الحمد لله الذي أكرمنا بحبيبه ومصطفاه، النبيِّ الأميّ الذي كرَّمه مولاه، واجتباه واصطفاه، وحباه وأدناه، وجعله خير رسل الله أجمعين، والشفيع الأعظم لجميع الخلائق يوم الدين. والصلاة والسلام على النبيِّ الأميِّ، الحرميِّ المكيِّ، المدنيِّ الزمزميّ، سيدنا محمد صاحب الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والحوض المورود، والنور المشهود، والخير الممدود من لدن حضرة المعبود إلى جميع الوجود. صلَّى الله عليه، وعلى آله الرُكَّع السجود، وأصحابه الذين أعانوه على إبلاغ رسالة الله وآزروه ونصروه، وكل من تبعهم بهذا الهُدى إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين بِمَنِّك وفضلك وجودك يا أكرم الأكرمين.
أيها الأحبة: ذكر الله عزَّ وجلَّ اليهود ونبيَّهم سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، ذُكِرا كثيراً في كتاب الله عزَّ وجلَّ، حتى نتبيَّن سوء أخلاقهم وفساد طباعهم، فلا نقع فيما وقعوا فيه فينزل علينا سخطه وعذابه كما نزل عليهم، لأن اليهود قومٌ بُهت، رأوا من آيات الله البينات ما لم يره أحدٌ مثلهم قبلهم، ومع ذلك كانوا لا يزدادون إلا جحوداً وعناداً وتكذيباً لرسل الله ولدين الله عزَّ وجلَّ.
كانوا في مصر؛ وكان فرعون مصر يتخذهم في الأعمال التي فيها ذِلَّةً لهم، وعبودية لهم، إلى أن جاءهم سيدنا موسى وأرسله الله ليُحررهم من هذا الرِّق ومن هذه العبودية. ولما نصر الله عزَّ وجلَّ موسى على فرعون وقومه في يوم الزينة، وآمن السحرة – الذين جمعهم فرعون – بربِّ العالمين في الوقت والحين، رغم تحذير فرعون لهم بأشد العذاب، لكنهم آمنوا بالله لما أشرق في قلوبهم من نور الله جلَّ في علاه. صمَّم فرعون على الخلاص من قوم موسى واليهود أجمعين – وهم دخلوا مصر مع أبيهم يعقوب لأخيهم يوسف، وكانوا اثني عشر رجلاً، وتناكحوا وتناسلوا حتى أصبحوا إثني عشر قبيلة، وكل قبيلة خمسين ألفاً، زاد عددهم في آنات معدودات تكريماً من الله عزَّ وجلَّ لهم.
وجهَّز فرعون جيوشه ليقضي عليهم، جاء الأمر من الله عزَّ وجلَّ لموسى أن يخرج ببني إسرائيل، وأن يقطع الصحراء الشرقية حتى يصل إلى خليج السويس، ويمر إلى سيناء ويذهب إلى أرض فلسطين أرض الأجداد والآباء. نظروا خلفهم فوجدوا القوم كادوا يلحقونهم، وكان جيش فرعون جيشاً جراراً، (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (61، 62الأحزاب).
وهذا أول شيء ننتبه إليه، ربُّنا مع مَنْ؟، معه هو وحده، لأنه يعرفهم!!. غير الرجل الذي كان مع حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم وقال له: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فماذا قال له؟، (لا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا) (40التوبة). هل هذه المنزلة كتلك المنزلة؟!!، هذا الرجل مع حبيب الله ومصطفاه، لكن هؤلاء القوم كانوا منفصلين بالكلية عن رُسل الله وأنبياء الله.
ذهبوا إلى ساحل البحر الأحمر، وكان فرعون يتقدم جُنده وهو على فرسه وأوشك على اللحاق بهم، فأوحى الله إلى موسىى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ) (63الشعراء) – وماذا تفعل العصا بالبحر؟!! لكنها معجزة الله عزَّ وجلَّ التي أيَّد الله بها موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمُّ السلام – ضرب البحر بعصاه فانشق فيه إثنا عشر طريقاً، بين كل طريق وطريق تجمدَّت المياه، وكيف كان ذلك؟ المياه تجمدَّت، وسلَّط الله عزَّ وجلَّ الشمس بالحرارة الشديدة فجففَّت الطين الذي في قاع البحر حتى أصبح يبساً يستطيع أن يمشي عليه الإنسان.
هذه المعجزات التي رأوها: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) (77طه)، (يَبَسًا): يعني ناشفاً جافاً، وليست وحلة يوحلوا فيها، مع أن قاع البحر عبارة عن وحل، فكل عائلة مشت من طريق، وقالوا: يا موسى لا نرى بعضنا ونريد أن نطمئن على بعضنا، فضرب بعصاه البحر ففُتحت نوافذ في جدران الثلج التي بينهم فأصبحوا يرون بعضهم، ويتحادثون فيما بينهم، يتحدثون مع من هنا ومع هناك، وغيره وغيره، وهذه آيات الله عزَّ وجلَّ.
وبمجرد خروجهم من البحر – وقيَّض الله عزَّ وجلَّ لأنه يريد إهلاك فرعون وقومه أن ينزل البحر، وفرعون كان عالماً وفليسوفاً وحكيماً، لكن قال النبي الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم: (إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، سلب من ذوي العقول عقولهم، ثم ردَّها عليهم) . بعد أن ينفذ القضاء، يقول: أين كان عقلي؟!!، وأين كانت بصيرتي؟!!. إرادة من يقول للشيء كن فيكون نافذة على كل من في الأكوان، لأنه وحده هو الفعَّال لما يريد – فنزل فرعون مع أنه يعرف أن هذا شيئاً غير عادي، ونزل خلفه قومه، ومع آخر واحد خرج من البحر من بني إسرائيل كان آخر واحد نازل في البحر من المصريين من أتباع فرعون.
وضرب موسى البحر بعصاه فغرقوا كلهم أجمعون، ولم ينجُ منهم إلا جسد فرعون لأن الله قال فيه: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً) (92يونس). حتى تكون آية لمن بعدك، وهذه الآية – سبحان الله – عرفناها وتحققنا منها في عصرنا الذي نحن فيه الآن!!.
في السبعينيات: فرعون موسى متحنِّط وموجود في المتحف المصري، فبدأوا يلاحظوا بعض التغيرات، فقالوا، نرسله لفرنسا لنعالجه، فالدكتور الذي أشرف عليه أسلم!!، ولماذا أسلم؟!!، وهو يفحصه قال لهم: هذا الرجل جسمه مملوء ملحاً، وملحاً لبحر، فمن أين أتاه، وكان هو فرعون فعرفوه وقالوا: إنه فرعون موسى الذي قال فيه ربُّنا: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً). فعرف أن هذا فرعون موسى فأسلم الرجل عندما رأى هذه الآية، وكان فرنسياً وعلى غير دين الإسلام.
لكن هؤلاء القوم الذين رأوا هذه الآيات، وهو غرق فرعون وقومه وعندما ذهب سيدنا موسى لمناجاة الله وجدوا قوماً يعبدون الأصنام، فقالوا لسيدنا هارون الذي حضرة النبي موسى كلَّفه باستخلافه فيهم إلى أن يعود: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (138الأعراف). ما هذا؟!!، وأين الآيات التي رأيتموها؟!!، وأين المعجزات التي رأيتموها؟!!. ربنا يبيِّن لنا طبيعة هؤلاء القوم وجحودهم وكفرهم وبهتانهم، وأنهم قومٌ لا يؤمنون بالله عزَّ وجلَّ إلا قليلاً، مهما ظهرت لهم من الآيات الكريمات.
وكان معهم رجلٌ كان صِنواً لموسى، لأن فرعون لما أنبأه الحكماء أنه سيخرج رجلٌ من بني إسرائيل وسيكون عليه وعلى يده نهاية ملكه، أمر مفتشين أن يفتشوا على المواليد – كل مواليد بني إسرائيل، وما الذي نجَّى سيدنا موسى؟ أن أمه وضعته في التابوت، وربطته بحبل، فكلما أرادت أن تُرضعه تجره من الحبل ثم ترضعه وتضعه في الصندوق في البحر مرةً ثانية، فجاءت موجة شديدة فقطعت الحبل، فسار الصندوق في البحر حتى وصل إلى شاطئ بيت فرعون ووقف، والقصة تعلمونا كلكم أنه تربَّى في بيت فرعون.
واحد آخر قريب له – رمته أمه في الغابة، وأنزل الله عزَّ وجلَّ سيدنا جبريل وجاء بغزالة ليُرضعه من ثديها كلما جاع. إذن فمن الذي ربَّاه؟!!، سيدنا جبريل، وموسى الكليم من الذي ربَّاه؟!! فرعون. الذي رباه جبريل – بعد أن قالوا: اجعل لنا إلهاً كهؤلاء القوم، قال لهم: أنا أصنعه لكم، وكانت حكمة إلهية يعلمنا إياها ربُّ البرية: ((كل مالٍ جاء من حرام، يُنفق في الذنوب والآثام)).
وأثناء سفرهم وكان خروجهم يوم عيد عندهم، ماذا يفعلون؟ كل واحدة من بني إسرائيل ذهبت لجيرانها وقالت لجارتها: أنا أريد ذهبك لألبسه غداً في العيد وسأعيده لك مرةً ثانية، وتأخذه وهي تنوي أن لا تعيده لها مرةً ثانية، لأنها مسافرة.
وكيف يصنع الصنم؟، قال لهم: أئتوني بالذهب الذي جمعمتوه معكم كله، فجاءوا بالذهب الذي أخذوه وسرقوه من المصريين، ووضعه في النار وصنع منه عجلاً مصنوعاً من الذهب، وجعل فيه فتحات معينة بحيث إذا تحرك الهواء يسمعون له صوتاً يُهيأ لهم أنه عجل، وله خُوار يعني له صوت.
فالذهب الذي جمعوه من حرام ذهب في الذنوب وفي الآثام، من الذي فعل ذلك؟ موسى السامري الذي ربَّاه جبريل، ولذلك يقول الرجل الحكيم:
فموسى الذي ربَّاه جبريل كافرٌ وموسى الذي ربَّاه فرعون مرسلٌ
لنعرف الحكمة الإلهية حكمة رب البرية عزَّ وجلَّ، أن الإجتباء من الله والإصطفاء من الله.
رجع سيدنا موسى من مناجاة الله فوجد هذا الوضع، فذهب إلى أخيه هارون وأمسكه من رأسه ومن لحيته – وكان سيدنا موسى شديداً – وقال له: يا هارون، تركتُهم مؤمنين بالله، أرجع أجدهم كفاراً!!، (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (94طه)، فقلت الأفضل أنتظر حتى تأتي أنت فلعلك تتصرف معهم. وكان سيدنا هارون حكيماً، ولذلك سُميَ بحكيم الأنبياء، رجلٌ حكيم!! فلو تصرَّف تصرفاً غير هذا، فمن الجائز أن يقتلوه، ومن الجائز أن يسجنوه ويظلوا على ما هم عليه، ويعادوه أشد العداوة، لكنه قال: أترك الأمر حتى يأتي النبي الذي كلفه الله، وجائز أن يكون معه من رعاية الله وعناية الله ما يرد هؤلاء الله الشاردين لطاعة الله عزَّ وجلَّ – وقد كان.
سيدنا موسى عنفَّهم وعاتبهم ولامهم لوماً شديد، ثم قال لهم: اختاروا سبعين واحد منكم ونذهب للمكان الذي أناجي فيه الله عزَّ وجلَّ ونعتذر إلى الله من العمل الشنيع الذي فعلتوه، وهو الكفر بالله وعبادة العجل من دون الله عزَّ وجلَّ. وكانوا اثني عشرة قبيلة، فقالوا كيف نختار؟، قال: من كل عائلة ستة، فأصبحوا اثنين وسبعين، فقال: أنا أُمرت بسبعين، فاثنان يبقيان ولهم من الأجر مثل ما للباقين، فالذي بقي تلميذه النجيب وخليفته في النبوة يوشع بن نون ورجلٌ مثله في الصلاح والتُّقى.
ذهب السبعون – وانظروا لليهود!!، فموسى يناجي الله وهم سمعوا الكلام، فقالوا: أرنا الله جهرة – لكي نعرف أن اليهود منذ زمن بعيد وهم كما وصفهم ربهم في القرآن: (فَقَالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً) (153النساء). فتزلزلت الأرض وصُعقوا وماتوا، فقال موسى: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل فأحيهم من أجلي، ورُدَّ إليهم الحياة من أجلي، حتى لا تحدث فتنة بين بني إسرائيل، وماذا أقول لهم؟. فأحياهم الله عزَّ وجلَّ إكراماً لموسى حتى لا يقع في هذه المعضلة الكبيرة التي تورطوا فيها، بأنهم يريدون أن يروا الله عزَّ وجلَّ جهرة.
ومن مخالفتهم لسيدنا موسى – يطول الوقت لو تحدثنا فيها – لكن ربنا يريد أن يعرفنا فضل الأمة المحمدية، وفضل الحضرة المحمدية على جميع هذه الأديان السابقة التي أرسلها الله عزَّ وجلَّ، وأرسل إليها النبيين والمرسلين السابقين. فهؤلاء الجماعة لما أفاقوا دعوا الله عزَّ وجلَّ وقالوا: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) (156الأعراف). و (هُدْنَا): يعني رجعنا، ولذلك ليس اسمهم اليهود، ولا الآخرين اسمهم النصارى، لأن الدين عند الله الإسلام.
سيدنا موسى وسيدنا عيسى وغيرهم من ذرية من؟ من ذرية سيدنا إبراهيم، سيدنا إبراهيم يقول الله فيه لنا: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (78الحج). وقال لأبنائه: (يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (132البقرة). إذن فالدين الحق عند الله لكل الأنبياء هو الإسلام، دين واحد، ومن أين جاءت هذه المسميات؟ هم الذين سمَّوها، قالوا: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)، وقالوا: نسمي أنفسنا اليهود، يعني: الذين رجعوا إلى الله عزَّ وجلَّ، وخرجوا من تسمية إبراهيم وتسمية الرب الكريم عزَّ وجلَّ. والآخرون: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ) (14المائدة)، وهم الذين قالوا هذا، لكن ربنا لم يسمِّهم بهذا، والدِّين عند الله من آدم إلى سيدنا رسول الله إسمه (الإسلام).
فدعوا الله عزَّ وجلَّ، ولكي نعرف منزلة هذه الأمة ننظر إلى كلام الله وجواب الله وردَّ الله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ). فماذا قال لهم ربنا؟، (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ)، يعني: لن يكون لكم إلا العذاب، (وَرَحْمَتِي) لكم أنتم ـ أى: للجماعة المؤمنين الصادقين أتباع النبي الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم، (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (156الأعراف).
ورحمة الله يا إخواني لا يستطيع أحدٌ من الأولين ولا الآخرين وصفها، وسنتناول فقط بيان من الأحادث النبوية لنصل إلى شيءٍ من قدرها، يقول صلى الله عليه وسلَّم: (مثل السماوات السبع والأراضين السبع في العرش كحلقة من الحديد ملقاة في أرضٍ فلاة) . السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة للعرش كقطعة حديد في صحراء واسعة!!. ويقول صلى الله عليه وسلَّم في حديثٍ ما معناه: (مثل الكرسي في سدرة المنتهى إلا كذرة رملٍ في صحراء واسعة). العرش والكرسي والجنة والنار وعالم المُلك وعالم الملكوت وعالم الجبروت وعالم العظموت وعوالم اللاهوت، وكل عوالم الحي الذي لا يموت، وسعتها صفة واحدة من صفات الحي الذي لا يموت: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، تسع كل كائنات الله الظاهرة والباطنة العُلوية والدنيوية لأنها تسع كل ذلك.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلَّم قدر هذه الرحمة فيقول صلوات ربي وتسليماته عليه: (إن لله مائة رحمة، أنزل واحدة منها في الدنيا، فبها تتراحم الخلائق، وبها ترفع الدابة حافرها حتى لا تطأ وليدها – الرحمة التي عندها لوليدها – وادَّخر تسعة وتسعين رحمة للدار الآخرة) . لنعرف ما سعة رحمة ربنا.
حتى قال صلى الله عليه وسلَّم: (إن الله يرحم عباده يوم القيامة رحمة واسعة حتى يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه) .
ولما نزلت هذه الآية: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)، فرح إبليس وقال: أنا شيء، فقال رب العزِّة: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ)، فبكى إبليس وولول، لأن الله قدَّر أن تكون: (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (156الأعراف). قدَّر الله أن تكون هذه الرحمة لهذه الأمة أمة حبيب الله ومصطفاه صلوات ربي وتسليماته عليه.
وورد في سبب نزولها: {أن الله عز وجل قال لموسى: إن شئت أجعل لك الأرض كلها مسجداً وتصلوا في أي موقعٍ وُجدتم فيه، وأجعلكم تحفظون التوراة، يحفظها الصغير والكبير والذكر والأنثى، فذهب إلى بني إسرائيل ليشاورهم فقالوا: لا نصلي إلا في الصوامع – هم مجادلون ومعاندون وفقط – وقالوا: ولا نقرأ التوراة إلا كتابةً، لا نريد أن نحفظها}.
فبين الله بذلك فضل هذه الأمة، ولذلك قال فيكم ولكم صلى الله عليه وسلَّم: (جُعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهورا، فأينما أدركتم الصلاة فصلوا) . في أى مكانٍ صلوا. خصوصية لهذه الأمة!!، لأن هذه منحة إلهية لم يقبلها هؤلاء الأقوام، وقدَّر الله أن تكون لأمة الإكرام – أمة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وما الذي يعرفنا أن هذا الكلام لأمة رسول الله؟ قال ربنا: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ) (157الأعراف). وكلمة (الأُمِّيَّ): ليس معناها القراءة والكتابة فقط، لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان يُعلم كُتَّاب الوحي الطريقة الصحيحة للكتابة، فكان يقول: يا فلان عوِّر الميم، وأنصب الألف، واعمل كذا وكذا، ويعلمه الطريقة الصحيحة – وهي موجودة في أحاديثٍ صحيحة.
ولما كان صلى الله عليه وسلَّم في صُلح الحديبية وأمر سيدنا علي أن يكتب وثيقة الصُلح، فكتب: {هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أهل مكة – ومندوبهم في الصُلح كان سُهيل بن عمرو – قال: لو صدَّقنا أنك رسول الله لاتبعناك، وإنما أكتب: محمد بن عبد الله، فقال: يا عليٌّ أُمحها، قال: والله لا أمحها أبداً يا رسول الله، قال: (فستُدعى إلى مثلها وستجيب)، سوف يأتيك شيءٌ مثل هذا وستجيب، وقد حدث!! – أرني الورقة، فأعطاه الورقة فمحى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كلمة رسول الله، وقال: أكتب محمد بن عبد الله} .
وما أكثر الأحاديث التي يقول فيها صلى الله عليه وسلَّم: (وجدت على باب الجنة مكتوب: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبر) . وهذا حديث، وقال: (وجدتُ على باب الجنة مكتوبٌ: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشرة. قلت: يا أخي يا جبريل، ما بال القرض يزيد عن الصدقة؟ – الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمان عشرة – قال: لأن الصدقة قد تقع في يد محتاج وغير محتاج، ولكن القرض لا يقع إلا في يد رجلٍ في أمَّس الحاجة إليه) .
فسيدنا رسول الله من الذي كان يقرأ له هناك؟!!، (وجدتُ على باب الجنة مكتوباً!!)، ولما نزل الأمين جبريل عليه فيى بداية الوحي وقال له: {إقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (1العلق)}.
فما معنى النبيِّ الأميِّ؟ لأنه صلى الله عليه وسلَّم في كلمة الأميّ، يعني: الأصل الذي تفرَّع منه جميع الأنبياء والمرسلين، وهو صلى الله عليه وسلَّم مصدر أنوارهم، وهو صلى الله عليه وسلَّم سرُّ رسالاتهم، وهو صلى الله عليه وسلَّم الذي أخذ الله عليهم العهد أن يؤمنوا به ويتبعوه: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ)، ماذا يفعلون؟ (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (81آل عمران).
ولذلك جدَّد الله عزَّ وجلَّ هذا العهد بعد بعثته وتكليفه بالرسالة، فأحياهم بعد مفارقتهم الحياة الدنيا، وجمعهم له في بيت المقدس، وهناك أخذ الأمين بيد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وقال: تقدم يا رسول الله، صلِّ بهم فأنت الإمام لهم. فصلى بهم صلى الله عليه وسلَّم – إن كانت الصلاة على ملة إبراهيم، أو كانت الصلاة هي الدعاء بحسب اللغة، المهم أن الذي أمَّهم في الصلاة هو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم – وجدد لهم العهد الذي أخذه عليهم الله في يوم الميثاق بعد تكليفه بالرسالة صلوات ربي وتسليماته عليه. (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الامِّيَّ): إذن الأميِّ يعني الأصل والمصدر الذي تفرَّعت منه جميع الأصول: ((اللهم صل وسلم وبارك على الأصل الذي تفرعت منه جميع الأصول))، كما يقولون: ((مكة أم القرى))، لأنها التي نبعت منها كل القُرى في الجزيرة العربية، ولم يكن هناك قرية في الجزيرة العربية قبلها، لكن البداية مكة ومنها نشأت ونبعت جميع القُرى التي حولها، فسُميت من أجل ذلك بأم القُرى. (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالانْجِيلِ): وانظر إلى عظمة هذا النبي الكريم، (يَأْمُرُهُم): من الذي يأمرهم في التوراة والإنجيل، (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ)، من الذي يأمرهم؟ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لأنه كما تعلمون يا أحباب أن الدين عند الله الإسلام، والنبي الذي أرسله الله عزَّ وجلَّ بالإسلام هو نبيُّنا المصطفى صلى الله عليه وسلَّم. وكل الرسل الذين أُرسلوا قبله نواباً عن حضرته في إبلاغ رسالته في تبليغ دعوته: الرســـــل من قبل الحبيب محمد نوابه وهو الحبيب الهـــــــــــادي موسى وعيسى والخليل وغيرهم يرجـــــــــــون منه نظرةً بودادِ رغبــــــــــوا يكونوا أمةً لمحمدٍ وبحبه فازوا بكل مــــــــــــــــــــرادِ
سيدنا موسى لما ذهب لأخذ الألواح، وكانت نازلة مكتوبة من عالم القدرة، فقال: [يا رب، أجد في الألواح أمة هم الآخرون الأولون – يعني: الآخرون في البعث، والأولون في الحساب ودخول الجنة – فاجعلهم أمتي، فقال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب، أجد أمة يأتزرون في أنصاف بطونهم، وتُفتح أبواب الجنة لهم، اجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد – فلما قرأ الأوصاف، والأوصاف طويلة، ألقى الألواح وقال: يا رب اجعلني من أمة أحمد] . ألقى الألواح وطلب من الله أن يكون من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولذلك – كما قلت – جدد الله لهم العهد ليكونوا أتباعاً له صلى الله عليه وسلَّم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلَّم – في عالم الحقيقة – هو الذي يأمرهم بالمعروف وهو الذي ينهاهم عن المنكر، (ويُحل لهم الطيبات ويُحرِّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)، كل هذه الأشياء ألغاهها صلى الله عليه وسلَّم من على أمته، فقد كان اليهود عندهم عادات تغُلُّهم وتعوق حركاتهم.
كان الرجل منهم إذا تبوَّل لابد أن يقرض موضع البول أى من الملابس التي يلبسها فيقطعه ويرميه جانباً ويحرقه، فاكتفينا وكفانا النبي صلى الله عليه وسلَّم بالغُسل.
كان الرجل منهم إذا حاضت إمراته لا يواكلها ولا يشاربها، ولا يجالسها ولا ينام معها، كانوا في هذا الإثم أو في هذه الأغلال التي غلُّوا أنفسهم بها، لكن وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وجعل هذه الأمة – أمة كما قال صلى الله عليه وسلَّم: (أمتي هذه أمةٌ مرحومة) ، أمة كلها تراحم، وكلها وُدٌّ، وكلها لين، وكلها معروف، وكلها خيرٌ وبركة. ومدح الله هذه الأمة؛ ونترك هذا المديح وهذا الثناء لنأخذ استراحةً قصيرة، ثم نعود لثناء الله على أمة حبيب الله ومصطفاه.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يفقهنا في ديننا، وأن يُلهمنا رشدنا، وأن يُرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل زاهقاً وهالكاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل الحبيب الأعظم؛ أعظم في قلوبنا من أنفسنا وأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا وأموالنا، وأن يكون أحب إلينا من كل شيء هو لنا، وأن يجمعنا عليه ظاهراً وباطناً، يقظةً ومناماً، حلاً وترحالاً، دنيا وآخرةً.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم