Sermon Details

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعلنا من الأُمة المُكرمة، أمة حبيب الله ومصطفاه. والصلاة والسلام على مصدر كل إكرام، وسرّ كل إنعام من الله عزَّ وجلَّ لجميع الأنام، سيدنا محمد إمامنا في الدنيا وشفيعنا يوم الزحام. صلَّى الله عليه وعلى آله الكرام ،وعلى أصحابه نجوم الإهتدا الذين يُمحى بهم الظلام، وعلى كل من تبعهم بخيرٍ إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم أجمعين، آمين … آمين، يا ربَّ العالمين.
أيها الأحبة: عندنا في علم البلاغة مقولة شائعة: ((البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال))، ولذلك أنا أستأذنكم في أن لا نُعلق على الآيات التي سمعناها اليوم، ونعيش بالروح والقلب مع سيدنا الإمام الحُسين رضي الله عنه، ونحن نعلم أن مولده الآن، ولكننا سنأخذ ما ينفعنا من سيرته، والعظة والعبرة التي ينبغي أن نعرفها في حياته ونشأته، وهذا هو الاحتفال الواجب أن يكون.
سيدنا الإمام الحُسين وأخوه الحسن أبناء الإمام عليٍّ بن أبي طالب، ولنا وقفةٌ هاهنا، كلنا يحتاجها؛ كل أفراد مجتمعنا.
فالنبي صاحب الوحي الذي شرَّفه الله بالنبوة، وشرَّفه بالرسالة، وتوَّجه بتاج الإصطفاء، يطلب ابنته التقية النقية الوجهاء والأغنياء فيأبى أن يُزوجها لهم، ويختار رجلاً من الفقراء لصلاحه وتقواه، لماذا؟ عملاً بقول الله – وليس له وحده بل لنا كلنا: (وَأَنْكِحُوا الايَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (32النور).
نُزوِّج أولادنا من الصالحات، ولو كُنَّ فقيرات، ونُزوِّج بناتنا من الصالحين ولو كانوا فقراء، فالغنى والفقر عرضٌ، والعرض يروح ويأتي، لكن مرض النفس قد لا يشفى منه الإنسان، فتكون حياته كلها همٌّ وغمٌّ ونكدٌ بين الزوجة وزوجها، أو بين الزوج وزوجته، ما الذي يزيل كل الهموم والغموم والأنكاد؟ إذا كان الرجل صالحاً والزوجة صالحة.
ذهب رجلٌ إلى الإمام الحسن يقول له: إبنتي جاءها خاطبون، فلان وفلان وفلان؛ وهم من الأغنياء، وفلان وفلان؛ وهم من الفقراء، فلمن أُزوجها؟ فقال له هذه الحكمة العظيمة: ((زوِّجها للتقي – فقال له ولِمَ؟ قال: إن أحبَّها أكرمها، وإن كرهها لم يُهنها)). فلن يقول لها: أبوك ولا أُمك، لا، ولن يُفكِّر أن يستحوز على جهازها ويُخفيه حتى لا تأخذ منه شيئاً، ويرفع عليها قضايا كيدية لينكِّد عليها حياتها، فلن يفعل ذلك – ليُرضي الله جلَّ في عُلاه.
فكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم – وهذه بادرة سنَّها لأصحابه ومشوا عليها، ونحن في زماننا متثاقلين أن نفعله!!.
طلب صلَّى الله عليه وسلَّم إحدى الصحابيات الفُضليات وقال لها: اذكري فاطمة لعليِّ، فذهبت إليه، وسألته: لِمَ لا تتزوج؟ فقال لها: وهل معي شئٌ؟ لأن سيدنا عليٌّ كان يعمل من كدِّ يده، فيُصبح في الصباح إذا أتاه عملٌ ذهب ليعمله، وإن لم يأته عملٌ يبقى ولا يذهب، فليس له وظيفة ولا دخل ثابت، ولا تجارة ولا زراعة، ولا شئ أبداً، فكان رجلاً فقيراً، ولكنه كان عند الله كبيراً، وله منزلةٌ كبيرة عند الله: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ) (13الحجرات). ولم يقُل الله: أغناكم، ولكن قال: ((التقيُّ))، والتقوى محلها القلب.
فقالت له: فكيف لو تيسَّرت لك الأمور كلها؟ فقال لها: كيف؟ فقالت له: ما رأيك في فاطمة بنت رسول الله ابن عمك؟ فقال لها: وكيف أتزوج من فاطمة؟ وهل معي شئ؟ فقالت له: هل أنت موافق؟ فإن كنت موافق فاترك الأمر لي، فقال لها: إني أتمنَّى ذلك. فذهبت لحضرة النبي وأخبرته فوافق. فماذا كان جهاز بنت حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم؟
جلد خروف – وهذا هو السرير والمرتبة التي يناموا عليها – وقصعة في البيت – يعجنوا فيها العجين، والتي يملأوا فيها الماء، والتي يغسلوا فيها، ولها وظائف متعددة، – والدولاب حبل ممتد بين الحائطين يضعوا عليه ثيابهم – هل رأى أحدٌ هذا الدولاب؟ كان موجوداً منذ زمن، وكان عند أهلنا ويُسمى بالدولاب، فهو الشماعة والدولاب وكل شئ بالنسبة للملابس – وكان في الجهاز كوباً يشربوا فيها الماء.
وجهزوها ودخلت بيتها، وقال لهم رسول الله: بعد أن تدخل بيتها انتظروا حتى آتي، فذهب صلَّى الله عليه وسلَّم وجلس بينهما، وبيَّن لنا إلى قيام الساعة ما على الزوج؟ وما على الزوجة، فقال له: (أنت عليك ما بخارج البيت، وهي عليها ما بداخل البيت). أي شئ يأتي من خارج البيت فعلى الرجل، لأنه هو الذي يتسوَّق ويأتي بطلبات البيت وكل ما يحتاجه البيت، وهي عليها ما بداخل البيت.
وتم الزواج – زواج الإمام عليُّ بالسيدة فاطمة بنت رسول الله التي يقول فيها سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمُل من النساء إلا أربع: مريم إبنة عمران، وآسية إمراة فرعون، وخديجة بنت خُويلد، وفاطمة بنت محمد)[1]. فهؤلاء الأربعة اللآئي وصلن لدرجة الكمال، يعني هي قد وصلت لدرجة الكمال رضي الله عنها وأرضاها.
رزقها الله عزَّ وجلَّ بولد، وسيدنا عليٌّ – كما تعلمون – كان فارساً مغواراً في الحروب، وكانوا يقولون: كفُّه ككفِّ أسد، يعني كان من قدراته إذا أمسك رجلاً من معصم يده بيده، لا يستطيع أن يتنفَّس. وأنتم تعرفون في غزوة خيبر رفع باب الحصن ليحتمي به بيديه الاثنين، وبعد إنتهاء المعركة فثلاثون رجلاً لم يستطيعوا تحريك الباب من مكانه؛ فكان معه قوة خارقة، وكان يُحب الحرب، فلما وُلد الولد قال: نسميه حرباً، فسيدنا رسول الله قال له: لا، بل نسميه الحسن، فاستجاب، وعقَّ عنه بكبش.
وحتى لا تختلفوا أيضاً مع الجماعة الذين يعملون مشاكل بدون داعي، يقولون: لا، إن الولد له كبشان، والبنت لها كبش واحد. والموضوع كلُّه سنَّة للمستطيع، فمن ليس عنده مقدرة لا يعقُّ لا بواحد ولا باثنين، ومن معه يعقُّ على حسب سعته، عندي إستطاعة أعقُّ باثنين فلا مانع، وعندي استطاعة أعقُّ بعجل فيكون أفضل، فالموضوع في غنىً عن المشاكل التي يعملها المسلمون مع هذه الأشياء البسيطة الصغيرة.
لكن سيدنا رسول الله عقَّ عن الحسن بكبش، وهذا فعل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَم، وهل يوجد فعلٌ آخر بعد فعل رسول الله؟!!. يأتي واحد متنطع يقول: لابد للولد من كبشين، فالنبي عقَّ بكبش وهذا شامل والأفضل والأكمل، فهذا الأمر على حسب الإستطاعة: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (7الطلاق).
بعد ذلك ولدت ولداً آخر، فأيضاً أراد الإمام عليٌّ أن يُسميه حرباً، فقال له رسول الله: سمِّيه الحُسين، إذن فمن الذي سماهم؟ سيدنا رسول الله صلَى الله عليه وسلَّم، وبعد ذلك أجنبت ولداً فسمَّاه مُحسن، وأنجبت بعد ذلك بنتاً فسمُّوها زينب، وهي السيدة زينب رضي الله عنها[2]، وتربوا جميعاً في بيت النبوة، وبيت السيدة فاطمة كان بجوار بيت سيدنا رسول الله صلَى الله عليه وسلَّم.
يعني من زار منكم البقاع المقدسة، يجد بيت سيدنا رسول الله في الأول، والجزء الكبير الذي خلفه هو بيت السيدة فاطمة، فكان بيتها يمر ببيت السيدة عائشة، وكان بجوارها مباشرةً بيت السيدة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها.
السيدة فاطمة من نُبلها عندما وجدت أن سيدنا رسول الله يهتم بالأولاد فيلاعبهم ويلاطفهم بشفقة وحنانٍ وعطف تعزُّ عن الوجود كله؛ يعمل نفسه جملاً ويركبهما الاثنين ويمشي بهما، فيراهم سيدنا أبو بكر فيقول: ((نعم المركوب مركوبكما))، فيقول صلى الله عليه وسلَّم: (ونعم الراكبان هما))[3].
يذهب ليُصلي فيجري الحسن ويتخطَّى الصفوف ويركب على ظهر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيظل النبيُّ ساجداً ويُطيل السجود فلا يرفع يده من عليه, ولا يُلقي به ولا أي شئٍ من هذا القبيل، بل يتركه حتى يأخذ غايته، وبعد أن ينزل يقوم، وبعد الصلاة يقولون له: أطلت الصلاة وظننا أنك قد قُبضتَ، فيقول: (إن ابني هذا إرتحلني فكرهتُ أن أُعجله)[4].
أولادنا أليسوا في حاجة إلى مثل هذا يا أحباب؟ أولادنا .. نحن من يصيبهم بالأمراض النفسية؛ من النهر والنطر والزغد والضرب والطرد، فمن أين أتينا بهذا الكلام؟ ليس في النبوة وليس في العلم، وليس في التربية النفسية الحديثة!!، فمن أين أتينا به؟ فهل نقلد من كان قبلنا في الجاهلية ولا يعرفون عنا شيئاً؟!! فنحن نقلد: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (21الأحزاب).
كان صلَّى الله عليه وسلَّم واقفاً على المنبر يخطب، وجاء الحسن والحُسين يدخلون من باب المسجد، وكان قد عودهم أن لا يقولوا: جدِّي – كما يقول أحفادنا الآن – ولكن يقولون: أبي .. أبي، فنزل من على المنبر، لأنه رأى أحدهم وقع على الأرض، وحمل الحسن بذراع والحُسين بذراع، وصعد بهما على المنبر وهو يحمل الاثنين معاً[5].
ما هذا الحنان؟ وما هذا العطف؟ أفلا يحتاج أولادنا لهذا العطف وهذا الحنان؟ الذي علمه لنا سيدنا رسول الله، وأعطانا درساً قاسياً في الشخص الذي جاءه فوجده يقبِّل هذا ويقبِّل هذا، فقال له الرجل: أتقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحداً منهم قطّ؟ فقال له: (أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟)[6].
فأنت ليس عندك رحمة فماذا أصنع لك؟ كيف لا تُقبل أولادك؟ فالقُبلة للطفل أحسن من وجبة غذائية، تربيت الرجل بيده على كتف الطفل بحنان أفضل من أن يأتيه بأحسن طعام في العالم ويُعطيه له، الأولاد أشوق للحنان والعطف والرحمة والمودة والمعاملة الطيبة التي يحتاجون إليها. لكن تُطعمه وتُسمِّمه بالكلام، أو تُطعمه وتسممه بالضرب، فماذا فعلت الآن؟ فهذا عمل مخالفٌ لهدي سيد الأنام صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالسيدة فاطمة رضي الله عنها عرفت أن سيدنا رسول الله يهتم بالأولاد، والأولاد ذاهبون قادمون عليه، فمِنْ سِن ثلاث سنوات علَّمتهم آداب الاستنجاء والوضوء، وعلمتهم أن لا يخرجوا على حضرته إلا على وضوء، لماذا؟ حفاظاً على الطهارة الكاملة لسيدنا رسول الله صلوات ربي وتسليماته عليه. وكان من ضمن مكارمهما إذا كانت مشغولة وليست موجودة وأحدهما بكى وجاع،كان رسول الله يضع في فمه لسانه فيرضع من لسان رسول الله ويشبع.
فتربوا على هذه التربية الإلهية النبوية، فكانا أتقياء أنقياء حتى قال فيهما سيد الرسل والأنبياء: (الحسن والحُسين سيدا شباب أهل الجنة)[7]. وهل في الجنة عُجُزٌ؟ وهل فيها شيوخ؟ لا، فكل من يدخل الجنة يدخلها شابٌ في سن الثلاث والثلاثين، فلا يبلى شبابهم، فهما سيدا شباب أهل الجنة، فسيدنا رسول الله كان رقيقاً في كلماته، لمَّاحاً في اختيار عباراته، فهما سيدا شباب أهل الجنة.
تفرغا لطاعة الله، والحُسين رضي الله عنه تفرَّغ تفرغاً تاماً لعبادة الله وطاعة الله، حتى أنه مما يُذكر عنه أنه حجَّ خمسة وعشرين مرةً ماشياً على قدميه – وركائبه تُساق أمامه – وليس هذا من قلة ما عنده، ولكنه يريد أن يعمل بالأشقِّ لينال رضاء الله عزَّ وجلَّ، كما كان يفعل سيدنا رسول الله، فكان يقوم الليل كله على قدمٍ واحدةٍ، فلماذا لا يقف على الاثنين؟ تذلُّلاً وتبتُّلاً وتضرُّعاً لذات الله عزَّ وجلَّ. الليل كله يقومه على قدمٍ واحدةٍ، ولذلك كانت تتورم قدماه من الدم، إلى أن قال له الله عزَّ وجلَّ: (طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى) (1، 2طه). وطأها يعني أنزلها، أنزل هذه القدم وصلِّي على الاثنين، فلم أُنزل عليك القرآن للشقاء.
فكان سيدنا الحُسين رضي الله عنه يحجُّ ماشياً من المدينة إلى مكة إلى المناسك – والركائب أمامه – تبتلاً وتضرعاً وإخباتاً لله عزَّ وجلَّ.
وكان هو وأخوه من أسخى الأسخياء، وكان شعاره الحكمة الراسخة التي عبَّر بها عن نفسه: ((حوائج الناس إليكم من فضل الله عزَّ وجلَّ عليكم، فمن بخل بنعم الله على عباده، نقلها الله عنه وحوَّلها إلى غيره)). العادة كما نرى ـ أن الناس تتضرر وتتبرَّم، عندما يأتيهم أُناسٌ يريدون مصالح، ولكنه كان يفرح ويقول: هذا من فضل الله علينا أنه يجعل الناس تحتاج إلينا، ومن يبخل فيُحذِّره ـ وهذا الكلام كان يقوله لأولاده ـ أن الله سيرفع هذه النعم وينقلها لغيره: ((حوائج الناس إليكم من فضل الله عزَّ وجلَّ عليكم، فمن بخل بنعم الله على عباده، نقلها الله عنه وحوَّلها إلى غيره)).
وكان من أصحاب المروءات البالغة، صاحب مروءة وكان يخوض المعارك مع الجيوش الإسلامية في الفتوحات، فاشترك في فتوحات بلاد الروم، وفي فتوحات بلاد فارس ويحارب كجنديٍّ عادي، ولا يقول: أنا جدِّي النبي، أو أنا كبير القادة أو غيره، لا، كان يحارب كجندي عادي.
بعد المعركة الأخيرة في بلاد فارس، وقع بنات كسرى في الأسر – وكسرى كان آخر ملوك كسرى – والغنائم كانت يوزعوها على الجيش، والجيش يأخذ كل واحد نصيبة ويتصرف فيه كما يريد، فمن مروءته قال: أبناء الملوك لا يُكنْ كأبناء السوقة – يعني الناس العاديين – فدعا سيدنا عبد الله بن عمر وسيدنا عبد الله بن عباس، وكنَّ ثلاث بنات، فقال: نشتريهن ونُحررهن من الرقَّ ونكرمهن ونتزوجهن، لأنهن أبناء ملكوك وكن يعشن في الرغد والغنى فلا نُذلّهن.
فتزوَّج من إحداهنَّ والتي أنجبت له سيدنا علي زين العابدين بن الإمام الحسين، والجماعة الفُرس كانوا يقدسون الملوك ويعتبروهم في مرتبة الآلهة، فعرفوا هذا الجميل لسيدنا الحُسين، ولذلك تشيَّعوا وعملوا التشيُّع الذي نسمع عنه، لماذا؟ لأنه أكرم بنات ملكهم، وإلا فلماذا لم يتشيَّع لأولاد الحفدة، لأن التشيَّع لأبناء الحُسين فقط، لأن سيدنا علي لم يكن له سيدنا الحسن وسيدنا الحُسين فقط، لا ولكن كان له أولاداً آخرين، محمد بن الحنفية وغيره وغيره، ولكنهم تشيَّعوا لأولاد الحُسين فقط، لماذا؟ ليُردُّوا له الجميل.
إذن فموضوع التشيَّع موضوع سياسي، فلا الحُسين له شأنٌ به، ولا الإسلام له شأنٌ به، وليس لنا شأنٌ به كلنا، ولكن الموضوع أخذوه سياسياً لإكرام سيدنا الحسين بنات الملك، وقالوا: المفروض أن تكون الخلافة إلى قيام الساعة للحُسين وذريته، وأخرجوا النظريات الشيعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وقد يعرفها بعضكم والبعض لا يعرفها، وهي موجودة الآن، لكنه ليس له شأنٌ بهذا الموضوع – لا من قريب ولا من بعيد – رضوان الله تبارك وتعالى عليه.
الإمام الحُسين رضي الله عنه وأرضاه بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان – وكان قد أخذ البيعة في حياته لابنه يزيد – وكانوا ماشيين على النظام الإسلامي بأنهم يختاروا بأمر الشورى بينهم، فكونه أعطاها لابنه فقد غيَّر النظام الذي كان يسير عليه الخلفاء الراشدون، فكثير من أصحاب رسول الله الذين يعيشون كأبناء الصحابة – ابن سيدنا عمر وابن سيدنا الزُبير، وغيرهم – إعترضوا على هذا الموضوع، لأنه يُغيِّر النظام السائد في الإسلام وهو: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ) (38:الشورى).
فالإمام الحُسين كان من ضمن الناس الذين لم يُقروا ببيعة يزيد، وإنما يريد أن تختار الأمة الإسلامية من يبايعوه.
ففي هذا الوقت الجماعة في بلاد العراق أرسلوا له وقالوا له: تعال معنا ونحن نؤيدك في هذا الطلب، فالبعض كالجماعة الذين لم يُوفَّقوا في التاريخ يقولون: أنه هو الذي طلب الخلافة، لا هو الذي أراد أن ترجع الأمور إلى مسارها الطبيعي، ويريد فقط من يؤيده، لأن يزيد كان معه جيشٌ، والحُسين لم يكن معه أحد.
أهل العراق أهل أهواء حتى أن سيدنا علي رضي الله عنه كان يقول لهم: ((يا أهل العراق يا أهل النفاق)).
وسيدنا الحُسين وهو ذاهبٌ لهم لم يكن معه إلا أولاده وأولاد إخوته ونساؤه، فكان العدد حوالي سبعين – بما فيهم النساء والأطفال – فلم يذهب ليحارب، فقابله الشاعر الفرزدق وكان يُحب آل البيت، فقال له: أين أنت ذاهب؟ فقال له: ذاهب للعراق، فما رأيك في هذا الموضوع؟ فقال: تركتُ القوم قلوبكم معك، وسيوفهم عليك. هم يحبونك ولكنهم سيحاربوك، فبعث ابن عمه مسلم ينظر الوضع، فذهب إلى البصرة وأخبر بأن الأعداد كثيرون ومنتظرين قدومك.
صلَّى خلفه صلاة المغرب عشرون ألفاً، وبمجرد ما أنهى الصلاة وقال: السلام عليكم، فلم يجد خلفه أحداً، لأنهم عندما شعروا بقدوم العسكر أسرعوا بالاختباء، ثم أخذوه وقتلوه.
فذهب الحُسين مضطراً فتقابل في كربلاء التي قُتل فيها، وكان معه كما قلنا سبعون، والجيش الآخر أربعة آلاف، فتفاوض مع قائد الجيش وقال له: أُتركني أرجع للمدينة، فقال له: لا. فقال له: تتركني أخرج للجهاد في سبيل الله، فقال له: لا. فيقول له: أفلا تتركني أذهب ليزيد فهو ابن عمي؟ فيقول له: لا. فقال له: وما المطلوب؟ فقال له: المطلوب رقبتك، وهو يريد أن ينال المنحة وتكون له يدٌ عند يزيد فأصر على القتل.
فقاتل سيدنا الحُسين وكان سيدنا علي زين العابدين عنده حُمَّى وكان الوحيد المريض، وكان سيدنا الحُسين عنده أربعة عشر ولداً، قتلوا أمامه كلهم في المعركة وهو يحارب، وعند موعد الصلاة ينتظرون ويُصلون، ويأتي أهل العراق كلهم ويصلون خلف الجماعة المقامة، وبعد الصلاة يمسكون بالسيوف ويحاربوه!! إلى أن كان يوم عاشوراء، فقد جاءه سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المنام وقال له: ستفطر عندنا اليوم، وفي هذا اليوم قُتل الإمام الحُسين، وجزُّوا رقبته وأخذوها وسافروا بها إلى يزيد في بغداد، ودُفن الجسم في كربلاء.
أمر يزيد بدفن الرأس في دمشق، وعاد وخاف أن يثور الناس، فبعد فترة أمر برفعها خُفية ودفنها في بلد إسمها عسقلان في فلسطين الآن. إلى أن جاء عهد الدولة الفاطمية التي حكمت مصر، وجاء وزير إسمه طلائع بن زريق، وكانت الشام تابعة للدولة الفاطمية، فقالوا: نأتي برأس الحُسين إلى مصر، فاستقدموا رأس الحُسين من عسقلان وبنى لها المكان الذي فيه الآن، ووُضعت فيه رأس الإمام الحُسين رضي الله تبارك وتعالى عنه.
أما الخلافات بين الناس؛ فيقولون: هنا الرأس بدون الجسم، أو هناك الجسم بدون الرأس، وهي خلافات ليست من دين في قليلٍ ولا كثير.
فالناس المعاصرين لنا كان منهم رجلٌ وكان الخطيب لمسجد سيدنا الحُسين، وكان اسمه الشيخ عبد ربه سليمان، ومات في أواخر الأربعينات، وكان من الصالحين على قدمٍ عظيم. جاء ليتعلم في الأزهر وأبوه ليس معه شئ، فماذا يفعل؟ إحتار في نفقاته. فذات يومٍ نام فرأى الإمام الحُسين في المنام وقال له: كلما إحتجت إلى مال فاذهب إلى السجادة التي في موضع كذا وارفعها تجد ما تحتاجه من المال. ومشى على ذلك حتى تعلَّم وتعيَّن مدرساً في الأزهر، وبعد أن كبر أصبح إماماً وخطيب مسجد الإمام الحُسين.
وذات يومٍ كانت جماعة يتحدثون معه فقال بعضهم: هنا الرأس فقط، وبعضهم يقول: لا، لا توجد الرأس، ومنهم من قال: الرأس بدون الجسم، فأخذ يجادل معهم، وكان من وجهة نظره أن الرأس فقط هنا. فرأى الإمام الحُسين في المنام وقال له: يا عبد ربه، الذي كان يُعطيك المال هل هو الرأس أم اليد؟!! هل الرأس أم اليد؟!!
فهذه حقائق إلهية، ولا يصِّح أن نُكيِّفها بعقولنا البشرية، فالرأس والجسم في عالم المحسوسات، لكن في عالم البرزخ فهو عالمٌ آخر ليس لنا إطلاعٌ على خصائصه ولا أحكامه ولا أحواله، فيجب أن نُسلِّم فيه الأمر لله عزَّ وجلَّ تسليماً كاملاً.
لكن الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه – وهذا ما حكاه بنفسه – كان في المدينة المنورة في بعثة، وحدث خلافٌ بين عبد الناصر وبين الملك سعود، فاستدعى عبد الناصر البعثة كلها، قال: فذهبتُ عند سيدنا رسول الله وقلتُ: يا سيدي يا رسول الله كيف أتركك وإلى أين أذهب؟ فقال: نمتُ فرأيتُ رسول الله يقول لي: لنا باب عندك في مصر وهو الحُسين، إذا أردتنا فاذهب إلى الحُسين، فهذا بابنا الموجود في مصر.
أنا أريد أن أقول: أن خلافات الظاهر ليس لنا شأنٌ بها، ولا نتكلم فيها ولا نحاول أن نشغل أنفسنا بها، لأنها تعوقنا عن السير إلى الله عزَّ وجلَّ، لكن أحوال الله عزَّ وجلَّ العليَّة البرزخية لا يدريها إلا ذاته، وأسوق إلى ذلك مثالاً ذكره السادة العلماء الأجلاء:
الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (من مات في المدينة حُشر معي، وكنتُ شفيعاً له، ولم يُعرض ولم يُحاسب يوم القيامة)[8]. لذلك الناس يتهافتون على الموت في المدينة والدفن في البقيع، فسئل بعض الصالحين عن ذلك فقالوا: نفرض أن رجلاً مات ودُفن في البقيع وهو ليس على نسق الصالحين؟ بل على النسق الآخر من المذنبين المسرفين الذين لم يتوبوا إلى رب العالمين؟ فقال: يضعه الناس في العين وتحمله الملائكة إلى خارج البقيع وتدفنه في أرضٍ أُخرى، ومن الناس من يُدفن في أرضٍ من أرض الله ويضعونه في العين، فتحمله الملائكة وتدفنه في البقيع.
فهذه أمورٌ برزخية ليس لنا شأنٌ بها أبداً ولا يدريها إلا ربُّ البرية عزَّ وجلَّ، مادُمنا لم نرى ولم نطلع، فليس لنا شأنٌ بهذا الأمر، ونترك الأمر لمقلب القلوب الذي بيده الأمر كله، وهو الله عزَّ وجلَّ.
لكننا نقتدي بالحُسين في سيرته، ونحاول أن نبحث عن بعض أحواله في التقرب إلى الله، وبعض أخلاقه الكريمة التي يتعامل بها مع خلق الله، لعل الله عزَّ وجلَّ ينظر إلينا نظرة رضا فيرزقنا متابعة هؤلاء الأقوام ويُلحقنا بهم، أو يجعلنا لهم من جُملة الخدام.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
[1] رواه البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) .
[2] روى الطبراني عن عليٍّ رضي الله عنه قال: (لما ولد الحسن سميته حرباً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أروني ابني، ماسميتموه؟ قلت: سميته حرباً، قال: بل وهو حسن، فلما ولد الحسين سميته حرباً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ايتوني بابني، ماسميتموه؟ فقلت: سميته حرباً، فقال: بل هو حسين، فلما ولد الثالث سميته حرباً، فقال: بل هو محسن، ثم قال: إني سميتهم بأسماء ولد هارون: شبراً وشبيراً ومشبراً”.
[3] المتقي الهندي كنز العمال عن جابر قال : دخلت على النبي (ص) والحسن والحسين على ظهره وهو يقول: (نعم الجمل جملكما! ونعم العدلأن أنتما). وعن جابر قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما، فقلت: نعم الجمل جملكما ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ونعم الراكبان هما).
[4] المتقي الهندي كنز العمال مسند شداد بن الهاد، دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة فخرج وهو حامل حسناً أو حسيناً، فوضعه إلى جنبه فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطال فيها، فرفعت رأسي من بين الناس فإذا الغلام على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعدت رأسي فسجدت، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له القوم: يا رسول الله، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، فكان يوحى إليك؟، قال: (لا، ولكن ابني إرتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته). أيضاً، عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي أو الظهر أو العصر وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه ثم كبر في الصلاة، فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها، فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر وأنه يوحى إليك، قال: (كل ذلك لم يكن، ولكن ابني إرتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته).
[5] روى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فأقبل حسن وحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ويقومان، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)، رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته)
[6] البخارى عن عائشة رضي الله عنها
[7] الترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وروى الطبراني عن حذيفة بن اليمان قال: رأينا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم السرور يوما من الأيام فقلنا يا رسول الله! لقد رأينا في وجهك تباشير السرور، قال: (وكيف لا أسر وقد أتاني جبريل فبشرني أن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما أفضل منهما).
[8] روى الدارقطني والبيهقي عن حاطب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بُعثَ من الآمنين يوم القيامة). وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم: (من مات في أحد الحرمين بُعثَ من الآمنين يوم القيامة، ومن زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة).
12 طفنيس ـ سهرة ديوان البلايكة – الأربعاء 25/1/2016م الموافق 27 ربيع أول 1438ه