الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، والذي جعله الله سراجاً لقلوبنا، ونوراً لأبصارنا، وضياءً لأرواحنا، وشفيعاً لنا يوم الدين عند ربِّنا. اللهم صلي وسلم وبارك عليه صلاة ترفع بها الحجب التي بيننا وبينه، حتى ينكشف لنا جمال حقيقته، وبهاء طلعته، ونصير من المتمتعين بجمال قربه ومودته، نحن وإخواننا أين كانوا وكيف كانوا، آمين يا ربَّ العالمين. أما بعد …
في الحقيقة لمَّا نحتفي بسيدنا رسول الله صلى الله عليه سلم، فنحن نحتفي بأرواحنا وقلوبنا والحياة الإيمانية التي مَنَّ بها علينا الله عزَّ وجلَّ؛ فنحن جميعاً بنا حياة إيمانية، وهذه الحياة فَضْلٌ تفضَّل علينا به الله عزَّ وجلَّ.
ما الذي بعث هذه الحياة في نفوسنا؟ وما الذي نشرها في قلوبنا؟ وما الذي جعل لواعج الشوق والغرام لطاعة الله وعبادة الله وفعل الخير الذي أمر به الله تنبعث في نفوسنا؟! سِرُّ هذا وسببُه هو قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [164آل عمران].
إذا نحن مِنْ غير نور الحكمة ونور البيان، ونور الإيمان، ونور القرآن – والسبب فيها جميعاً نُورُ النَّبِيِّ العدنان صلى الله عليه وسلم– نكون كما قال القائل:
وحقيقة هذا البيان لن تظهر إلا يوم لقاء الرحمن عزَّ وجلَّ عيانًا، فكثير من الناس يعتقدون في الدنيا أن الرجل بطوله وعرضه، وماله وحسبه ونسبه!! وهذه صورة باهته يراها كلُّ الناس!! فالمسلم وغير المسلم يرى هذه الصورة، لكن الإنسان الذي بلغ مقام الرجال عند الله ليس بمظهره ولكن بجوهره، فالذين رأوا الصورة البشرية حجبوا عن الحقيقة المحمدية!! ولذلك ربُّنا يحكي عنهم لمَّا أخْبَرَهُمْ رسولُنا صلوات الله وسلامه عليه بما جاء به من عند الله من الهداية، ماذا قالوا؟ ﴿أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ﴾ [24القمر]. واحداً مثلنا نتبعه ونمشي وراءه؟!! ماذا تريدون؟ نريد رجلاً معه هيبة أو مال، أو معه جاه أو منصب. هذه النظرة القاصرة التي نظرها الكافرون.
والكافرون الذين في زماننا كالكافرين الذين كانوا في زمنه صلوات الله وسلامه عليه، ينظرون نفس النظرة، ويكررون قولهم: ﴿وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [7الفرقان]. أي هذا النَّبِيُّ بَشَرٌ مثلنا، يأكل مثلنا، ويشرب مثلنا، ويذهب إلى السوق ويبيع ويشتري مثلنا، وهذا هو الحجاب الذي حجب الكافرين عن نور رسول الله!! ولذلك قال الله عزَّ وجلَّ ناعياً عليهم هذه النظرة القاصرة: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [198الأعراف]. فلم يروا المعنى والكمال الذي هو به نبيٌّ للواحد المتعال عزَّ وجلَّ!!! ولذلك عندما مَدَحَهُ ربُّنا، بماذا مدحه؟
صورته الظاهرة وأسراره الباطنة
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ولا يزال له من الصور الظاهرة والباطنة ما لا عدَّ له ولا حصر له، لكنه مُجْملاً فيه صورة ظاهرة يراها الكُلُّ، البعض يراها على الهيئة الآدمية، والبعض يراها منبلجاً فيها الحقيقة المحمدية!! والبعض يرى إنسانًا عادياً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويروح ويجيء، وهو صلى الله عليه وسلم الذي جنَّن الكُلَّ!! لأنه كما قال صلى الله عليهوسلم: {أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم} (رواه البخاري في صحيحه عن عليٍّ رضي الله عنه موقوفاً، ومسند الحسن بن سفيان, من حديث ابن عباس رضي الله عنهما). فمع الكافرين والجاحدين والمبعدين يستر المعاني الروحانية والأنوار الربانية، ويكتفي ببيان الإنذار لهؤلاء الكفار، لماذا؟ من أجل أن يقيم عليهم الحجة، لكن أصحابه صلى الله عليه وسلم كانوا يرونه في هيئة أخرى!!
والكلام هو الكلام، لكن الفارق بين من يرى بعين البصيرة ومن يرى بعين البصر، فمن رأى بعين البصر يقول: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [25المدثر]. والذي رأى بعين البصيرة يقول: (كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ خَرَجَ النُّورُ مِنْ بَيْنِ ثَنَايَاهُ) ماذا يرى هذا؟ وماذا يرى ذلك؟!!
وهو صلى الله عليه وسلم عندما كان يتكلم معهم لم يكن جهوري الصوت، ولكن كان صوته مثل خلقته، مثل هيئته، مثل بعثته، مثل ديانته، مثل كمال حالاته، هو النموذج الأفضل في جميع الأوصاف والكمالات!! فلا يوجد صورة في الأولين والآخرين أجمل ولا أكمل من صورته صلوات الله وسلامه عليه، في التقاطيع والملامح والبهجة، والله عزَّ وجلَّ اختار له الوسطية في كل شيء، فليس صوته مرتفعاً جداً ولا منخفضاً جداً، ولكنه وسط، وكذلك جسمه ليس طويلاً ولا قصيراً ولكنه مربوع، أما لونه فلا هو أسمر ولا هو أبيض شديد البياض، بل بياضه كان مُشْرَباً بِحُمْرَةٍ.
وهكذا قس على ذلك في جميع الأمور، فقد أعطاه الله أكمل الأوصاف، وأكمل التصويرات حتى الظاهرة، حتى قال فيه سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه:
يعني إن شئت قل: لو اجتمعت حكمة الحكماء، وعقل العقلاء، وذكاء العلماء والأطباء، وغيرهم من ذوي الشأن، أن يصنعوا صورة ظاهرية تكون أكمل صورة من بني الإنسان من بدء البدء إلى نهاية النهايات، فهي صورة نبِّيكم صلوا الله وسلامه عليه، لكن هذا الجمال وهذا الكمال لا يطلع عليه إلا من أراد الله عزَّ وجلَّ به الوصال بنبِّينا صلوات الله وسلامه عليه. فالكلُّ يرى الظاهر.
والعبرة من الظاهر والعبرة من هذه المعاني الباطنة التي منحها الله عزَّ وجلَّ له هي المقصد الذي كان يهتم به العارفون، فالمداحون كانوا يهتمون بالأوصاف الظاهرة، فيقولون عن حضرته: أنه كحيل العينين، أحمر الخدين، لكن ما لنا نحن وما لهذا الكلام: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [45الأحزاب]. أما العارفون فيرون شاهداً صورة، ومبشراً صورة، ونذيراً صورة أخرى ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ [46الأحزاب]. وهذه صورة ثانية اسمها: داعيًا إلى الله بإذنه، وصورة ثانية اسمها وسراجاً منيراً. هذا هو الشاهد الذي يتعبد به هؤلاء الذين يواجهون الشاشة المحمدية!!
فالأعمى عندما يقف أمام التليفزيون ماذا يرى؟ لا يرى أي شيء، فالشاشة تعمل أمامه ولكنه لا يرى شيئاً لأن الله هو الذي قال: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ [198الأعراف]. لأن عين البصيرة عمياء لا ترى إلا الصورة الظاهرة، لكن المؤمن يرى النور الخارج من بين ثناياه!! وهل المرء عندما يتكلم نجد هذا الكلام له نور؟!! نعم، سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه يقول: (كل كلام يخرج وعليه كسوة من نور القلب الذي خرج منه).
فليست العبرة للذي يسمع كالعبرة في الذي يرى نُورَ هذا الكلام، فهم وصلوا إلى درجة من الشفافية جعلتهم يرون نور كلامه عند حديثه صلوات الله وسلامه عليه. أي: أنهم لا يتمتعون من حضرته بالسماع فقط، ولكنهم يسمعون ويرون نُورَ كلامه صلوات الله وسلامه عليه.
مَرَاتِبُ صَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم
وهناك فارق آخر، هو أن الكلام الذي يتكلمه صلى الله عليه وسلم مع الكافرين كان لإقامة الحُجَجِ والبراهين، وكله بالقرآن، من أجل أن ينتهوا عن عبادة الأصنام ويعبدوا الله عزَّ وجلَّ، لكن عندما وصل مع أصحابه إلى مراتب الرُّقِي لم يحتاج إلى أنهم يرونه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا تحدَّث تسمعه العذارى في خدورهن – يعني: البنات العذارى اللاتي لم تتزوج تسمع حديث رسول الله وهي جالسة في بيتها!! كيف يصل صوته إليهم مع أنهم في البيوت داخل المدينة وهو في المسجد؟!!
حتى أن سيدنا عبد الله بن رواحة كان في قبيلة بني سالم بن عوف وهو واقف سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: اجلسوا فجلس، وعندما انتهى صلى الله عليه وسلم من حديثه وخرج رأوه جالساً، فقالوا له: لماذا أنت جالس ها هنا؟ فقال: سمعت رسول الله صلى اللهعليه وسلم يقول: اجلسوا فجلست، ولم أسمعه يقول قوموا. انظروا كيف سمع الصوت من مسافة بعيدة قرابة 2 كيلو متر تقريباً؟!!
وكذلك في خطبة الوداع، كان معه مائة ألف ينتشرون في كل أرجاء منى، ومسافة منى تزيد عن 5 كيلو متر تقريباً، منهم من كان ساكناً على أعلى الجبل – وكان من طبيعة العرب أن يبتعدوا عن بعضهم في السكن – وموزعين في منى كلِّها، قال سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منى فأخذ الله بأسماعنا حتى سمعناه جميعاً ونحن في رحالنا، فكان كل واحد منهم في مكانه وقد وصلهم صَوتُ رسول الله صلى الله عليهوسلم مع أنه لم تكن توجد أجهزة توصل الصوت لمسافة 5 كيلو متر في هذا الوقت، والإعجاز لأهل التسليم من المؤمنين والمؤمنات هو الذي جعلهم يستمعون إلى الأصوات رضي الله عنهموأرضاهم.
إذاً الحالات التي رأوها في هذا الصوت هل رآها الكافرين؟ لا، بل إن الكافرين أكثر من ذلك كانوا جالسين أمام بيته، وهم من خيار الشباب صحة وفتوة، وكانوا يتكلمون مع بعضهم، فيقول أحدهم: محمد يزعم أنه يأخذ جنان بلاد العراق وجنان بلاد الشام، وأن ملك كسرى وقيصر سيكون من بين مملكته، وكانوا يتحدثون مع بعضهم – فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نعم، أنا أقول هذا. وأخذ حفنة من التراب ووضعها على رؤوسهم، واحداَ واحداً – وهم في تمام اليقظة، وفي أشد الصحو – ولا يحسون به وهو يقرأ: ﴿يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ (ا، 2يس)، وبصوت عال وليس في سرِّه وهم لا يسمعونه. كيف يسمعون كلام بعضهم ولم يسمعوا كلام سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم؟!!
وأقول ذلك للذين لم يأخذوا بالهم ويقولون عنه: أنه بَشَرٌ مِثْلَنَا. فحتى في صورته البشرية صلى الله عليه وسلم كان فيها درجات من النقاء والصفاء لا تظهر إلا لأهل الكشف والاصطفاء، أما أهل البُعْدِ والجَفَاء فلا يرون منه صلى الله عليه وسلم إلا ما يراه نظرهم القاصر، ويطلع عليه عقلهم الكاسد.
فله صورة ظاهرية نحن جميعاً محتاجون أن نتمعن فيها، مثلما قلنا الآن في أوصافه الظاهرية، لأنه عندما تَمَعَّنَ الإمام أبو العزائم رضي الله عنهوأرضاه في ذلك قال:
فعندما يتمعن المرء ليميل إلى هذه الصورة الإلهية، ونحن مأمورون من الله عزَّ وجلَّ أن لا يكون شيء أغلى ولا أعزَّ ولا أرقى ولا أحبَّ إلينا من ذاته صلوات الله وسلامه عليه. كيف نحبه؟ عندما نعرف فيه هذه الكمالا،ت ونَتَمَعَّنُ في شيءِ من هذه الأوصاف الفاضلات. فالكمال لرسل الله وأنبياء الله؛ وكمالُ الكمال لسيدنا ومولانا حبيب الله صفيِّ الله صلى الله عليه وسلم.
فعندما نرى أوصاف الأنبياء نرى ذرة من كماله، لكن كماله هو فريد ليس له مثيل، وإليه الإشارة في محكم التنزيل: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ [6الضحى]. فنقول: هذه درَّة يتيمة، يعني: ليس لها مثيل ولا نظير. وهو صلى الله عليه وسلم يتيماً، أي: فريداً في جماله وكماله ونعوته وصفاته صلوات الله وسلامه عليه. هذه الأوصاف هي التي جذبت أصحاب رسول الله صلى الله عليهوسلم، وهي التي جعلتهم يَلْتَفُّونَ حوله ولا يودون أن يفارقونه صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين ولا أقل!!
ونحن مطالبون بأن نعرف ولو لمحة من هذه الصورة، حتى على الأقل عندما نأتي هناك في يوم الدين كيف نعرفه؟ لابد أن نكون قد رأينا ولو لمحة من معناه، أو وميضاً من نور مبناه صلوات الله وسلامه عليه. صحيح أنه هناك يكون نُورُهُ واضح ولكن لمن؟ ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ [40النور]. لأن الَّذِينَ رأوا هذا النُّورَ من الأول لا يبحثون عنه مرة أخرى، فلا يذهبون إلى آدم يطلبون منه أن ينقذهم من أهوال الموقف الذي نحن فيه، أو يذهبون إلى نوح، أو يذهبون إلى إبراهيم، أو يذهبون لعيسى ولموسى، بل يقولون مثلما قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنهوأرضاه:
اللهم صلي وسلم وبارك على الأصل الذي تفرعت منه جميع الأصول – وليس جميع الفروع – لأنه أصل الأصول، والفروع فروع لأصوله صلوات الله وسلامه عليه، والأصول: الأنبياء والرسل السابقون، والورثة وكمَّل الأولياء اللاحقون. هذه هي الأصول التي تفرَّعتْ عن أصل الأصول صلى الله عليه وسلم. فالذي يخرج من الدنيا – يا إخواني – ولم يمتِّع عين بصيرته وعين سريرته بنور حبيب الله، وجميل طلعة صفيِّ الله، ماذا رأى في هذه الدنيا؟!! ولو كان لفَّ الوجود كلَّه، ماذا رأى؟!! زهرة الحياة الدنيا!! لكن لابد لكل فرد أن يحاول – ونحن في أيام الفضل – قدر الاستطاعة أن لا يخرج من الدنيا إلاَّ بعد أن يرى لمحة، أو شعاعاً، أو قبساً من نور سيِّدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا النور ليس من شرطه الحضور حول جسده الشريف صلى الله عليه وسلم، لأنه كان هناك أناس حول رسول الله ولم يروه، وأويس القرني كان في اليمن ورآه وتمتَّع به، وتملى به، لماذا؟ لأنه عَشِقَ الجمالات والكمالات، فجاهد لإصلاح جهاز الاستقبال في القلب، فما زال يصفِّيه وينقِّيه ويرقيِّه إلى أن أشرق نُورُ الحبيب صلى الله عليه وسلم بذاته له فيه:
إذا يا إخواني فالصورة المحمدية عندما نطالعها، ونتمعَّن في كمالاتها الوهبيَّة الإلهيَّة التي أعطاها له الله عزَّ وجلَّ، نجد أن عينه في الوصف العادي لها مثل عين الرأس لجميع الناس، ولكن هل عين الرأس تستطيع أن ترى بها من هو خلفك؟ وكيف تراه؟!! فكان صلى الله عليه وسلم يقف في الصلاة، وبعد الصلاة يُحَدِّثُ أصحابه بما رآه منهم في الصلاة، فيقولون: يا رسول الله، كيف ترانا ونحن خلفك؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: {إني أرى من خلفي كما أرى من في الأمام} (بن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه).
وكان في المدينة والجيش في تبوك، وهو جالس في مسجده الشريف وأصحابه بين يديه يقول لهم: أمسك بالراية الآن زيد بن حارثة قطعت ذراعه اليمنى فأمسكها بذراعه اليسرى قتل زيد بن حارثة وأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، قطعت ذراعه اليمنى فأخذها باليسرى، قطعت ذراعه اليسرى فأمسكها بعضديه، أرى جعفر يطير في الجنة بجناحيه وأخذ الراية عبد الله بن رواحة. ممكن يقول أهل العقول هو يعرف ذلك لأنه قال لهم القائد زيد بن حارثة، فإن استشهد فجعفر بن أبي طالب، فإن استشهد فعبد الله بن رواحة، فإن استشهد فتخيَّروا رجلاً منكم، من هذا الرجل؟ قال: أمسك الراية خالد بن الوليد سيف الله المسلول على الكفار، وكان يصف المعركة وهو جالس في مكانه.
أين القدرات الموجودة في العين الحسيَّة التي ترى هذه المسافات؟ وكل ما ذكرناه يتنزل منه صلى الله عليه وسلم إلى ورثته فضلاً من الله عزَّ وجلَّ، والذي حدث معه حدث مع عمر بن الخطاب، أليس كذلك؟ وهو على المنبر ومشاهد للمعركة، كيف شاهده؟ وكيف سمع نداءه؟ هي وراثة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يحظى بها الصالحون من عباد الله. ونحن نحبُّهم لأننا نرى فيهم بعض هذه المعاني النورانية التي من أجلها أقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فقد أقبلوا عليه من أجل الصورة النورانية الموجودة فيه. ونحن لماذا نقبل على الصالحين؟ من أجل الآثار المعنوية التي ورثوها من الحضرة المحمدية، فنرى فيهم آثار رسول الله الروحانية.
قد نرى بعض الناس يطوف الكون من أجل أن يرى شعرة لرسول الله في مسجد في أفغانستان يسمونه مسجد الشعرة، أو ليرى البردة، لكننا نريد أن نرى الكشف الذي اختص به رسول الله!! والنور الذي تفضل به عليه الله!! والفضل الذي مَنَّ به عليه مولاه!! وهذا لا يوجد إلا في صور الصالحين القائمين بكيانهم في الدنيا، ومعهم تصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يعرضوا آثاره الروحانية، وجمالاته الربانية، ليجذبوا بها أهل الخصوصية للكمالات الربانية التي جمَّل بها الله حبيبه ومصطفاه صلى الله عليهوسلم.
فهذا سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه يقف في الصلاة – ويصلي بالناس إماماً – وبعدما ينتهي من الصلاة يحدِّث من خلفه بما فعلوه في الصلاة:
إذن العبرة بالجمالات النورانية التي ظهرت في الحقيقة المحمدية، وهي التي التف حولها الناس، فنحن نقول في الصلاة: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، وإلقاء السلام سُنَّة، وردُّ السلام فرض، ومن يستطيع أن يرد على العالم أجمع في وقت واحد إلاَّ الذي يرى بِنُورِ ربِّه ومعه خصوصية: {كُنْتُ سَمْعُهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرُهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَلِسَانُهُ الذِي يَنْطِقُ بِهِ} (الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه).
الذي أريد أن أقوله لإخواني: أنك لا تقف عند حدود الملامح الظاهرية، ولكن انظر بما فيك من نور الله إلى ما فيه من جمال الله، ولما فيك من معاني روحانية جمَّل الله بها قلبك. وكلنا فينا هذا الجمال: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [7الحجرات]. كلنا فينا زينة الإيمان ولم ننكشف عليها، لأنه لو رأى رجلٌ منا زينة واحدة ممَّا فيه – ممَّا جمَّله به الرحمن عزَّ وجلَّ – لترك الدنيا بما فيها، وَرَنَّ في أذنه قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: {لو اطلعتم على ما اطلعت عليه ما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولا تمتعتم بطعام ولا شراب، ولخرجتم إلى الصعداء تجأرون} (روى الترمذي عن أبي ذر بلفظ: “والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله لوددت أني كنت شجرة تعضد”). أي سوف تتركون الدنيا بما فيها وتمشون تقولون: الله .. الله .. الله، إلى أن تلقوا الله عزَّ وجلَّ بعد نهاية العمر المقدر لكم في هذه الحياة.
لكن كل رجل منا فيه من جمال الرحمن ما لا يستطيع أن يبينه بيان: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (10الحجرات). من الذي رأى هذه الزينة ؟ سوف نراها إن شاء الله كلُّنا هناك، والذي يراها هناك لا يغتر، ولكن هنا لو رأى لمحة منها ممكن يغتر ويضيع نفسه، وينسى المسئوليات التي كلفه الله عزَّ وجلَّ بها في هذه الحياة، ونحن اختارنا ربنا الأمة الوسط: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [143 البقرة]، فكانت لنا الخصوصية أن جعلنا الله على الهيئة المحمدية.
وأنواره صلى اللهعليه وسلم لا يطيق رؤيتها فضلاً عن وصفها الواصفون، لكن الله أخفاها فلا يطلع عليها إلاَّ كُمَّلُ الواصلين. وكذلك أنوار الإيمان التي زيَّنها الله في قلوبكم لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عزَّ وجلَّ على سرائركم وأفئدتكم رحمة من الله عزَّ وجلَّ بنا جميعاً. انظر إلى رسول الله بنور الإيمان الذي في فؤادك، ترى كمال الله وبهاء الله ظاهراً في حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يَمُنَّ علينا بالإيمان، ويتفضل علينا بجمال وجهه وجميل محياه، وأن يكرمنا به في الدنيا وأن يطلعنا على الكمال الذي حباه به مولاه، وأن ينعم علينا بوصاله وأفضاله وجوده وكرمه، حتى نصير نوراً في أنفسنا، ونوراً لأهلينا، ونوراً لإخواننا، ونورا لذوينا، ونوراً للخلق أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
……………………………………………………………………………..
الخميس 15 من ربيع الأول 1419 هـ 9/7/1998م مسجد الأنوار القدسية بالمهندسين بالقاهرة بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف