بسم الله الرحمن الرحيم – الحمد لله رب العالمين على فيض فضله وجوده القديم الذي واجهنا به قبل التقويم، وجعلنا دائماً وأبداً في أعين حضرته وبمراعاة نعمه وخيره وبره وفي كفالته تبارك وتعالى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نقاه مولاه وصفاه وصافاه وجعله الأسوة الطيبة لكل الصالحين ولأئمة المتقين من بدء البدء إلى نهاية النهايات، صلى الله عليه وعلى آله الأصفياء وأصحابه الأنقياء وكل من مشى على هديهم إلى يوم العرض والجزاء، وعلينا معهم أجمعين .. آمين آمين يا رب العالمين.
الأمراض القلبية هي أكبر حاجب يحجب السالكين عن مشاهدة أنوار الله المنبثة في الكائنات، وعن مشاهدة تجليات الله وإشراقاته التي يحظى بها الصالحون والمتقون في كل زمان ومكان.
سبب الحقد
وقلنا أن مرض الغضب يحدث للإنسان لخلاف بينه وبين غيره لا يستطيع الإنسان فيه أن ينتصر بالكلية لنفسه، فيظهر عليه الغضب، وتظهر عليه ملامحه التي سقناها فيما سبق.
فإذا استطاع الإنسان كظم غيظه عن التشفي لغضبه فإنه يكون تحت احد أمرين، إما أن يكون كظم غيظه ولم يتشفى لغضبه ابتغاء رضاء الله ووجه الله وهذا حال النبيين والصالحين وأئمة المتقين، نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون منهم أجمعين
فإذا لم يستطع الإنسان كظم غيظه ولم يستطع أن يشفي غيظه بنفسه احتقن الغضب في باطنه فصار حقداً، وهذا هو الذي نهى عنه نبينا وكتابنا، فكتابنا يقول: ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ” (47الحجر) من أي غل وحقد وحسد وغيرهم، وكما ورد بالأثر: (المؤمن ليس بحقود) فالمؤمن لا يعقد في قلبه حقداً على أحد، لأنه حتى لو لم يشف غضبه فإنه يكظم غيظه طالباً رضاء الله، وراجياً متابعة سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
مساوئ الحقد
ونهى نبينا صلى الله عليه وسلَّم عن الحقد وبرَّأ المؤمن من الحقد، لماذا؟ لأن الحقد يثمر مساوئ وأمور كثيرة لا تنبغي أن تكون في المؤمن الذي يتقرب إلى ربه ويرجو أن يكون من أهل عطائه ونواله:
الأمر الأول: الحقد ينبعث منه في قلب الإنسان الحسد، وهو أن يتمنى زوال النعمة عن أخيه الذي حدث بينه وبينه جفوة، فيغتَّم إذا جاءته نعمة، ويُسَّر إذا وافته مصيبة والعياذ بالله، وهذا لا ينبغي أن يكون حال المؤمن في أي زمان أو مكان.
الأمر الثاني: أنه ربما لأنه يرى نفسه على الحق ولم يستطع أن يشف غيظه، فيظن أن الله سبحانه وتعالى سيوفي له بحقه من عنده، فإذا أصابت أخيه مصيبة يشمت فيه ويقول: هذا جزاء ما فعله معي، أو هذا لأنه فعل معي كذا وكذا، ويظن أن هذا البلاء الذي نزل بأخيه إنما هو غضب من الله تبارك وتعالى لأجله وليس بهذا تُوصف هذه الأشياء.
الأمر الثالث: أن هذا الإنسان إذا حقد على أخيه فإن هذا يدعوه إلى هجره وخصامه، والخصام ليس من سُنَّة المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:
فمن هجر أخاه وخاصمه لمدة سَنَة كان كأنه في الجرم قتله، ويُحاسب على ذلك على أنه قتله عند الله تبارك وتعالى، لذلك لا ينبغي لمؤمن أن يقطع أخاه المؤمن لأي سبب من الأسباب الدنيوية، فإذا هجره فإنما لوقت، ثم يرجع إليه وخيرهما الذي يبدأ أخاه بالسلام.
الأمر الرابع: أنه قد يُعرض عن أخيه لكِبْرٍ في نفسه، فيرى أخاه أصغر منه وأحقر منه، فيبعد عنه احتقاراً له، واستصغاراً لأمره، وهذا لا ينبغي لمؤمن، فقد قيل: (كفى بالمرء إثماً أن يرى الخير في نفسه، والشر في إخوانه).
الأمر الخامس: أنه بمجرد هجره وخصامه يظن أنه قد أُحلَّ له ما حرَّمه الله من الكذب عليه، ومن الغيبة في شأنه، ومن إفشاء أسراره، ومن هتك ستره، وغيرها من الأشياء التي هي محرمات، ومن أجلها كانت الأوامر في سورة الحجرات واضحة بينه لكل من يطيع الله ورسوله في كل زمان ومكان.
الأمر السادس: أنه ربما يتحدث عن أخيه، وأثناء حديثه يحاول أن يحاكيه – أي يقلده – في الحديث استهزاءًا به، أو يحاكيه في حركاته، أو يحاكيه في مشيه، وكل ذلك سخرية منه: ” لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ” (11الحجرات).
الأمر السابع: أنه ربما تهيج نفسه ولا تسكن إلا إذا آذاه، كأن يؤذيه بضرب أو بشيء يؤلمه في بدنه أو في أهله أو في ماله، لكن كما قال صلى الله عليه وسلم:
فلا ينبغي للإنسان أن ينتهك عرض أخيه المسلم بأي وسيلة كانت لأن ذلك نهانا عنه الله ورسوله.
الأمر الثامن: أنه قد يدعه الحقد إلى أنه لا يستوفي أخيه حقه إن كان له حقٌ عنده، كأن يكون مديناً له فيرفض سداد دينه، أو يكون من ذوي رحمه فيترك صلته، أو يكون قد ظلمه فيرفض رد مظلمته، وكل ذلك حرام حرَّمه ديننا.
الأمر التاسع: أن يظلمه، وهذا الجور الذي نهى عنه الله ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فما أعظم مساوئ الحقد الذي نسأل الله تبارك وتعالى أن يبرئنا وإخواننا وأحبابنا منه أجمعين.
إذاً الذي ينبغي على المسلم في كل هذه الأمور هو العدل، والعدل أن يستوفي حقه إن كان له حق بغير زيادة ولا نقصان، أو الإحسان، والإحسان أن يعفو عمن ظلمه ويصل من قطعه ويعطي من حرمه، وذلك هو الفضل وتلكُم هي عبادة النبيين والصديقين والصالحين في كل زمان ومكان.
علاج الحقد
وعلاج الحقد كما بيَّنه الله، وكما مشى عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في أخلاق الإسلام السمحاء النبيلة الراقية، فإن أخلاق الإسلام تدعو إلى العفو عند المقدرة، وتدعو الإنسان أن يلاين أخاه، وأن يعامله ويعاشره لوجه الله تبارك وتعالى، وهذا الخُلُق وهو العفو صعبٌ على بني الإنسان، ككل الصفات الطيبة، فهي صعبةٌ على نفس الإنسان، لكن الإنسان يعالج نفسه في ذلك بنتيجة هذه الصفات الطيبة.
العفو
فإن الإنسان إذا عفا عن أخيه فإنه يحدث له أمرٌ عاجلٌ في نفسه، فإن طبيعة أي إنسان أنه مجبولٌ على حب من أحسن إليه، كما ورد ببعض الأثر: (جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها) فإذا أحسن الإنسان إلى أخيه فإنه لا بد أن يتبدَّل بغضه وحقده إلى حب وإلى مودة وإلى خُلُق كريم مع أخيه الإنسان.
كذلك الإنسان إذا عفا عن أخيه فإنه يشعر في باطنه براحة عميقة، إذ تزول الأحقاد من قلبه، وعندما تزول الأحقاد تنهمر مكانها شلالات من النور الإلهي تشيع الرضا والسكينة فيه، ويكون جزاء ذلك تقوى وورع وعبادة يراها الإنسان المحسن في علاقاته بالناس، وفي علاقته بالمجتمع، وفي علاقاته مع مولاه.
فيرى من مولاه مزيداً من النفحات والعطاءات الربانية والتجليات الروحانية، ويرى مع الناس أنه يتعامل معهم بالسكينة والحلم ويذهب عنه التوتر والتشنُّج والتعصُّب، لأنه أنبت في نفسه شجرة الرضا وسقاها بماء العفو، فهو ينظر إلى الناس نظرة المتسامح الكريم.
وإمامنا في ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلَّم في نماذج لا تُعد ولا تُحد، نكتفي منها بموقفه الكريم عندما فتح الله تبارك وتعالى عليه مكة، ودخل الكعبة فاتحاً ووقف على باب الكعبة وجاء أهل مكة جميعاً فقال لهم:
وهكذا كان السلف الصالح على نهج طيب في العفو، فقد قال مسلم بن يسار لرجل دعا على ظالمه: (كِلِ الظالم إلى ظلمه فإنه أسرع إليه من دعائك عليه إلا أن يتداركه بعمل وقمن ألا يفعل).
وعن ابن عمر عن أبي بكر أنه قال: (بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي: (من كان له عند الله شيء فليقم، فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس).
وعن مبارك بن فضالة قال: وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر المنصور فكنت عنده إذ أتى برجل فأمر بقتله، فقلت: يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر، فقلت: يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسن، قال: وما هو؟ قلت: سمعته يقول (إذا كان يوم القيامة جمع الله عزوجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم منادى فينادي: من له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا) فقال: والله لقد سمعته من الحسن؟ فقلت: والله لسمعته منه، فقال: خلينا عنه.
وروي أن سارقاً دخل خباء عمار بن ياسر بصفين، فقيل له: اقطع يده فإنه من أعدائنا، فقال: بل أستر عليه لعل الله يستر عليه يوم القيامة.
وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه.
وقال الفضيل: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان جلس إليَّ في المسجد الحرام ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه، فجعل يبكي، فقلت: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا، ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل.
يكفي أن الله عز وجل خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو، فقال له: ” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ” (199الأعراف).
وقال لنا تبارك وتعالى محبذاً لهذا الوصف الجميل: ” وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ” (237البقرة) ولذلك قال صلى الله عليه وسلَّم لمن يدَّعي أن العفو قد يُعرضه للمذلة أو المسكنة أو الضعف والإستهانة:
وهذا العفو لا يكون إلا في الأمور الخاصة بي، أي الأمور الشخصية، أما الأمور الخاصة بالشريعة الإلهية أو بالذات المقدسة الإلهية فإن الإنسان لا ينبغي عليه أن يعفو عنها، بل يكون أشد حمقاً على الظالمين، لأن الله عز وجل جعل ذلك شيمة في سيد الأولين والآخرين، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:
والذي يعين الإنسان على فضيلة العفو أن يتسم بالرفق في كل أحواله، في تعاملاته مع أهله، وفي تعاملاته مع أحبابه، وفي تعاملاته مع جيرانه، وفي تعاملاته مع كل خلق الله، فإن الرفق هو أساس الخُلُق الحسن، قال صلى الله عليه وسلَّم:
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمِّلنا بالعفو والصفح، وأن يكرمنا ويُدخل علينا فضيلة الرفق، وأن يجعلنا ممن يتأسون بخير الأنبياء وإمام المرسلين الصالحين في كل وقت وحين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
[1] البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه
[2]سنن أبي داود ومسند أحمد عن أبي خراش السلمي رضي الله عنه
[3]سنن ابن ماجة وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه