بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي جمَّل قلوبنا بنور الإيمان، وزيَّنها بأنوار النبي العدنان، وجعلها موضعاً لتجلياته تبارك وتعالى بالقرآن، ونسأله عز وجل أن يحصننا أجمعين من الشيطان وكيده وأهل الفتن في هذا الزمان أجمعين، اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة العُظمى لكل موجود، والهداية الإلهية الربانية لكل مولود، والشفيع الأعظم يوم القيامة لجميع الرُكَّع السجود، صلى الله عليه وآله وصحبه، وكل من انتمى إلى هديه الكريم إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم أجمعين آمين آمين يا رب العالمين.
فضل الله ورحمته
الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نستطيع أن نحيط بجانب واحد من جوانب عظمته، أو بذَرة من مقام رحمته، ولكننا نريد أن نفرح سوياً بفضل الله الذي عمنا ببركته صلى الله عليه وسلَّم.
وإن الله تبارك وتعالى قال لنا: ” قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ” (58يونس) وهناك قراءة في الآية بكاف الخطاب: (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تَجْمَعُونَ).
ما فضل الله؟ وما رحمة الله؟ إمام المفسرين والمؤولين والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلَّم وهو سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقال فيه:
يقول: (فضل الله ورحمته هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم) لأننا آمنا به وبرسالته وبشريعته، لا بشيء قدمناه ولا بعمل عملناه وإنما فضلاً علينا من حضرة الله تبارك وتعالى، وهو الرحمة التي يرحمنا الله بها في الدنيا ويرحمنا بها أجمعين إن شاء الله تبارك وتعالى.
احتفاء الله بنبيه
ولكي نعرف بعض فضل النبي صلى الله عليه وسلَّم علينا فإن الله سبحانه وتعالى أغنى نبيه عن احتفالات الجن والإنس أجمعين، لأن الله تبارك وتعالى احتفل به صلى الله عليه وسلَّم في البدء، وكان صلى الله عليه وسلَّم بمفرده يطوف حول عرش الله ويعبد الله عبادة خاصة انفرد بها دون أنبياء الله ورسل الله وملائكة الله.
ولذلك قال الله تعالى قل لهم: ” قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ” (81الزخرف) من أول مَن عَبَدَ الله؟ ليس الملائكة المقربين ولا جبريل الأمين ولا النبيين ولا المرسلين، وإنما أول من عَبَد الله هو سيدنا محمد أمير الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلَّم.
بعد ذلك احتفى الله سبحانه وتعالى بظهور أنوار حضرته قبل ظهور جسمه في الحياة الدنيا، بل بعد ظهور جسم آدم وأمر الملائكة له بالسجود، قال صلى الله عليه وسلَّم:
حتى يطلعوا على مساوئ الأمم السابقة، ولا يطلع على مساوئهم أحد غير الله، مَن الذي يأتي بعدنا ويرى عيوبنا ومساوئنا؟ لا أحد، وهذه عناية من الله وفضل من الله ببركة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فهو أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث، وأول النبيين في الحساب هو وأمته، وأول النبيين في دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلَّم:
الأمر الثاني: أن حتى من يحاسب من هذه الأمة سيحاسب حساباً يسيراً، إلا من وقع في الكبائر وظل مصراً عليها ولم يتب منها حتى الموت، أو يتباهى بين الخلق بصنيعه الذي يصنعه وهو مخالف لله تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلَّم:
يجلس في أي مكان يقول: أنا أعمل كذا وكذا من الكبائر التي نهى عنها الله تبارك وتعالى، وقد فضح نفسه ولم يسترها، فلا بد لهذا أن يُفتضح على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، إلا إذا تداركه الله في الدنيا وتاب، فباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، يعني حتى لآخر نَفَس يفتح الله لنا أبواب التوبة.
الحساب بالفضل
فالذي يُحاسَب من أمَّة النبي صلى الله عليه وسلم يُحاسب حساباً يسيراً، والله عز وجل يوم القيامة يحاسب الخلق إما بالفضل وإما بالعدل، والعدل يعني القسطاس المستقيم: ” لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ” (49الكهف) وهذا لجميع الأمم.
لكن أُمَّة سيدنا رسول الله اكراماً لحبيب الله ومصطفاه يحاسبهم بالفضل، كيف يكون بالفضل؟ قال صلى الله عليه وسلَّم:
فيُقرره بذنوبه، يعني يعرض عليه فيلمه، ولكل واحد منا فيلم، والفيلم يقول فيه الله: ” يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ” (40النبأ) لم يقل يقرأ، ولكن (ينظر) يعني يرى، فالكاميرات الإلهية التي مع الملائكة تسجل الموقع الذي نحن فيه، والظاهر الذي نحن عليه، والباطن أيضاً وهي النوايا المخفية في صدورنا، لأن الأعمال بالنيات.
هل الكاميرات الموجودة الآن تستطيع أن تصور النية الباطنية التي في باطن القلب؟ كلا، لكن هناك: ” وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ” (284البقرة).
حساب الفضل يعني أنه لن يتعرض للخزي، والخزي متى يكون؟ عندما يُحاسب الإنسان أمام الآخرين، وهذا ما كان يطلبه نبي الله إبراهيم لنفسه فقط: ” وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ” (87الشعراء) حتى لم يذكر أحد من أولاده ولا أهله ولا أحبابه، ونحن من أجل نبينا وبدون طلب منا ولا من نبينا يقول لنا الله تبارك وتعالى: ” يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَه ” (8التحريم) ليس الذين آمنوا معه في زمانه فقط ولكن مفتوحة إلى يوم القيامة، وهذا وعد من الله بأن هذه الأُمَّة لا يحاسبها الله إلا الحساب اليسير، وبينها وبين الغفور الرحيم تبارك وتعالى، وهذا فضل الله علينا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بيعة النبيين
هذا غير الشفاعة وهي شفاعات كثيرة، لكن الذي أريد أن أبينه لأحبابي أن فضل الله علينا ببركة رسول الله أننا أصبحنا من أمته، فإن الله احتفى بحضرته قبل خلق آدم عندما كان الأنبياء أرواحاً نورانية قبل خلق آدم، وأخذ عليهم عهد وميثاق أن يؤمنوا بهذا النبي، وأن يتبعوه، وأن يقروا بأنه رسول المرسلين ونبي النبيين: ” وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ” (81آل عمران) لم يقل نبي، ولكن (رسول) والرسول لا يكون رسولاً إلا بعد تكليفه بتبليغ الرسالة، وأراد الله أن يفرحنا فقال لنا: ” لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ” (128التوبة) يعنى رفعنا إلى رتب النبيين ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.
” ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ” (81آل عمران) أول واجب على الأنبياء والمرسلين جميعاً الإيمان به لأنه رسول المرسلين، والواجب الثاني أن ينصروه، كيف ينصروه وهم قد تقدم زمن بعثتهم عن زمن بعثته؟ هم رأوه لأن الله قال لهم: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ) يعني شاهدوه جيداً وصِفُوه لأممكم ومروهم أن من يحضر زمانه منهم أن يتبعه وينصره ، وليس وحده ولكن الذين معه أيضاً: ” مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ” (29الفتح) وأتى بمَثَلهم في التوراة ومَثَلهم في الإنجيل الذي بيَّنه الله لرسل الله السابقين.
الأنبياء طلبوا من الله أن يجددوا البيعة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، فأخذه الله على بيت المقدس وأحيا الأنبياء والمرسلين أجمعين، كم كان عددهم؟ سأل سيدنا أبو ذر رسول الله: كَم النَّبِيونَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
ذُكر منهم في القرآن خمسة وعشرين، لكن الله قال: ” مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ” (78 غافر).
وقفوا في بيت المقدس في سبعة صفوف، وجاء جبريل ومعه النبي، وأخذ بيد النبي وقال: تقدم يا محمد صلِّ بهم فأنت الإمام لهم، كيف صلى؟ هذا أمر غيبي لا نشغل به بالنا، لأن صلاتنا فرضت في هذه الليلة، فسواء صلى على ملة إبراهيم، أو صلَّى بالمعنى اللغوي للصلاة يعني الدعاء وهم أمنُّوا وراءه، المهم أنه كان الإمام لهم، وجددوا البيعة لحضرته لكي يُحشروا يوم القيامة من أُمَّته.
أوصاف النبي في التوراة
فكل نبي خبَّر أمته بأوصاف النبي ونزلت آيات مبينات في كتب الأنبياء في التوراة والإنجيل واضحة جلية تبين صفاته، ونأخذ مثلاً واحداً منها في التوراة، فسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يحب القراءة، وأتى بكتب أهل الكتاب واطَّلع عليها وقرأها جميعاً، فسألوه عن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلَّم في التوراة، فقال:
اليهود قرأوا التوراة وعرفوا معرفة أكيدة أوصاف حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، حتى أن الله قال في شأنهم: ” يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ” (147البقرة) لا يوجد من يتوه عن عياله، ومع ذلك اختبروه في كل ما وُصف به في التوراة فوجدوه كما أنبأ الله، وكما أخبرهم موسى نبي الله وكليم الله عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، فتركوا أرض الشام التي كانوا يسكنونها، وأرض العراق التي كانوا يسكنونها، وجاء جماعة منهم وسكنوا المدينة وكانت اسمها يثرب، فسألوهم: لم جئتم إلى هنا؟ قالوا: في انتظار النبي الذي سيُبعث في آخر الزمان، وجماعة ذهبوا وسكنوا في مكة، وكان هناك راهب أقام على عرفات، والثاني في مكة.
واليهود الذي سكنوا في المدينة وبجوارهم جماعة أخرى وهم يهود خيبر كانوا إذا حدث بينهم وبين غيرهم معركة يقولون: اللهم بحق هذا النبي الذي سترسله في آخر الزمان انصرنا عليهم فيُنصروا لأنهم توسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلَّم، فهم جاءوا ويعرفون أنه سيظهر ويعرفون كل صغيرة وكبيرة عنه.
حتى أن الراهب الذي كان على عرفات في اليوم الذي وُلد فيه النبي قال لهم: رأيت الليلة نجم أحمد في السماء، لأنه كان من ضمن العلامات التي تبين بدء ميلاده ظهور نجم مخصوص في السماء، فسألوا: من وُلد لهم مولود الليلة يا أهل مكة؟ قالوا: لا نعرف، وعندما سألوا علموا أن زوجة عبد الله بن عبد المطلب ولدت ولداً، قال: أريد أن أراه، فلما أخذوه ليراه قال: اقتلوني واقتلوه معي فهذا الذي هلاك اليهود على يديه.
بعد سبعة أيام أُصيب برمد والراهب الذي كان على عرفات كان يعالج بوصفات، فأخذه جده عبد المطلب وذهب إليه، فقال له الراهب: هذا علاجه معه، خذ من ريقه وضع في عينه يُشفى بإذن الله، فلا يحتاج إلى قطرة ولا مرهم ولا شيء آخر، فهل هذا يعرفه أم لا؟ يعرفه، وهل توجد معرفة أكثر من ذلك؟!!.
سفره مع عمه إلى الشام
ماتت أمه ومات أبوه ومات جده وتولى تربيته عمه أبو طالب، وكان عمره اثني عشر سنة، وكان عمه يذهب لبلاد الشام بتجارة، فطلب منه أن يذهب معه، ولم يكن يؤخر له طلب، لماذا؟ لأن زوجته أعلمته أن محمد إذا بدأ في الطعام كان يكفي الأولاد كلهم، وأولاده كانوا كثير، وإذا بدأوا بالطعام قبل محمد فإن الطعام كان لا يكفيهم، فكانت تعلم بركته، وهي السيدة فاطمة بنت أسد وقد أسلمت والنبي حضر دفنها ونام في قبرها وألبسها قميصه وقال:
فأخذه معه، وكانوا يمرون على دير لأحد اليهود وهم ذاهبون وعائدون في التجارة، فلم يكن يخرج إليهم، وفي هذه المرة خرج إليهم وقال لهم: أدعوكم للطعام كلكم على وليمة بشرط أن لا يتخلف واحد منكم، فذهبوا للوليمة وتركوا سيدنا رسول الله وهو صغير، فقال لهم: من الذي تخلف عنكم؟ قالوا: كلنا حضرنا، قال لهم: لا، فأبو طالب قال له: هناك ابن أخي، فقال له: هذا الذي أريده، فأخذ يسأله: ماذا ترى في المنام؟ وماذا ترى في اليقظة؟ لأنه يعرف علامات النبوة، هل تسجد للأوثان؟ قال: والله ما سجدتُ لصنم قط، وأخذ يكتشف العلامات التي عنده.
فقال لأبي طالب: ما قرابتك له يا أبا طالب؟ قال: ابني، قال له: لا، عندنا في التوراة أن أبوه لا يكون حياً، فقال له: إنه ابن أخي، قال: ارجع بابن أخيك فإن طوائف اليهود يقفون على اثني عشر طريقاً بينكم وبين الشام ليقتلوه.
هل توجد معرفة أكثر من ذلك؟! لا، ومع ذلك لم يوفقهم الله للإيمان، لنعرف فضل الله علينا الذي يقول لنا فيه: ” حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ” (7الحجرات) وقال: ” مَنْ يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِي ” (178الأعراف) إياكم أن يقول أحد: أنا آمنت بمهارتي أو بعلمي لأن الإيمان كما قال الله: ” وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ” (52الشورى) نور في القلوب.
اختبار اليهود للنبي بالمدينة
هل يستطيع أحد منا أن يهدي ابنه لو لم يكن مُهتد؟ لا يستطيع، هل أحد منا يستطيع أن يهدي ابنته لو كانت بعيدة عن طريق الله؟ لا يستطيع، فماذا نفعل؟ نسأل الله لهم الهداية، ونسأل الله لهم العناية، لأن الهداية كلها بيد الله: ” قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى الله ” (73آل عمران).
فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة ثم هاجر للمدينة، وهم كانوا منتظرينه في المدينة واختبروه أيضاً وكل كل واحد معه علامات يختبره بها، وأولهم سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه.
وسيدنا سلمان الفارسي كان من المعمرين، وكان أبوه الكاهن الذي يوقد النار في بلاد فارس ليعبدونها، وهذه كانت مكانة كبيرة، وقد سمع جماعة من جيرانه نصارى يترنمون بترانيمهم فأُعجب بهم، وخرج معهم سراً وأخذ يتردد على الأديرة من هذه لهذه لهذه حتى وصل إلى آخر واحد منهم فقال له: لم يعد غير النبي العربي الذي سيسكن طيبة، فقال له: وما طيبة؟ قال له: بلد فيها نخل وذكر له علامتها.
فذهب للجزيرة العربية، فرآه جماعة من التجار فأمسكوا به وباعوه على أنه عبد، وباعوه لواحد من أهل المدينة، ففرح أنه سيدخل المدينة.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلى المدينة، أراد سلمان أن يعرفه وكان معه ثلاث علامات للنبي، العلامة الأولى: لا يأكل الصدقة، يقول رضي الله عنه:
وخاتم النبوة كانت الملائكة قد ختموه به وكان عمره أربع سنوات وهو عند السيدة حليمة السعيدية، جاءوه وأناموه وشقوا صدره وأخرجوا قلبه وغسلوه بماء زمزم، وبعد ذلك ختموه بخاتم في الجهة اليسرى مقابل القلب تحار فيه الأبصار، وهو عبارة عن شعرات مكتوب بها:
كان صلى الله عليه وسلَّم حريص على إكرام أصحابه، فعندما يموت أحدهم كان أحياناً يُصر على أن يحفر قبره بنفسه، وأحياناً يأمرهم أن يحفروا القبر، وأحياناً يقول لهم: أنزلوه، وبعضهم كان يحمله معهم ويدخله القبر بنفسه، لذلك كان يطلب منهم أن يُعلموه بأي إنسان يموت، حتى مات واحد منهم بالليل وكان خادم المسجد فدفنوه ولم يُعلموا النبي، فلما سأل عنه النبي، قالوا: إنه مات يا رسول الله ودفناه، قال:
{ أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟! ثم قال: إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ }[18]
ولذلك قال له الله: ” وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ” (103التوبة) وإياكم أن تظنوا أن هذا الأمر في زمانه فقط، ولكننا أيضاً معه إلى يوم القيامة.
رجل في عصر سيدنا عثمان توفى وغطاه إخوته وذهبوا ليجهزوا الكفن وموضع الدفن ثم جاءوا، فجلس ورفع الملاءة التي غطوه بها، وقال:
{ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ الْقَوْمُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلامُ يَا أَخَا بَنِي عَبْسٍ، أَبْعَدَ الْمَوْتِ؟! قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَقِيتُ رَبِّي عز وجل بَعْدَكُمْ، فَلَقِيتُ رَبًّا غَيْرَ غَضْبَانَ، وَاسْتَقْبَلَنِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانَ وَإِسْتَبْرَقٍ، أَلا وَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ عَلَيَّ، فَعَجِّلُونِي وَلا تُؤَخِّرُونِي }[19]
السيدة عائشة حكوا لها ما حدث، فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:
أعمالنا تُعرض عليه على الفور، لأن الله إذا كان يقول في الشهداء: ” أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ” (169آل عمران) فما بالكم بسيد الشهداء صلى الله عليه وسلم؟! هو حي حياة أكمل وأعظم، ولكننا لا نراه إلا بقلب صفا وهيأه مولاه ليرى نور رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
الأماكن التي نحن فيها، أليس فيها كل إرسالات المحطات التلفزيونية؟ نعم، هل نراها؟ لا، كيف نراها؟ عندما نحضر شاشة ويكون معنا مفتاح فك الشفرة نرى هذه المحطة.
فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحياه الله حياة باقية عنده، وجعل له حرية حركة في الكون كله، ولكن من الذي يرى؟ الذي يعطيه حضرة النبي فك تشفيرته ويعطيه الجهاز الذي يلتقط به هذه الموجة، فيشاهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومن لا يزال لم يشاهد يجتهد ليعطيه النبي جهاز فك التشفيرة حتى يشاهد الحبيب صلى الله عليه وسلَّم.
وعندما مات الشيخ ذو النون المصري وهو مدفون خلف مقابر الإمام الشافعي رضي الله عنه، ولم يكن هناك تلغرافات ولا تليفونات ولا محمول ولا أرضي ولا غيره، من الذي كان يلتقط الأخبار للناس؟ قلوب الأبرار والأطهار، وكان في كل بلد قلوب من هذه القلوب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لمائة من الصالحين في كل أنحاء مصر مناماً، فسألوه: لماذا جئت يا رسول الله؟ فيقول لهم: إن حبيب الله ذا النون سيأتي إلينا وقد جئتُ لاستقباله.
منا من تحضره الوفاة ويقابله ويستقبله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يا هناه عند الله تبارك وتعالى.
إسلام عبد الله بن سلام
سيدنا عبد الله بن سلام كان كبير العلماء عند اليهود وتحقق بأوصاف النبي وقال له:
هؤلاء لِمَ لم يؤمنوا؟ سبقت لهم الغواية من الله، يقول الله تعالى في قوم ثمود: ” وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ” (17فصلت).
فالمقصد كله ماذا نريد؟ عناية الله ورعاية الله وفضل الله، وهذا الذي جعلنا من أُمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وليست فلسفتنا ولا فصاحتنا ولا اطلاعنا ولا دراستنا، ولكنها عناية من الله عز وجل.
في هذا الزمان كثير ممن يدَّعون العلم وقرآوا آلاف الكتب ولكنهم ملحدين، فماذا نفعل معهم؟ لا أنا ولا أنت نستطيع أن نصنع لهم شيئاً، فما الأحسن لي ولك؟ ” وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ” (199الأعراف) لا تجادل معهم ولا تتكلم معهم، لأنك لن تصل معهم إلى أي نتيجة لأن الله كتب عليهم العمى: ” لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا ” (179الأعراف) أعين وآذان القلوب.
وكان الله يقول على أهل مكة: ” وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ” (198الأعراف) ما الذي لا يرونه؟ لا يرون النور، هم يرون يتيم أبو طالب، يرون محمد بن عبد الله، لكن ما بداخله لايراه إلا من أعطاه الله نوراً من عنده ينظر به إلى نور حبيبه ومصطفاه.
حلم النبي صلى الله عليه وسلَّم
رجل آخر من علماء اليهود في المدينة اسمه زيد بن سعنة أراد أن يرى بعض العلامات، فذهب إلى النبي وعرض أن يُقرض النبي صلى الله عليه وسلم تمراً لأجل معين، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما في نفسه فوافق: يقول هذا الرجل:
{ فَلَمَّا كَانَ قَبْلُ مَحَلِّ الأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَنَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجَنَازَةِ دَنَا مِنْ جِدَارٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، ثُمَّ قُلْتُ: أَلا تَقْضِينِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بَنِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بِمَطْلٍ، وَلَقَدْ كَانَ لِي بِمُخَالَطَتِكُمْ عِلْمٌ، قَالَ: وَنَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَيْنَاهُ تَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ رَمَانِي بِبَصَرِهِ وَقَالَ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَسْمَعُ، وَتَفْعَلُ بِهِ مَا أَرَى؟ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، لَوْلا مَا أُحَاِذْرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي هَذَا عُنُقَكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ يَا عُمَرُ، أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الأَدَاءِ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ، وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ غَيْرِهِ مَكَانَ مَا رُعْتَهُ، قَالَ زَيْدٌ: فَذَهَبَ بِي عُمَرُ فَقَضَانِي حَقِّي، وَزَادَنِي عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ؟ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَزِيدَكَ مَكَانَ مَا رُعْتُكَ، فَقُلْتُ: أَتَعْرِفُنِي يَا عُمَرُ؟ قَالَ: لا، فَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا زَيْدُ بْنُ سَعْنَةَ، قَالَ: الْحَبْرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، الْحَبْرُ، قَالَ: فَمَا دَعَاكَ أَنْ تَقُولَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قُلْتَ، وَتَفْعَلُ بِهِ مَا فَعَلْتَ، فَقُلْتُ: يَا عُمَرُ كُلُّ عَلامَاتَ النُّبُوَّةِ قَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْتَبِرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلا حِلْمًا، فَقَدْ اخْتَبَرْتُهُمَا، فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا }[23].
فالخلاصة أن اليهود كان عندهم الأوصاف التفصيلية لخير البرية، والآخرون نفس الكيفية لكن لماذا لم يؤمنوا؟ لأن الإيمان هدية عُظمى من الرحمن لقوم اصطفاهم وخصَّهم بالإسلام والحمد لله أن جعلنا الله منهم.
واجبنا في الاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه وسلَّم
ما المطلوب منا الآن لنحتفل برسول الله؟ نحن نرى الحرب الشرسة التي تريد أن تقضي على القيم في كل أنحاء الدنيا، تريد أن تقضي على القيم الإنسانية والقيم الدينية والفطرة التي بها سعادة البشرية، ماذا نفعل؟ علينا أن نرجع لأخلاق خير البرية في تعاملنا مع بعضنا، وفي حديثنا مع بعضنا.
أنا أكلمك وأنت عندك هموم، وأنا أيضاً عندي هموم، لكن لماذا تعبس في وجهي؟! قال صلى الله عليه وسلم:
قد تُخرج كلمة وتحُاسب عليها، وقد تخرج كلمة ولكن تثاب عليها، والكلمة الطيبة صدقة، يعني نحن المؤمنين يستطيع كل واحد منا أن يتصدق كل يوم بآلاف الحسنات بدون أن يُخرج جنيه واحد من جيبه، أليس كذلك؟ فبم يتصدق؟ بالبسمة والكلمة الطيبة، وأن يهدهد على الولد أو البنت الصغيرة، وبالمودة والرحمة فهي المطلوبة بين المسلمين.
ما المشاكل التي بين المسلمين الآن؟ الجلال والغلظة والقسوة بيننا وبين بعضنا، لماذا؟ يقول: أنا كان عندي مشاكل، وأنا أيضاً عندي مشاكل، وكل واحد عنده ما يكفيه، لكننا مع بعضنا لماذا لا نتعامل بالمعاملة الطيبة التي كان عليها نبينا؟!.
كان صلى الله عليه وسلم يتبسَّم على الدوام، والبسمة لا تزول عن وجهه أبداً في أي وقت، إن كان في منزله لأهل بيته، وإن كان في الشارع، حتى الأطفال الصغار كان يُلقي عليهم السلام ويحادثهم ويتحدث معهم وهو يبتسم، حتى مع أعدائه لم يكن يعبس في وجه أعدائه، لماذا لا نكون على هذه الأخلاق الكريمة؟ وهذا الذي نحتاجه في هذه الأيام.
الناحية الثانية نريد أن نحصن أولادنا وبناتنا وجيراننا وأحبابنا وكل من نعرفه من المسلمين من الموجات القادمة من الغرب التي تريد أن تهد القيم الدينية كلها، ما الذي يجعل الإلحاد ينتشر في بلد الأزهر؟ ما الذي ييجعل المثلية تظهر بين المسلمين في بلد الأزهر؟ لأنهم لم يتحصنوا، ونحن نبحث عن التحصين ضد الكورونا بأي طريقة، هذه الأمراض القادمة أخطر من الكورونا، لأنها تخالف الفطرة الإنسانية بالكلية، وبها مسح بالكلية لكل القيم الإنسانية، الولد لا يعرف بر الوالدين، ولا يعرف احترام الكبير، ولا العطف على الصغير، وهذا ما يحدث في الغرب.
حبوب المحاصيل من كثرتها يلقوها في المحيط ولا يتبرعوا بها إلا لمن يمشي على سياستهم، الزبد في هولندا يلقونه في البحر ولا يوزعونه إلا لمن يمشي على سياستهم، إما أن تكون كما يريدون، وإما الحروب والمشاكل والخلافات وغيرها.
فنحن في هذه الظروف في حاجة أن نتحصَّن بالقيم الإسلامية، لأنه لا مخرج من هذه الفتن إلا بالتمسك بقيم الإسلام، ليس بالصلاة والصوم والزكاة والحج فقط، بل بالصدق الوفاء المروءة والأمانة وكل القيم الإسلامية.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يعيد لنا أحوال الإسلام الأولى، وأخلاق النبي المصطفى، وأحوال أصحابه البررة الكرام، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، نحن وأولادنا وبناتنا وأحفادنا، وأن ينصرنا على كل من عادانا، وأن ينزل خيره وبره في بلدنا مصر، ويغنينا عن معونات الأعداء والأصدقاء.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم