Sermon Details
المجلس الثالث
علم المبدأ والميعاد
المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم
علم البداية،
خلافة الله
تحقيق الخلافة
المجلس الثالث: علم المبدأ والميعاد[1]
بسم الله الرحمن الرحيم –
الحمد لله الذي أحسن أدب حبيبه ومصطفاه، وجمَّله بالأدب الجمِّ والجمال الأتمّ الذي يحبه الله من أهل كمالات الله، وجعله في كماله وبهائه وخُلُقه إماماً يقتدي به كل من أراد أن يكون محبوباً لربه فائزاً بحبِّه وقربه عزوجل. وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ وباركْ صلاة من قلوبنا وأرواحنا إلى حبيبك ذي المقام العالي، والذي آثرته بسرك الغالي، سيدنا محمد وآله وصحبه، واجعل لنا جميعاً نصيباً في إرثه وفتحه أجمعين.
المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم
الحبيب صلى الله عليه وسلم نِعْمَ المعلم ونعم المؤدب، ونعم المهذب ونعم المربى، ليتكم تطالعون سيرته في فصول التربية النبوية، وكيف كان يربِّى صحبه الكرام، وهم درجات ومنازل ومقامات؛ ولكنه كان يعطي لكل واحد منهم ما يناسبه بقسط معلوم، وبتقدير قدَّره له الحيُّ القيوم عزوجل، فما وجدنا واحداً من أصحابه الصادقين شرد ولا مرد ولا بعُد، ولا أصابه صدود، ولا أصيب بهجران؛ لأنهم كانت عزائمهم قوية!! وتربية النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت بعناية ربانية.
فكان صلى الله عليه وسلم كما وضح ذلك كتاب الله في آيات قرآن الله؛ جعل الله له مناهج للمبتدئين، ومناهج لإعداد النفوس وتهذيبها لكمالات ربِّ العالمين، ومناهج لسقي القلوب وإرواء الأرواح الواصلة من فيوضات وتجليات وعطاءات أكرم الأكرمين. ومع هذه هناك مناهج لمعالجة أهل المعاصي، وهناك مناهج لجذب التائبين إلى ربِّ العالمين، وهناك مناهج لكسر صدود أهل الصدود وتقريبهم إلى حضرة أكرم الأكرمين. مناهج متعددة نحن جميعاً تركناها ونعيش في بعض الأخبار الشكلية عن خير البرية صلى الله عليه وسلم.
الذي يريد الأخبار الحقيقية عن حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقرأ كتاب الله عزوجل، يجد فيه الوصف الأتمّ الأكمل للحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم. فكان صلى الله عليه وسلم يبدأ مع المبتدئين؛ وكانوا يقولون عن حضرته صلى الله عليه وسلم: كان يأتيه الرجل البدوي يبول على نفسه – أي لا يعرف آداب الاستنجاء، ولا آداب قضاء الحاجة – فيمكث عنده ثلاثة أيام فيخرج عالماً بالله تعالي!!! لم يقل يخرج عالما بأحكام كتاب الله، لأنها تحتاج إلى وقت طويل.
يوجد عالم بالأحكام، ويوجد عالم بالله، ويوجد عالم بأسماء الله وصفات الله، ويوجد عالم بذات الله جلَّ في علاه، علوم شتى!! وكل واحد من هؤلاء رجل من رجال الله عزوجل!!
العالِم بالأحكام هو الذي درس في الأزهر؛ دخل كلية الشريعة أو أصول الدين، وتوسَّع فأتى بالمراجع وذاكرها، وجلس مع الجماعة المفتين والمتفقهين وتعلم منهم، وهذا يأخذ سنوات طويلة لكي يكون عالماً بالأحكام!! لكن العالم بالله هو الذي عنده رهبة من جناب الله، وعنده خوف من الله، وعنده خشية من معصية الله، وعنده حياء أن يقع في المعصية، لأنه يعلم أن الله مطلع عليه ويراه، وعنده حب وود شديد لله، لما رأى من إنعام الله عزوجل عليه وعلى عباد الله. وهذا منهج آخر!! يأخذ محاضرات في علم الرهبوت، ومحاضرات في علم الجلال، ومحاضرات في علم الجمال، ومحاضرات في علم الكمال، ومحاضرات في الإحاطة ببعض أسرار نفسه وأسرار الكائنات، لكي يحبه الله عزوجل لما رأى من دقة صنعه وإبداعه عزوجل ومهارته التي تجاوزت الحد في كل آية من الآيات!! وهذا علم آخر وهناك علم آخر وهو علم الراسخين في العلم:
} وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُواْ الْأَلْبَابِ{ (7آل عمران)
فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المفيض والموصل والمربي لكل هؤلاء.
علم البداية
بداية البدايات والتي يتيقن بها المرء ولا يتركها نَفَساً حتى ولو وصل إلى نهاية النهايات!! فهيا ننظر لكتاب الله أنت من أين أتيت؟!! ولماذا وإلى أين أنت ذاهب؟!! لابد أن تعرف هذه المهمة: (115المؤمنون)
} أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{
أنت مخلوق لحكمة عالية لو عرفتها تفرُّ من الدنيا كلِّها إلى الله عزوجل. أنت من أين أتيت؟ أين كان أبوك الأول الذي خلقه الأول يا أحباب؟
من الجنة؛ } اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ { (35البقرة).
نحن بلدنا الجنة؛ أتينا لفترة وسوف نرجع مرة أخرى، مثل المسافر الذى ذهب إلى بلد عربية أو أجنبية؛ فيمكث فيها ما يمكث ثم يرجع مرة أخرى لبلده!! فبلدنا الأولى هي الجنة!! ولذلك قال حضرة النبي:
{كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ}[2]
فعليك أن تختار واحدة من هاتين الاثنتين؛ إما غريب مثل الذي يأتي إلى بلدنا فيمكث فيها يومين أو ثلاثة ثم يمشي، هل يفكر أن يبنى بيتاً؟!! – ولماذا؟!! وهل تكفي المدة أصلاً لبناء البيت؟!! فينزل في أي مكان جاهز – أو أن يشترى أرضاً أو عقارات أو عمارات؟!! ماذا يفعل بها؟!! لأنه راجع مرة أخرى، لكن أين يشترى؟ في بلده، فيجتهد ويحوِّل رصيده لبلده. ونحن نرى الأحباب – الذين يذهبون للدول العربية – فالواحد منهم – لا يفكر حتى أن يشتري شقة؛ ولو بحجرة واحدة!! حتى أن معظمهم لا يفكر في أخذ زوجته وعياله، فيقول: ولماذا آخذهم وهي بضعة أشهر؟!! فيتركهم هنا حتى يستطيع أن يجمع مبلغاً فيعود وينتفع به!! وحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: { كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ}
أنت في غربة فكن كالغريب |
فالمباني أواسط التحجيبِ |
الذي حجبك المباني التي شغلتك!! ما معك وما حولك، لكن لو عشت بالجمال الذي نزلت به؛ لا يوجد شيء يشغلك.
بدء وطني الفردوس ملكوت ربي |
بل وبدئي بدءاً جمال حبيبي |
بدايتنا كلنا أنه خلقنا أرواحاً نورانية، وواجهنا بجماله، وأهّلنا بما شاء وكيف شاء لرؤية جماله، وقال لنا: } أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا { (172الأعراف). ماذا قال؟ سمعنا؟! لا، بل قال: شهدنا!! شهدنا جمال الله، وكمال الله، وبهاء الله وأنوار الله!!
بدء وطني الفردوس ملكوت ربي |
بل وبدئي بدءاً جمال حبيبي |
أول ما رأت عينك الباطنية الروحانية؛ ماذا رأت؟! رأت جمال الله!! }قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا { (172الأعراف). أول ما سمع سمعك الباطني سمع من؟ كلام الله. هل نسيت كلام الله؟!! أأحد يسمع كلام الله وينساه؟!! أأحد يشهد جمال الله ويسلاه؟!! كيف؟!! أنت رأيت بعينك وليس أحد قال لك، أنت رأيت وبأذنك الروحانية سمعت!! ولذلك قال الأمام أبو العزائم رضى الله عنه:
من ألست لم ننس ما قد شهدنا |
من جمال الجميل إذ خاطبنا |
لم ننس أبداً – وهؤلاء هم أبناء الأصول – فالناس الذين لم ينسوا هذه المشاهد هم الذين يستحقون أن يكونوا أهل وصل وأهل ولاية، وأهل عناية وأهل رعاية. لكن الذين نسوا هل يستحقون هذه المقامات؟!!
من ألست لم ننس ما قد شهدنا |
من جمال الجميل إذ خاطبنا |
وقال الأمام أبو العزائم رضى الله عنه أيضا:
كيف أنساك يا جميل وقلبي |
عرش مجلي الأسماء نور المعني |
خلافة الله
أنت الذي اختارك للخلافة، وجملك بكل أسمائه وصفاته، والملائكة حسدتك عندما قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً{ ، فقالوا – نحن هنا موجودون:
} قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ {(30البقرة)
فهم كانوا يريدون الخلافة وليس أنت، ولكن ملك الملوك خصَّك بهذا الفضل العظيم } إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة {.
وربما يقول أحدهم: أن آدم هو الخليفة فقط. كيف يكون ذلك، والله تعالى يقول: } يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً{ (26ص)؟!!
وكل مَنْ على شاكلة داود فهو خليفة في الأرض، أليس القرآن يبين بعضه بعضاً يا أحباب؟ خليفة لماذا؟ لأن فيك أسماء الله!! السماء مع عظمتها أخذت اسماً واحداً وهو الرافع: } وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ { (7الرحمن)، الأرض مع ضخامتها وصلابتها وشدتها أخذت اسماً واحداً وهو اسم الباسط، الجبال شديدة الصلابة أخذت اسمين القوى والمتين. لكن أنت السميع البصير، الحي المتكلم العليم، المريد القادر، كل الأسماء الإلهية خصَّك بها ربُّ البرية عزوجل، قال صلى الله عليه وسلم:
{ خَلَقَ اللَّهُ عزوجل آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ .}[3]. يعني آدم وذريته كلهم.
وهذه هي الأمانة في أصح الأقوال، هي الأمانة التي رفضت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان، لم يقل (وحملناها الإنسان). لو قال؛ فلماذا سيعذب أو سينعم؟!! فأنت حملتها باختيارك وبإرادتك وبمحض عقلك، فأصبحت خليفة الله في الأرض!!
وما معني خليفة عن الله؟ يعني: أنت الذي ينبغي عليك أن تعمل في الأرض بالشرع الذي أنزله الله، نزل بالعدل؛ فيجب عليك أن تحكم بالعدل، نزل بالمساواة؛ ينبغي عليك أن تحقق المساواة، نزل بالشورى؛ ينبغي أن تطبق الشورى، كل ما جاء به الله في شرع الله أنت الذي تنفذه بالنيابة عن حضرة الله عزوجل؛ لأن الله لن ينـزل إلى الأرض- حاشا لله- لكي ينفذ هذا، بل وكَّلك أنت، هذا معنى الخلافة؛ أنت خليفة عن الله في إقامة الأرض بشرع الله لأن هذا به الحياة الطيبة، والحياة الهادئة، والحياة السعيدة لكل عباد الله.
إذا ابتعد الخلق عن شرع الله يعم العناء والبلاء والوباء، والمشاكل والخلافات، أهذا الذي يحدث أم لا؟!! لكن عندما وجدوا الذين طبقوا شرع الله؛ فأين المشاكل؟!! القاضي مكث سنة ينتظر قضية واحدة فلم توجد أي قضية عُرضت عليه!!
فأنت لماذا أتيت إلى هذه الدنيا؟!! لكي تحقق خلافة الله عزوجل في الأرض، وتعمر الأرض على وفق شرع الله، فلو تركت الشرع جانباً، وتركت الظالمين والفاسقين والضالين والمضلين يعمروا الأرض فما الذي يحدث؟! يحدث الفساد في كل مكان؛ لماذا؟ لأننا تركناهم يعمروا الأرض، لكن عندما كان الصالحون يعمرون الأرض، ونضرب لذلك مثالاً: في عهد سيدنا عمر بن عبدالعزيز كان يرعي الذئب مع الأغنام، فذات يوم كانت هناك امرأة بدوية ترعي الغنم؛ فأراد الذئب أن يأكل غنمة؛ فتساءلت: هل مات عمر بن عبدالعزيز؟!! فعرفت أن سيدنا عمر بن عبد العزيز قد توفى بهذا الحدث.
أنتم تريدون الماء، وتخافون من حجبه عنا، واسمعوا من أين يأتي الماء!! قال صلى الله عليه وسلم:
{ يَوْمٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عُبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ بِحَقِّهِ أَزْكَى فِيهَا مِنْ مَطَرٍ أَرْبَعِينَ عَامًا }[4].
تحقيق الخلافة
فأنت؛ من أين أتيت يا أخي؟!! من الجنة؛ بعدما رأيت جمال الله، وسمعت كلام الله، ورأيت بعد ذلك النعيم الذي جهزه لك الله؛ فأنزلك هنا، لماذا؟!! لكي تقوم بمسئولية الخلافة عن الله؛ تمشى في الأرض بشرع الله. ربما تقول: وماذا أصنع أنا، وأنا لستُ بملك أو وزير أو رئيس جمهورية؟!! أنا أريدك أن تعمل بشرع الله، إني أريدك أن تعمل بشرع الله في نفسك؛ في بيتك وأسرتك، مع جيرانك، مع زملائك في العمل، مع أحبابك، أنا لا أقول لك كن شيخَ بلد وطبق شرع الله، لا، بلدك أجعلها بيتك!! ابدأ أولاً أمش بشرع الله فيما كلفك به الله عزوجل، قال صلى الله عليه وسلم:
{ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ }[5]
فكل واحد حاكم على بيته؛ فتمشى بشرع الله على أهل بيته و إخوانه وأحبابه وجيرانه وأقاربه.
خلافة الله عزوجل يعني نطبق شرع الله بالعدالة والمساواة في إحقاق الحق، في منع الظلم، في قول الحق ولو كان مرّاً، في قول الحق ولو كان على نفسك. هذه هي الأشياء التي نحتاجها الآن لإقامة شريعة الله فيمنع الله عزوجل عنا البلاء، ويرفع عنا العناء، ويحوّل حالنا إلى خير ورخاء، وسخاء وهناء. هذا الذي نحن مطالبون به في هذا الزمان، وفي كل زمان.
فأنت لماذا أتيت؟!! لكي تحقق خلافة الله عزوجل. بعد ذلك تذكر الله، وهذا فرع من فروع خلافة الله عزوجل:
} وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ (56الذاريات)
هذا فرع من فروع الخلافة!! ويوجد فروع أخرى مثل:
} يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ (13الحجرات)
فرع التعارف ويوجد فروع أخرى مثل:
} هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا{ (61هود)
لابد أن نعمر الأرض. كيف نعمر الأرض؟ بموجب شرع الله، بالمبادئ التي أنزلها الله في كتاب الله، وبيَّنها حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، فترجع إلى الوطن الأول وأنت داخل في قول الله: (101الأنبياء)
} إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ{
ترجع للجمال مرة أخرى، ليس لك من مشاهد الجلال في الدنيا ولا في الآخرة؛ مشاهد الجلال في الدنيا؛ إن كان هماًّ أو غماًّ، أو مرضاً أو سقماً أو فقراً – يكفيه الله ويحميه من كل ذلك، ويجعل له مخرجاً في كل باب من أبواب ذلك:
} وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا { (2الطلاق)
وفي الآخرة لا حساب ولا عذاب ولا عقاب؛ تأتي الملائكة تهنّئه، والله عزوجل يخاطبه ويرقيه؛ الملائكة تقول له:
} لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ{ (103الأنبياء)،
والله يقول: } يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70){ (68: 70الزخرف).
وذريتك ما الذي يحدث لهم؟ سيلحقون بك!!
} وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ { (21 الطور)
سيلحقون بك لأنك مشيت بالعدل الذي قامت به السموات والأرض، ونفذت شرع الله على نفسك ثم على أهلك، ثم على كل من حولك.
هناك البعض عندما يسمع نفذت شرع الله يظن أنه يقيم الحدود ويقطع يد السارق، ويجلد الذي فعل كذا وكذا، ليس بهذا المعنى، ولكن أريدك أن تقيم العدالة، المساواة، إحقاق الحق، تمنع الظلم، هذه القيم الأصلية التي جاء بها خير البرية صلى الله عليه وسلم.
الله أرسل سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون، فكانت كل رسالته أن يمنع الظلم عن بني إسرائيل، منع عنهم ظلم فرعون؛ لكنهم ظلموا أنفسهم، وهذه الطامة الكبرى والمصيبة العظمى التي استوجبوا بها العقاب من الله عزوجل. عندما يعي الفرد هذه الأمور، ويعرف هذه الحقائق؛ يبدأ يسير على المنهاج القويم والصراط المستقيم، على هدي الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم.
وأكتفي بهذه القطرة من علم المبدأ والمعاد، لأن هذه أول العلوم التي يجب أن يتدارسها القوم لكي يسلكوا بعد ذلك في طريق الله عزوجل؛ علم المبدأ والمعاد، وهو البداية لأهل العناية .
نسأل الله عزوجل أن يجملنا بجماله، وأن يكملنا بأخلاق أهل كماله، وأن يذيق قلوبنا لذة وصاله، وأن يسقينا دائماً وأبداً من خمر حبيبه ومصطفاه، وأن يرفع عن قلوبنا كلَّ غمٍّ وغينٍ حتى نشهد وجه الله في قول الله:
} وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ{ (115البقرة)
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1] الحسينات – الأقصر 23 من محرم 1436هـ الموافق 15/11/2014م
[2] رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[3] رواه مسلم
[4] رواه البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير.
[5] صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
المجلس الثالث
علم المبدأ والميعاد
المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم
علم البداية،
خلافة الله
تحقيق الخلافة
المجلس الثالث: علم المبدأ والميعاد[1]
بسم الله الرحمن الرحيم –
الحمد لله الذي أحسن أدب حبيبه ومصطفاه، وجمَّله بالأدب الجمِّ والجمال الأتمّ الذي يحبه الله من أهل كمالات الله، وجعله في كماله وبهائه وخُلُقه إماماً يقتدي به كل من أراد أن يكون محبوباً لربه فائزاً بحبِّه وقربه عزوجل. وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ وباركْ صلاة من قلوبنا وأرواحنا إلى حبيبك ذي المقام العالي، والذي آثرته بسرك الغالي، سيدنا محمد وآله وصحبه، واجعل لنا جميعاً نصيباً في إرثه وفتحه أجمعين.
المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم
الحبيب صلى الله عليه وسلم نِعْمَ المعلم ونعم المؤدب، ونعم المهذب ونعم المربى، ليتكم تطالعون سيرته في فصول التربية النبوية، وكيف كان يربِّى صحبه الكرام، وهم درجات ومنازل ومقامات؛ ولكنه كان يعطي لكل واحد منهم ما يناسبه بقسط معلوم، وبتقدير قدَّره له الحيُّ القيوم عزوجل، فما وجدنا واحداً من أصحابه الصادقين شرد ولا مرد ولا بعُد، ولا أصابه صدود، ولا أصيب بهجران؛ لأنهم كانت عزائمهم قوية!! وتربية النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانت بعناية ربانية.
فكان صلى الله عليه وسلم كما وضح ذلك كتاب الله في آيات قرآن الله؛ جعل الله له مناهج للمبتدئين، ومناهج لإعداد النفوس وتهذيبها لكمالات ربِّ العالمين، ومناهج لسقي القلوب وإرواء الأرواح الواصلة من فيوضات وتجليات وعطاءات أكرم الأكرمين. ومع هذه هناك مناهج لمعالجة أهل المعاصي، وهناك مناهج لجذب التائبين إلى ربِّ العالمين، وهناك مناهج لكسر صدود أهل الصدود وتقريبهم إلى حضرة أكرم الأكرمين. مناهج متعددة نحن جميعاً تركناها ونعيش في بعض الأخبار الشكلية عن خير البرية صلى الله عليه وسلم.
الذي يريد الأخبار الحقيقية عن حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقرأ كتاب الله عزوجل، يجد فيه الوصف الأتمّ الأكمل للحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم. فكان صلى الله عليه وسلم يبدأ مع المبتدئين؛ وكانوا يقولون عن حضرته صلى الله عليه وسلم: كان يأتيه الرجل البدوي يبول على نفسه – أي لا يعرف آداب الاستنجاء، ولا آداب قضاء الحاجة – فيمكث عنده ثلاثة أيام فيخرج عالماً بالله تعالي!!! لم يقل يخرج عالما بأحكام كتاب الله، لأنها تحتاج إلى وقت طويل.
يوجد عالم بالأحكام، ويوجد عالم بالله، ويوجد عالم بأسماء الله وصفات الله، ويوجد عالم بذات الله جلَّ في علاه، علوم شتى!! وكل واحد من هؤلاء رجل من رجال الله عزوجل!!
العالِم بالأحكام هو الذي درس في الأزهر؛ دخل كلية الشريعة أو أصول الدين، وتوسَّع فأتى بالمراجع وذاكرها، وجلس مع الجماعة المفتين والمتفقهين وتعلم منهم، وهذا يأخذ سنوات طويلة لكي يكون عالماً بالأحكام!! لكن العالم بالله هو الذي عنده رهبة من جناب الله، وعنده خوف من الله، وعنده خشية من معصية الله، وعنده حياء أن يقع في المعصية، لأنه يعلم أن الله مطلع عليه ويراه، وعنده حب وود شديد لله، لما رأى من إنعام الله عزوجل عليه وعلى عباد الله. وهذا منهج آخر!! يأخذ محاضرات في علم الرهبوت، ومحاضرات في علم الجلال، ومحاضرات في علم الجمال، ومحاضرات في علم الكمال، ومحاضرات في الإحاطة ببعض أسرار نفسه وأسرار الكائنات، لكي يحبه الله عزوجل لما رأى من دقة صنعه وإبداعه عزوجل ومهارته التي تجاوزت الحد في كل آية من الآيات!! وهذا علم آخر وهناك علم آخر وهو علم الراسخين في العلم:
} وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُواْ الْأَلْبَابِ{ (7آل عمران)
فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المفيض والموصل والمربي لكل هؤلاء.
علم البداية
بداية البدايات والتي يتيقن بها المرء ولا يتركها نَفَساً حتى ولو وصل إلى نهاية النهايات!! فهيا ننظر لكتاب الله أنت من أين أتيت؟!! ولماذا وإلى أين أنت ذاهب؟!! لابد أن تعرف هذه المهمة: (115المؤمنون)
} أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ{
أنت مخلوق لحكمة عالية لو عرفتها تفرُّ من الدنيا كلِّها إلى الله عزوجل. أنت من أين أتيت؟ أين كان أبوك الأول الذي خلقه الأول يا أحباب؟
من الجنة؛ } اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ { (35البقرة).
نحن بلدنا الجنة؛ أتينا لفترة وسوف نرجع مرة أخرى، مثل المسافر الذى ذهب إلى بلد عربية أو أجنبية؛ فيمكث فيها ما يمكث ثم يرجع مرة أخرى لبلده!! فبلدنا الأولى هي الجنة!! ولذلك قال حضرة النبي:
{كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ}[2]
فعليك أن تختار واحدة من هاتين الاثنتين؛ إما غريب مثل الذي يأتي إلى بلدنا فيمكث فيها يومين أو ثلاثة ثم يمشي، هل يفكر أن يبنى بيتاً؟!! – ولماذا؟!! وهل تكفي المدة أصلاً لبناء البيت؟!! فينزل في أي مكان جاهز – أو أن يشترى أرضاً أو عقارات أو عمارات؟!! ماذا يفعل بها؟!! لأنه راجع مرة أخرى، لكن أين يشترى؟ في بلده، فيجتهد ويحوِّل رصيده لبلده. ونحن نرى الأحباب – الذين يذهبون للدول العربية – فالواحد منهم – لا يفكر حتى أن يشتري شقة؛ ولو بحجرة واحدة!! حتى أن معظمهم لا يفكر في أخذ زوجته وعياله، فيقول: ولماذا آخذهم وهي بضعة أشهر؟!! فيتركهم هنا حتى يستطيع أن يجمع مبلغاً فيعود وينتفع به!! وحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: { كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ}
أنت في غربة فكن كالغريب |
فالمباني أواسط التحجيبِ |
الذي حجبك المباني التي شغلتك!! ما معك وما حولك، لكن لو عشت بالجمال الذي نزلت به؛ لا يوجد شيء يشغلك.
بدء وطني الفردوس ملكوت ربي |
بل وبدئي بدءاً جمال حبيبي |
بدايتنا كلنا أنه خلقنا أرواحاً نورانية، وواجهنا بجماله، وأهّلنا بما شاء وكيف شاء لرؤية جماله، وقال لنا: } أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا { (172الأعراف). ماذا قال؟ سمعنا؟! لا، بل قال: شهدنا!! شهدنا جمال الله، وكمال الله، وبهاء الله وأنوار الله!!
بدء وطني الفردوس ملكوت ربي |
بل وبدئي بدءاً جمال حبيبي |
أول ما رأت عينك الباطنية الروحانية؛ ماذا رأت؟! رأت جمال الله!! }قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا { (172الأعراف). أول ما سمع سمعك الباطني سمع من؟ كلام الله. هل نسيت كلام الله؟!! أأحد يسمع كلام الله وينساه؟!! أأحد يشهد جمال الله ويسلاه؟!! كيف؟!! أنت رأيت بعينك وليس أحد قال لك، أنت رأيت وبأذنك الروحانية سمعت!! ولذلك قال الأمام أبو العزائم رضى الله عنه:
من ألست لم ننس ما قد شهدنا |
من جمال الجميل إذ خاطبنا |
لم ننس أبداً – وهؤلاء هم أبناء الأصول – فالناس الذين لم ينسوا هذه المشاهد هم الذين يستحقون أن يكونوا أهل وصل وأهل ولاية، وأهل عناية وأهل رعاية. لكن الذين نسوا هل يستحقون هذه المقامات؟!!
من ألست لم ننس ما قد شهدنا |
من جمال الجميل إذ خاطبنا |
وقال الأمام أبو العزائم رضى الله عنه أيضا:
كيف أنساك يا جميل وقلبي |
عرش مجلي الأسماء نور المعني |