Sermon Details
المرض الحادي عشر:الغرور
الغرور أن يرى الإنسان عن شُبهة وخدعة في نفسه أنه على شيء في أمر ما، وأنه لا يشابهه أحد في هذا الأمر، في حين أنه مغرور لأنه يوافق هوى نفسه، ولا يوافق الحقيقة ولا العلم ولا القوانين المتعارف عليها بين العلماء واالصالحين من عباد الله تبارك وتعالى، فكل من اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور.
حقيقة الغرور
المغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون في هداية نفسه كفيلاً، وبقي في العمى فاتخذ الهوى قائداً والشيطان دليلاً، وهؤلاء يقول فيهم رب العزة تبارك وتعالى: ” وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الاخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ” (72الإسراء).
وفي هذا المقام نجد أن الغرور السبب الأساسي فيه هو بعض أنواع الجهل التي تنتاب الإنسان فلا يعلم حقائق الأشياء ويغيب عنه أسرارها، فيظن بما يُهيأ له أنه وصل واتصل وهو بعيد بالكلية عما يدَّعي، فهي دعوى.
والغرور يقول فيه الله سبحانه وتعالى: ” فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ” (33لقمان) ويقول فيه صلى الله عليه وسلَّم:
{ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ }[1]
أهل الغرور هم أصلاً الخوارج الذين كانوا يطيلون الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ولا يتأكدون أن قلوبهم حاضرة أو مستحضرة لله تبارك وتعالى فيما فعلوه وعملوه، ذهب نفر من هؤلاء إلى أم الدرداء زوجة أبي الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه وكان اسمه عُويمر، والذي قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
{ حَكِيمُ أُمَّتِي عُوَيْمِرٌ }[2]
سألوها عن عبادته، فقالت: (ليست كعبادتكم، ولكنه يجلس ويتفكَّر).
فكان أكثر عبادته هي التفكر في نفسه والتفكر في الكائنات ليصل بذلك إلى شدة تعظيم الله تبارك وتعالى في قلبه وهيبته وجلاله وخشيته في جميع الأوقات.
فلما جاء رضي الله عنه وحكت له ما دار بينها وبينهم، قال رضي الله عنه: (يا حبذا نوم الأكياس – العقلاء – وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟! ولمثقال ذرة من بِر مع تقوى ويقين أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين).
أصناف الغرور
الغرور ينقسم إلى صنفين: غرور الكفار وغرور العصاة والفساق.
أما غرور الكفار فمنهم من غرتهم الحياة الدنيا بزينتها وبهجتها وملك ناصيتها، ومنهم من غرَّه بالله الغرور فلم يستخدموا العقل الذي وهبه لهم الله والفطرة التي أوجدهم عليها الله، وأخذوا ينظرون إلى الأشياء الحسية ليستدلوا بها على حضرة الله فوقعوا في هذا الغرور، وهؤلاء لا علاج لهم إلا بتصديق الإيمان، أو بالبرهان الكامل على خلق الله سبحانه وتعالى وصنعته في الأكوان، والأكوان وما فيها دلائل على وجود حضرة الرحمن تبارك وتعالى.
وكان الله عز وجل يخاطب هؤلاء في القرآن بقوله: (يا أيها الناس) لأنهم ناسين لفضل الله وإكرام الله ونعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى.
والله عز وجل له حكمة عظيمة عجيبة في الدنيا، فإن الله قد يحمي عبده الذي يحبه من الدنيا وهو يحبه، كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه، وهكذا تعامل الله مع المؤمنين في متاع الحياة الدنيا.
ولذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا: (ذنب عجلت عقوبته) ورأوا ذلك علامة المقت والإهمال، وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا: (مرحباً بشعار الصالحين).
أما المغرور فهو الذي إذا أقبلت عليه الدنيا ظنَّ أن هذا كرامة له من الله، وإذا صُرفت عنه الدنيا بشهواتها وحظوظها وملاذها ظن أن ذلك من هوانه عند مولاه، فإذا أمن في هذا الوقت مكر الله فهو في غرور شديد، نسأل الله الحفظ من ذلك إلى يوم الوعيد.
أما غرور العصاة والمذنبين من المؤمنين فكقول بعضهم: إن الله كريم وإنا نرجوا عفوه ونطمع في جنته، ويتكلون على ذلك ويؤمنون الأعمال، ومن رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن ولم يعمل صالحاً، أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور لأنه لا يُحصِّل في الآخرة، ولا يَحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح.
وصف الصالحين المخلصين
قال سيدي محي الدين بن العربي رضي الله عنه في وصف الصالحين السابقين والمخلصين منهم إلى يوم الدين: كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به وما يفعلونه ويقيدونه في دفتر، فإذا كان بعد العِشاء حاسبوا نفوسهم وأحضروا دفترهم ونظروا فيما صدر منهم من قول وعمل، وقابلوا كُلاً بما يستحقه، إن استحق استغفار استغفروا، أو توبة تابوا، أو شكراً شكروا، ثم ينامون بعد ذلك بعد محاسبتهم لأنفسهم.
ثم تكلم عن المُخلَصين منهم فقال: فزدنا عليهم في محاسبة الخواطر: ” وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله” (284البقرة) فكنا نقيد ما تُحدِّث به نفوسنا وتهم به ونحاسبها عليه، وهذا فعل الصالحين الصادقين الذين يطمعون في معية سيد المرسلين صلى الله عليه وسلَّم.
أصناف المغترين
والمغترين في نظرنا كثير وكثير، ولكن نكتفي منهم ببعض الأصناف الظاهرة:
1- المغترون بالعلم، وهم فِرَقٌ، منهم قوم أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوراح وحفظها من المعاصي وإلزامها الطاعات، وهؤلاء يقولون ما لا يفعلون: ” لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ” (2-3الصف) وفيهم يقول صلى الله عليه وسلَّم:
{ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ }[3]
ويقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه:
وعالمٌ بعلمه لم يعملن |
مُعذب بالنار قبل عُبَّاد الوثن |