد، ليس لهم بيوت ولا زوجات ولا أولاد، ولكن منقطعين لله ورسوله، فكان قبل خروجه للغزوات يمر على أهل المسجد، وكانوا اسمهم أهل الصفة، لأن مسجد رسول الله فى البداية لم يكن له سقف، وإنما جدران فقط يصلون فيه، فى الحر فى البرد، فى الشمس فى المطر كذلك، وعندما جاء أهل الصفة جعلوا لهم عريشاً يستترون فيه من الشمس والحر، ومن البرد. هذا العريش سموه الصفة، وهؤلاء الأفراد سموهم “أهل الصفة”، وعين لهم النبى صلى الله عليه وسلم رئيساً لهم وهو سيدنا أبو هريرة رضى الله عنه، وقال له: (أنت عريف أهل الصفة) يعنى إذا احتاجهم يقول: يا أبا هريرة، اجمع لى أهل الصفة. فكان إذا خرج صلى الله عليه وسلم للغزو يمر عليهم ويقول:(لا تنسونا من دعائكم يا إخوتى، فإنما ينصرنا الله عز وجل بدعائكم).

نحن ذاهبون إلى الحرب، ونطلب منكم الدعاء. يعلم أصحابه الأكابر أنهم فى أمس الحاجة إلى من هو دونهم، لماذا؟ ربما رجل منهم له منزلة، وله سر عند الله لا يعلمه إلا مولاه، إذا سأل الله لباه الله عز وجل وأعطاه، وربما رجل مثلى يرى فى نفسه أنه عالم واغتر بإقبال الناس عليه، وبفتح الله عز وجل عليه، يتكلم حتى الفجر، والفتح موجود، فحصل له شئ من الغرور أو شئ من الزهو، أو شئ من الإعجاب بنفسه، فى هذا الحال يسد عنه باب الإجابة حتى يعود إلى عتبة العبودية، ويرى الأمور كلها من الله وبالله وإلى الله. واضح هذا الكلام – يا إخوانى؟ من الذى يجيبه الله فى الحال – يا إخوانى؟

من يرى فى نفسه أنه مسكين، وليس له عند الله شئ، ولا منزلة ولا جاه، ولا حول ولا طول. فيرى فى نفسه أنه أمام الله فقير ومسكين وذليل، إن لم يتداركه الله عز وجل بإجابته، ويغنيه بفضله من فاقته، ويعلمه ليخرجه من جهالته، فهو شرُّ الخلق إن لم يتداركه الحق عز وجل بمواهبه ونصرته. هذا هو الذى يستجيب له ربه. لكن ما دام يرى فى نفسه أنه شئ، فإن الله علىٌّ وقال: ( الكبرياء ردائى، والعظمة إزارى – ومن يلبس شيئا من هذه؟ – فمن نازعنى فيهما قصمت ظهره ولا أبالى)

وقد يكون من هو مستقيم، وموالى الله بالطاعات، ويملأ المساجد والبلاد بالعلوم والتوجيهات، والنصائح والإرشادات، ويدعو الله فلا يستجيب له، لأن الله لا يستجيب إلا لمن تحقق بذل العبودية لحضرته العلية.

أهل بدر ربنا عز وجل عرفهم هذا السر- وهم كانوا أجلة الصحابة الكرام – وهم فى غزوة بدر كانوا حوالى ثلاثمائة وثلاثة عشر على حسب الروايات أو ثلاثمائة وإحدى عشر على بعض الروايات الأخرى – والكفار كانوا حوالى تسعمائة وخمسين – وليس معهم إلا فرسان، وليس معهم سلاح كافى، ماذا قالوا؟ قالوا: يا رب، وتضرعوا بذل العبودية، وأظهروا الفاقة والحاجة لحضرة الربوبية، فقال لهم: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ  } (123- آل عمران). أذلة لمن؟ ليس لأحد من الناس وإنما لرب الناس عز وجل، لأن المؤمن عزيز على الناس ولكنه ذليل لإخوانه المؤمنين { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } (53 – المائدة).

لا يتعاظم على إخوانه المؤمنين، لا يتعاظم على مؤمن مهما كان قدره ومكانته، والنبى جاء لأعلى مؤمن فى المقامات وقال له: (يا أبا بكر لا تحقرن من المسلمين أحداً، فإن صغير المسلمين عند الله عظيم). إياك أن تصغر أحداً من هؤلاء القوم، فربما من تصغره أنت، يكون هو المقبول عنده سبحانه عز وجل . فإياك أن تصغر أحداً لمنظره، لأن الله يفضله لمخبره ولجوهره وليس لمظهره. وإذا كان الأمر بالمظهر لفاز به الأغنياء لأنهم يلبسون الملابس العظيمة والعمم الفاخرة، لكن هل الله يفضل بهذا؟ أبداً، فقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذى طمرين يلبس ملابس عليها رقع، لا يؤبه له لا ينظر إليه أحد لو أقسم على الله لأبره)، يعنى لو قال: يا رب أفعل كذا، لابد أن يلبى طلبه، لأن الله وعدهم بذلك.

وعندما جاء أصحاب النبى وزادوا وكانوا عشرة آلاف ومعهم السلاح والعتاد والخيول، ويحاربون جماعة أقل منهم حوالى خمسة أو ستة آلاف – يعنى أقل منهم – وقالوا: لن نهزم اليوم من قلة – لا يستطيع أحد أن يقدر علينا اليوم، وأعجبوا بأنفسهم، وهم يمشون بين جبلين، فانهالوا عليهم بالسهام، فولوا مدبرين خائفين، فقال الله: { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } (25- التوبة).

هذا ما قاله الله، هرولتم خائفين. فعرفنا ربنا أن الذى يريد الإجابة عليه أن يتحقق بالمقام الأول الذى تحقق به النبى والصحابة، وإذا تعثرت عليه الأمور يبحث عن إخوانه المسلمين، واذكر فى الزمن الفاضل كان المسلمون إذا حصل واستعصى على أحد منهم أمر، كان يذهب إلى الصبيان فى الكتاتيب – لأن قلوبهم صافية، ونفوسهم زاكية – ويقول لهم: يا أولادى ادعوا لى، أو ادعوا لعمكم فلان، فيستجيب الله فى الحال. من أين جاءوا بهذا الكلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليَهِمُّ بأهل الأرض عذاباً، فينظر إلى صبيان المسلمين فى المكاتب يتعلمون القرآن، فيرفع العذاب عنهم)، وفى الحديث الآخر: (إن الله ليَهِمُّ بأهل الأرض عذاباً، فينظر إلى عمار المساجد – يعمروها بطاعة الله وبذكر الله وليس بأحاديث الدنيا- وفى رواية: إلى أوتاد المساجد، فيرفع العذاب عنهم).

فإن كل مؤمن يحتاج إلى كل مؤمن، وكلنا محتاجين لكل مؤمن فى الدنيا، وساعة الموت، ويوم أن نلقى الله عز وجل . فى الدنيا محتاجين للمؤمنين حتى يسهل الله لنا قضاء الحاجات، وعندما يدعوا جماعة المؤمنين فإن الله يستجيب لنا بألسنتهم. وعندما يكون الإنسان فى النزع الأخير، إذا اشتدت عليه سكرات الموت، يحتاج إلى دعوات المؤمنين من حوله حتى يسهل الله عليه النزع. وإذا مات يحتاج للمؤمنين ليصلوا عليه ويدعوا الله له، فببركة دعائهم يغفر الله له ويدخله إلى أحسن مآل، ويوم القيامة يحتاج المؤمنين حتى يشفعوا له عند الله، من أجلنا يا رب أدخل فلاناً الجنة. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (استكثروا من الإخوان فإن لكل أخ شفاعة يوم القيامة).

وهذا غير ما ذكرناه آنفاً، فإن الإنسان كلما يضيق صدره، ويزيد همه، ويتعاظم كربه، ماذا يفعل؟ بسرعة يذهب لأخ من الإخوان الصادقين، فإن الله تعالى يجعل له مخرجاً. وقد قال الإمام أبو العزائم رضى الله عنه: (لقاء الإخوان يذهب الأحزان). فعند لقاء الإخوان كل جبال الهم، وكل صخور الشدات تزول وتتبدد ببركة الإخوان، ولو كانوا من العوام، لأن العبرة بينها لنا الله عز وجل فى الآيات التى سمعناها اليوم قبل الدرس.

سيدنا موسى عليه السلام كان بين بنى إسرائيل، فسأله أحدهم: من أعلم الناس يا نبى الله؟ فقال: أنا، فعاتبه الله – لأن المفروض أن يقول: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } (76 – يوسف). فقال له: لا، فإن علم الله لا يحيط به أحد من عباد الله غير فرد واحد فى الكون كله من بدايته إلى أخراه، وهو المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك قال له الله: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (114-طه)، وكما قال الرجل الصالح:

ألا قل لمن يدعى علمـــاً          حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

فقال له ربه: إن هناك رجلاً من أمتك – وهو نبيه، وهو لا يعرفه – ومن أتباعك، ولديه علم أنت لا تعرفه. هذا أمر غريب، من أمته، ومن أتباعه، وهو لا يدرى به، ولا يعلم العلم الذى خصه به مولاه عز وجل !! فقال موسى عليه السلام: أين هو يا رب؟ قال: اذهب إلى مجمع البحرين – وهو فى أصح الروايات عند التقاء فرع دمياط بالبحر الأبيض المتوسط، وهو التقاء الماء العذب بالماء المالح، وللآن موجود هناك فى دمياط لا يختلط الماء العذب بالمالح، بينهما برزخ لا يبغيان.

فقال له: تجد هذا الرجل عند مجمع البحرين. أين كان سيدنا موسى فى هذا الوقت؟ كان فى جنوب مصر، فى بلدة تبع الجيزة. قال لفتاه سيدنا يوشع بن نون: قم بنا، { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } (60- الكهف).

 فقال له: قم بنا يا بنى إلى مجمع البحرين، إما أن نبلغ مجمع البحرين أو نمشى ثمانين سنة – لا نكل ولا نمل – حتى نبلغ مجمع البحرين لنلقى هذا الرجل. نبى الله يريد أن يمشى ثمانين سنة حتى يلتقى بالرجل الصالح الذى أشار إليه الله عز وجل!!

ما العلامات يا رب؟ قال له: عندما تتعب، وطالما لم تشعر بالتعب فإنك لم تبلغ هذا الرجل بعد، أما عندما تحس بالتعب والجوع فقد وجدت الرجل الصالح. والعلامة الثانية: السمكة. وعندما جاعوا قال له: أين السمكة؟ وهى سمكة مشوية وضعوها فى مكتل – وهو المقطف – عندما يجوعوا يأكلوها. وسارا مشياً حتى وصلا إلى مجمع البحرين (دمياط).

وسيدنا الخضر u _ وسمى خضراً لأن كل موضع مسته قدمه كان يخضر فى الحال، وليس اسمه الخضر، ولكن له اسم آخر، اسمه بليا بن ملكان، وإنما سمى الخضر لأنه كلما وضع قدمه على أرض اخضرت فى الحال – فسيدنا الخضر لما وصلا إلى مكانه كان نائماً بجوار صخرة فانتظراه فناما، فلما قام من نومه توضأ، ومن ماء وضوئه تناثرت قطرات على السمكة فأحياها الله وسارت فى اليم بأمر الله عز وجل ، وسيدنا يوشع بن نون لم يلق بالاً ولم بنتبه.

فعندما حلَّ بهم التعب قال له موسى: أين الغداء؟ قال يوشع: { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } (63 – الكهف). قال له: نعود مرة أخرى، فعادوا فوجدوا سيدنا الخضر u فى انتظارهم فى نفس المكان – أعلمه بهما الله عز وجل – فقال كما سمعنا:{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (66- الكهف). أتأذن لى أن أمشى معك لأتعلم مما علمت رشداً؟ من الذى يعلم الآخر؟ النبى أم الولى!! … لكنها حكمة الله حتى يعلمنا أن فوق كل ذى علم عليم: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } (76 – يوسف).

أيضاً اللطيف الخبير، والوهاب الحكيم العليم، اختص كل فرد من عباده بما لا يتفضل به على غيره من العبيد، ليعلمنا وسعة الحميد المجيد عز وجل وسعة لا نهاية لها. فسيدنا الخضر لم يقل له: إلا إنك لا تستطيع ولا تقدر: { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (67- الكهف)، قال له: كيف لا أستطيع ذلك؟ قال له الخضر: نعم، { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} (68-الكهف)، علوم لا تعرفها، ولم تصل إليها، فكيف تصبر عليها؟ حتى نعلم مدى وسعة فضل الله.

وإذا كان ربنا سبحانه وتعالى قد فعل ذلك مع الولى للنبى، فهل يصح – فى زماننا هذا – أن نقول على أحد، هذا ولى ولم يصل إليه أحد فى مقامات الولاية؟ أبداً، من جاء بهذا الكلام؟!! مثلاً علومه لم نسمع مثلها، لكن هناك أعلى وأرقى وأحسن، لأن فضل الله واسع، ولأنه لا حدَّ لفضل الله عز وجل . وإذا قالوا: هذا وصل إلى كذا وكذا، فإن فضل الله واسع ولا يحدُّ أبداً بحدود.

فلما رأى سيدنا موسى عليه السلام بهت!! قال له: يا موسى أنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت – ويأتى تأييد الله للصالحين، ليضرب له من الكون مثلاً، وهو يتكلم معه نزلت عصفورة تشرب من النيل الماء العذب – وما علمى وعلمك فى علم الله إلا كما أخذ العضفور من هذا اليم. فأنا وأنت والأولين والآخرين، إلى أن تنتهى الدنيا، علومنا كلها لا تمثل قطرة من علوم العليم عز وجل: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء} (255- البقرة).

من الذى يستطيع أن يحيط بذرة من علم الله؟ وما بالك بعلم الله؟ أو أسرار الله؟ أو أنوار الله، وغيوب الله، وكمال الله؟ وما لا حدَّ له من صفات الله، وجمالات الله، وكمالات الله؟ إن هذا يا إخوانى – نسميها الوسعة المطلقة، وسعة لا نهائية. فكيف يكون لواحد مثلى قرأ كتابين، أو فتح الله له باباً من علم الإلهام، يقول أنا عندى ما لم يكن عند السابقين ولا اللاحقين؟ ومن حوله يقولون إنه كذا وكذا؟ ليس هذا فى دين الله عز وجل ، لأن دين الله عز وجل كما علمنا ربنا: (أن العلم كله فى العالم كله) وكل عبد اختصه الله بشئ على قدره.

سألوا سيدى أبو العباس المرسى رضى الله عنه وقالوا له: ما العلوم التى اختص بها الله عز وجل شيخ الشيوخ، الشيخ أبو مدين؟ وسموه شيخ الشيوخ لأنه لم يمت إلا وقد ربى ألف شيخ كلهم من أهل الكشف والكرامات، فسموه شيخ الشيوخ، وكان فى البداية رجلا من العوام يرعى الغنم، وتوفى أبوه وتركه صغيراً، وإخوته جعلوه يعمل مع الأغنام، وحَسَّ فجأة بالحنين إلى كتاب الله، فترك الغنم وذهب إلى الكتَّاب ليسمع كلام الله عز وجل ، وبعدها هداه الله إلى رجل من الصالحين، ففتح الله عليه ببركة هذا الرجل الصالح، إلى أن صار فى العلم والكشف لا يبارى.

فقالوا لسيدى أبو العباس المرسى: ما العلوم التى اختص الله بها الشيخ أبو مدين؟ قال: اختص الله الشيخ أ بو مدين بإحدى وسبعين علماًً، خصوصية له لم يعطها لأحد، قالوا: فالشيخ أبو الحسن؟ قال: زاد عليه بعشر علوم، خمس أرضية وخمس سماوية.

فعلوم العارفين ليس لها نهاية ولا حد، ولكن الله عز وجل يبين لنا دائماً وأبداً، أن ما أعطاه لأحد لم يعطه للآخر، حتى نكون جميعا محتاجين لبعضنا. فمن كان معه علوم الشريعة يكون فى حاجة إلى من معه علوم الحقيقة، ومن معه علوم الحقيقة يحتاج إلى عالم الشريعة، وإذا عرف الاثنان هذا الأمر يكون ذلك تمتم الأمر.

سيدنا الإمام الشافعى رضى الله عنه – على سبيل المثال – والإمام أحمد بن حنبل – على سبيل المثال – كانا إذا عجزا عن شئ يذهبون إلى رجل يرعى الغنم – اسمه شيبان الراعى – يسألاه فيها – وهو راعى لا يقرأ ولا يكتب – ويجيبهم، فيتعجبا، فيقول الإمام الشافعى رضى الله عنه: إن الله علمه علماً لا نجده عندنا!!

فلما تعجب – فى البداية – الإمام أحمد بن حنبل، قال له الشافعى: جهز الأسئلة التى عندك وهيا بنا، وبالفعل أعد الأسئلة وذهبا، فقال له: ما حكم من يسهو فى الصلاة؟ فقال له: عندنا أم عندكم؟ هل هناك عندنا وعندكم؟ قال: نعم، عندكم فى الشريعة يجبرها بسجدتى السهو، لكن عندنا فى علم الحقيقة من سها لحظة عن سيده ومولاه فى الصلاة قطعت رقبته، كيف يسهو فى الصلاة عن الله سبحانه؟!!

قال: كم نصاب الزكاة فى الإبل؟ قال: عندنا أم عندكم؟ قال:عندنا؟، قال: فى كل أربعين إبلٍ شاة، وجاء له بالرواية. قال له: وعندكم؟ قال له: العبد وما ملكت يداه لسيده ومولاه. قال له: هات الدليل. قال: أبو بكر الصديق، جاء بماله كله، فقال له صلى الله عليه وسلم: وماذا تركت لأهلك وعيالك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، فأقره على ذلك ولم يقل له شيئاً، وهذا هو الدليل الشرعى.

 فقال الإمام أحمد للإمام الشافعى: (لقد رزق هذا الراعى علماً خصَّه به الله لا نجده فى كتب العلم التى اطلعنا عليها!!)، عِلْمٌ يقول فيه الحق عز وجل: { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (65-الكهف).

وعندما يأتى رجل من أهل الشريعة وينكر على أهل الحقيقة، فهذا ينكر رُوحَ الدين، ويأتى رجل من أهل الحقيقة يستهزئ بالشريعة فذلك يكون مستهزئاً بأمر الله الذى يجب علينا أن نظهر به جميعاً، لأنه أَمْرُ الله، وشرع الله، وسنة حبيب الله ومصطفاه. وعلمنا الدين أن صاحب الشريعة ينشد الحقيقة ويطلبها من أهل الحقيقة، وصاحب الحقيقة يتفقه فى الشريعة من أهل الشريعة، فالكل يحتاج للكل، لأن هذه سنة الله التى أوجد عليها هذه الأمة المجتباة، وكان على ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان سيدنا عمر – مع أن الوحى كان ينزل على رأيه – يرجع فى الفتوى إلى الإمام على رضى الله عنه، ويطلب للإمامة أبى بن كعب، لأن النبى اختصه بعلم القراءة والتجويد، ويحول مسائل المواريث إلى سعيد بن زيد، حتى علوم الشريعة لم تكن عند واحد فقط ولكن هذا عنده علم المواريث، وآخر عنده علم القراءات، وآخر معه السيرة والمغازى، وآخر معه الفقه، وآخر التفسير.

من الذى يستطيع أن يحيط بهذه العلوم جميعها وكلها؟ ليس هناك أحد فى الأولين ولا فى الآخرين. حَوَّلَ رضى الله عنه كل علم – وهو يستطيع أن يقول – إلى واحد من الصحابة، حتى يعلم المؤمنين أن أصحاب النبى الأمين، كل فرد منهم حصل على قدره، ما يسع ماعون قلبه، من النبى الأمين، ومن كرم رب العالمين، ومن الفضل الذى اختصه به الله عز وجل .

هذا هو أمر المؤمنين – يا إخوانى – فى كل زمان ومكان، فالعالم يحتاج إلى الجاهل ليعلمه، وإذا لم يجد العالم أناساً يتعلمون فمن يعلمه العالم إذن؟!! والجاهل يحتاج إلى العالم ليسأله، والعالم يحتاج إلى من عنده علم ليس معه ليستكمل به علمه، والقارئ يحتاج إلى من يفسر له القرآن، والمفسر يحتاج إلى من يسمعه بنغمات طيبة تؤثر فى نفسه كلمات القرآن: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض } (71- التوبة).

والذى يخرج عن هذا النهج ويظن أنه لا حاجة له إلى أحد فهذا الذى قالوا فيه: (من ظن أنه علم فقد جهل).

وهذا سيدنا سليمان عليه السلام الذى قال: { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } (16- النمل) ، وعلَّمه الله الحكمة وفصل الخطاب، إلا أنه جعله يحتاج لمن معه، ليس للإنس والجن فقط، إنما جعله يحتاج للطيور. فعندما كان يسير بجيوشه، من الذى كان يعرفهم مواضع الماء فى الصحراء؟ هناك طائر جعل الله له عدسات فى عينه ينظر بها فى طبقات الأرض ليست معنا نحن، إنه الهدهد، يرى الدودة فى تربة الأرض، كيف يراها؟ تكوين العين التى جعلها له الله – ونحن ليس معنا هذه الخاصية – جعل فيها خاصية يعلم بها المياه فى التربة وهو فى أفق السماء.

ولذلك كان الهدهد يطير أمام الجيش ليخبرهم بأماكن المياه فى باطن الأرض. فلما غاب عنهم سأل عنه سيدنا سليمان: أين الهدهد؟ لقد غبت علينا ونريد أن ننزل بالمكان، فقال لسيدنا سليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ عرفت ما لم تعرفهوَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (22– النمل) وجئت إليك بالنبأ اليقين. الهدهد يقول ذلك لسيدنا سليمان – u – أنا عرفت ما لم تعرفه، حتى يعلمنا الله: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } (76- يوسف).

فالمؤمن – يا إخوانى – يعلم أنه فى أمس الحاجة إلى جميع إخوانه، كما أننى محتاج إلى كل من فى البيت. إذا كان إبنى الصغير محتاج إلى لأننى أنفق عليه، فأنا محتاج إليه فى قضاء الطلبات، ومحتاج إليه أكثر بعد ذلك عند الكبر.

الناس للناس من بدو وحاضرة          بعضهم لبعض وإن لم يشعروا خدم

ِهذا ما علمنا إياه أولياء الله الصالحين، وجئنا إليكم لتدعوا الله لنا. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا دائماً وأبداً الإقبال عليه، وأن يوفقنا دائماٍ للعمل الصالح المرفوع لديه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته, وأن يجعلنا من الذين إذا أحسنوا فرحوا واستبشروا وإذا أساءوا استغفروا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

********************

 

قنا- مسجد البدارة – بعد صلاة العشاء                                               29 أبريل 2001

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid