الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه.
تحدثنا في حلقات سابقة عن فقه شهادة أن لا إله إلا الله، والليلة نتحدث عن فقه شهادة أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلَّم.
وكما قلنا سابقاً أننا عندما نشهد بنبوته نقول: وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، والمقام هنا مقام شهادة، والشهادة هنا بعين القلب، فهي سياحة روحية قلبية، يسوح فيها العبد المؤمن في مقام الإحسان أو في مقام الإيقان، بعد عُلوه عن مقام الإسلام والإيمان، ويشهد بعين قلبه في آيات القرآن الأسرار التي استودعها الرحمن تبارك وتعالى في النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.
فيشهد له أنه أول النبيين، وأنه صلى الله عليه وسلَّم صادقٌ في قوله:
(إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته).
[إبن حبان للعرباض بن سارية].
وقوله صلى الله عليه وسلَّم:
(كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث).
[إبن سعد عن قتادة].
فيشهد بعين اليقين أنه أول العابدين وأول النبيين وأول الأنوار المصاغة من نور رب العالمين، ومنها أُفيضت الأنوار فاستنار بها المرسلين والنبيين ثم الأولياء والصالحين والوارثين إلى يوم الدين.
ويشهد في هذا المقام مقام إشهاد الملائكة له صلى الله عليه وسلَّم في ظهر أبيه آدم، عندما أمرهم الله تبارك وتعالى بالسجود لحضرته.
ثم يشهد بعد ذلك مقامه الأحمدي، عندما أظهر الله عز وجل ذاته النوارنية، وحقيقته الروحانية، ليشهدها جموع النبيين والمرسلين، ويوافقهم على أن يكونوا له من التابعين، وعنه مبلغين، وبه لأممهم مبشرين.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ـ ثم جاءكم رسول، فهو رسول وهم أنبياء، فهو رسول المرسلين والنبيين.
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ـ فالواجب عليهم نحو حضرته:
فكل المرسلين والنبيين له من التابعين وهو إمام الأنبياء والمرسلين، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلَّم:
(أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه من الأنبياء تحت لوائي يوم القيامة).
[الألباني وصحيح إبن ماجة عن أبي سعيد الخدري].
فهو زعيمهم وهو إمامهم صلوات ربي وتسليماته عليه.
ويشهد بعد ذلك أن رسالات المرسلين التي أُرسلوا بها إلى أقوامهم إنما هي دعوة حضرته فإن الدين عن الله الإسلام، الدين واحد وهو الإسلام ورسوله هو رسولنا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، والنبيين والمرسلين نواباً عن حضرته في أممهم:
الرســــــــــل من قبل الحبيب محمدٍ نوابه وهو الحبيب الهــــــــــــــــــادي
موسى وعيسى والخليل وغيرهم يرجون منه نظــــــــــــــــــــــــــــرةً بوداد
رغبوا يكونوا أمــــــــــــــــــــــــــــــةً لمحمدٍ وبفضله فازوا بكل مـــــــــــــــــــــــراد
وبمحكم القرآن عـــــــــــاهدهم له أن يؤمنوا بســـــــــــــــــــراجه الوقاد
ثم يشهد بعد ذلك رسالته، في مقام الرسالة بعد ظهور هيكله في الحياة الدنيا في الصورة المحمدية ، عندما أرسله ربه إلى الخلق أجمعين:
فرسالته الوحيدة العامة لجميع الخلق من البدء إلى الختام، وهو صلى الله عليه وسلَّم صاحب الكتاب المهيمن على كل كتاب، فكتابه صلى الله عليه وسلَّم حمل كل ما في كتب الأنبياء والمرسلين الصادقين، زاد عليها ما يحتاج إليه الخلق من عصره صلى الله عليه وسلَّم إلى يوم الدين، ولذلك قال الله تبارك وتعالى في كتابه:
﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (48المائدة).
فهو هيمن على جميع الكتب السماوية التي نزلت على أنبياء الله ورسله، وهو الجامع الشامل للعقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والتشريعات التي يحتاج إليها أي إنسانٍ في أي زمانٍ ومكان، إلى أن يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها.
ويشهد كذلك أنه ببركته صلى الله عليه وسلَّم صرنا شهوداً على الأمم السابقة:
ويشهد كذلك ما أيده الله تبارك وتعالى به من النبأ الحق، واليقين الصدق وهو القرآن الكريم، فإن معجزة كل نبي كانت بما يظهر في قومه من الآيات التي يشتهرون بها، وكانت معجزات وقتية لا تدوم.
فلما أرسل الله تبارك وتعالى الرسالة الدائمة إلى يوم الدين مع أمير الأنبياء والمرسلين، أرسل معه المعجزة الخالدة الباقية وهي كتاب الله تبارك وتعالى، وهي معجزة باقية لا تفنى ولا تبلى ولا تتغير، وفي كل نفسٍ من أنفاس الناس في هذه الحياة، يظهر لهم نماذجٌ وصورٌ لا تُعد ولا تُحصى من إعجاز الله في كتاب الله، فهي معجزة تتجدد باستمرار ما دام الليل والنهار إلى أن يأتي يوم القرار، فهو كتابٌ جامع مانعٌ:
﴿ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا﴾ (49الكهف).
ثم يشهد بعد ذلك المقام المحمود الذي جهزَّه الله تبارك وتعالى يوم الدين، يوم يجمع الخلائق أجمعين ويحتاجون إلى من ينقذهم من أهوال الموقف العظيم، فلا يكون إلا الرؤوف الرحيم نبينا الكريم صلى الله عليه وسلَّم، فهو الذي ببركته تنكشف الغُمة، ويبدأ الحساب وينتهي الكرب والعذاب، فيحمده أهل الموقف أجمعين من البدء إلى النهاية، وهذا ما قال فيه الله تبارك وتعالى:
وأمرنا صلى الله عليه وسلَّم مع أنه يعلم علم اليقين أنه صاحب هذا المقام أن ندعوا له صلى الله عليه وسلَّم لأنفسنا وليس لحضرته، كي نكون في صحبته ونتوه مع التائهين، فقال صلى الله عليه وسلَّم:
(إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا عليَّ، وسلوا الله تبارك وتعالى لي الوسيلة، فإنها درجةً في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، أرجو أن أكون أنا هو).
[صحيح مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص].
وأمرنا أن نسأل الله تبارك وتعالى له أن يُنيله المقام المحمود لأن كل مقام يُنزله فيه الله من فضل الله تبارك وتعالى ومن بركة حبيب الله ومصطفاه أن يُنزلنا معه.
قال أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم:
[يا رسول الله ما رأيت الله تبارك وتعالى إختصك بشيئ، إلا واختصنا به معك].
وهذا فضل عظيم وكرمٌ عميم لا نستطيع أن نحيط به في هذا الوقف القصير.
ثم بعد ذلك الشفاعة العُظمى في أهل اليمين، والشفاعة العُظمى فيمن دخل النار، والشفاعة العُظمى في الأبرار الذين دخلوا الجنة وهم أطهار، والشفاعة في الدرجات، والشفاعة في المقامات وكلها منازل يُنزله الله فيها تبارك وتعالى، ونشهدها عين اليقين، لأنها وردت في كتاب الله تبارك وتعالى، والذي يتحدث هو رب العالمين تبارك وتعالى.
فإن فضل رسول الله ليس له حدٌّ فيُعرب عنه ناطــــــــــــــــــــــــــــــــــقٌ بفم
فينبغي على المؤمن أن يسبح بقلبه في هذه الآيات القرآنية، يتلمَّس عطاءات الله سبحانه وتعالى للحضرة المحمدية، حتى يمن الله تبارك وتعالى عليه، ويكشف عنه الحجاب، فيراه صلى الله عليه وسلَّم بعين اليقين، ظاهراً جلياً في مقام النبوة والرسالة، فيتابعه صلى الله عليه وسلَّم عياناً بعد أن كان يتابعه بياناً، فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلَّم:
(صلوا كما رأيتموني أُصلي).
[صحيح الباني عن مالك بن الحوريث].
فيراه صلى الله عليه وسلَّم وهو واقفٌ بين يدي مولاه يُصلي لله فيتابعه كما يراه بعين قلبه، لا كما يسمع من العلماء ولا كما يقرأ من الكتب، يتابعه ظاهراً ويتابعه باطناً.
يتابعه ظاهراً في الأحكام التشريعية، وفي العبادات التي جاءنا بها من عند رب البرية، وفي الآداب التي كان عليها في حياته مع جميع من حوله في مرحلته الدنيوية، وفي أخلاقه العلية التي مدحه الله تبارك وتعالى بها في الآيات القرآنية، وكل هذا متابعةٌ ظاهرية.
ويتابعه باطناً في زهده وورعه وصدقه وإخلاصه وخشوعه ويتابعه بعد ذلك في مقامات اليقين، وفي مقام التسليم ومقام الحب لله رب العالمين، ومقام التوكل ومقام التفويض، وغيرها من المقامات، فيتابعه ظاهراً وباطناً، ويكون في هذا المقام داخلاً في قول الله في محكم القرآن:
﴿ وَأَنَّ هَذَا ـ والإشارة إلى شيئٍ ظاهر وهو نور الحبيب الباهر ـ
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ (153الأنعام) ـ
لم يقُل فامشوا عليه، ولكن قال: فاتبعوه عن رؤيا العيان التي أوقفكم الله فيها بعد البيان، فبعد البيان يرتقي إلى رتبة العيان، فتكون الشهادة هنا شهادة عن اليقين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا بشهود أنوار حضرته، وأن يكشف عنا البراقع وكل غينٍ وبينٍ حتى نكون له من خيار المتبعين.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
الخميس: 18/11/2021 الموافق 13 ربيع الآخر 1443 هـ دار الصفا الجميزه طنطا برنامج زووم