• Sunrise At: 6:05 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

3 نوفمبر 2022

مرض الغرورو

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

المرض الحادي عشر:الغرور

الغرور أن يرى الإنسان عن شُبهة وخدعة في نفسه أنه على شيء في أمر ما، وأنه لا يشابهه أحد في هذا الأمر، في حين أنه مغرور لأنه يوافق هوى نفسه، ولا يوافق الحقيقة ولا العلم ولا القوانين المتعارف عليها بين العلماء واالصالحين من عباد الله تبارك وتعالى، فكل من اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور.

حقيقة الغرور

المغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون في هداية نفسه كفيلاً، وبقي في العمى فاتخذ الهوى قائداً والشيطان دليلاً، وهؤلاء يقول فيهم رب العزة تبارك وتعالى: ” وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الاخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا ” (72الإسراء).

وفي هذا المقام نجد أن الغرور السبب الأساسي فيه هو بعض أنواع الجهل التي تنتاب الإنسان فلا يعلم حقائق الأشياء ويغيب عنه أسرارها، فيظن بما يُهيأ له أنه وصل واتصل وهو بعيد بالكلية عما يدَّعي، فهي دعوى.

والغرور يقول فيه الله سبحانه وتعالى: ” فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ” (33لقمان) ويقول فيه صلى الله عليه وسلَّم:

{ الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ }[1]

أهل الغرور هم أصلاً الخوارج الذين كانوا يطيلون الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ولا يتأكدون أن قلوبهم حاضرة أو مستحضرة لله تبارك وتعالى فيما فعلوه وعملوه، ذهب نفر من هؤلاء إلى أم الدرداء زوجة أبي الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه وكان اسمه عُويمر، والذي قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:

{ حَكِيمُ أُمَّتِي عُوَيْمِرٌ }[2]

سألوها عن عبادته، فقالت: (ليست كعبادتكم، ولكنه يجلس ويتفكَّر).

فكان أكثر عبادته هي التفكر في نفسه والتفكر في الكائنات ليصل بذلك إلى شدة تعظيم الله تبارك وتعالى في قلبه وهيبته وجلاله وخشيته في جميع الأوقات.

فلما جاء رضي الله عنه وحكت له ما دار بينها وبينهم، قال رضي الله عنه: (يا حبذا نوم الأكياس – العقلاء – وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟! ولمثقال ذرة من بِر مع تقوى ويقين أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين).

أصناف الغرور

الغرور ينقسم إلى صنفين: غرور الكفار وغرور العصاة والفساق.

أما غرور الكفار فمنهم من غرتهم الحياة الدنيا بزينتها وبهجتها وملك ناصيتها، ومنهم من غرَّه بالله الغرور فلم يستخدموا العقل الذي وهبه لهم الله والفطرة التي أوجدهم عليها الله، وأخذوا ينظرون إلى الأشياء الحسية ليستدلوا بها على حضرة الله فوقعوا في هذا الغرور، وهؤلاء لا علاج لهم إلا بتصديق الإيمان، أو بالبرهان الكامل على خلق الله سبحانه وتعالى وصنعته في الأكوان، والأكوان وما فيها دلائل على وجود حضرة الرحمن تبارك وتعالى.

وكان الله عز وجل يخاطب هؤلاء في القرآن بقوله: (يا أيها الناس) لأنهم ناسين لفضل الله وإكرام الله ونعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى.

والله عز وجل له حكمة عظيمة عجيبة في الدنيا، فإن الله قد يحمي عبده الذي يحبه من الدنيا وهو يحبه، كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه، وهكذا تعامل الله مع المؤمنين في متاع الحياة الدنيا.

ولذلك كان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا: (ذنب عجلت عقوبته) ورأوا ذلك علامة المقت والإهمال، وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا: (مرحباً بشعار الصالحين).

أما المغرور فهو الذي إذا أقبلت عليه الدنيا ظنَّ أن هذا كرامة له من الله، وإذا صُرفت عنه الدنيا بشهواتها وحظوظها وملاذها ظن أن ذلك من هوانه عند مولاه، فإذا أمن في هذا الوقت مكر الله فهو في غرور شديد، نسأل الله الحفظ من ذلك إلى يوم الوعيد.

أما غرور العصاة والمذنبين من المؤمنين فكقول بعضهم: إن الله كريم وإنا نرجوا عفوه ونطمع في جنته، ويتكلون على ذلك ويؤمنون الأعمال، ومن رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن ولم يعمل صالحاً، أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور لأنه لا يُحصِّل في الآخرة، ولا يَحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح.

وصف الصالحين المخلصين

قال سيدي محي الدين بن العربي رضي الله عنه في وصف الصالحين السابقين والمخلصين منهم إلى يوم الدين: كان أشياخنا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به وما يفعلونه ويقيدونه في دفتر، فإذا كان بعد العِشاء حاسبوا نفوسهم وأحضروا دفترهم ونظروا فيما صدر منهم من قول وعمل، وقابلوا كُلاً بما يستحقه، إن استحق استغفار استغفروا، أو توبة تابوا، أو شكراً شكروا، ثم ينامون بعد ذلك بعد محاسبتهم لأنفسهم.

ثم تكلم عن المُخلَصين منهم فقال: فزدنا عليهم في محاسبة الخواطر: ” وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله” (284البقرة) فكنا نقيد ما تُحدِّث به نفوسنا وتهم به ونحاسبها عليه، وهذا فعل الصالحين الصادقين الذين يطمعون في معية سيد المرسلين صلى الله عليه وسلَّم.

أصناف المغترين

والمغترين في نظرنا كثير وكثير، ولكن نكتفي منهم ببعض الأصناف الظاهرة:

1- المغترون بالعلم، وهم فِرَقٌ، منهم قوم أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوراح وحفظها من المعاصي وإلزامها الطاعات، وهؤلاء يقولون ما لا يفعلون: ” لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ” (2-3الصف) وفيهم يقول صلى الله عليه وسلَّم:

{ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ }[3]

ويقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه:

وعالمٌ بعلمه لم يعملن

مُعذب بالنار قبل عُبَّاد الوثن

وهو يشير إلى حديث النبي الذي يقول:

{ أَوَّلُ النَّاسِ يُقْضَى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ }

وذكر منهم:

{ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ، لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ }[4]

وفي رواية أخرى:

{ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[5]

هؤلاء قوم أحكموا العلم والعمل وواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا منها الصفات المذمومة عند الله من الكِبر والحسد والرياء وطلب الرياسة وحب الظهور وغيرها.

ومنهم طائفة اشتغلوا بالمجادلة بالأهواء والرد على المخالفين، وكل همهم أن يقرأوا ما في الكتب ليستعينوا بها على جدال غيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ }[6]

2- الغرور بالوعظ والتذكير، وهؤلاء طائفة اشتغلوا بالوعظ والتذكير للناس، وظنوا أنهم بما فعلوا وبما وعظوا يكفيهم ذلك فلا يحتاجون إلى العمل، وهذا تغرير لأن المؤمن التقي النقي الذي لا يقول إلا بعدما يطبق ما يقول عملاً على هيكله ومسرح نفسه، ثم يأمر بعد ذلك أهله ثم يأمر بعد ذلك غيره، يبدأ الإنسان بنفسه في العلم والعمل، فإذا قال استمع الناس إلى قوله ونفذوا ما طلبه منهم.

3- الغرور بالعبادة، وهؤلاء الذين يغترون بالعبادة والعمل الذي يظنون أنهم يتوجهون به إلى حضرة الله، وهم أيضاً فِرَقٌ، نذكر منهم على سبيل المثال فرقة أهملت الفرائض واشتغلت بالنوافل، وفهموا خطأًحديث الله القدسي الذي يقول فيه مع شدة وضوحه:

{ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ }[7]

فأقبلوا على النوافل وأهملوا الفرائض، وهذا يتنافى مع الاقتداء بحضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلَّم وأصحابه المباركين والأولياء والصالحين الصادقين أجمعين.

فإننا دائداً وأبداً نبدأ أولاً بالفرائض، فإذا فرغنا منها اشتغلنا بما تيسر لنا من النوافل، ولكن الأساس الذي نُعول عليه في التقرب إلى الله هو أداء الفرائض تأسياً بحبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.

4- الوسوسة، وهؤلاء منهم فِرقة غلب عليها الوسوسة في نية الصلاة، وإذا حضرت الوسوسة إلى إنسان شغلته عن الوضوء الصحيح، فيمكث يتوضأ أحياناً بالساعات، ويقف أحياناً لينوي الصلاة دقائق لا تُعد، وهو يظن أنه لم ينوي النية الصحيحة، وهذه الوسوسة في حاجة إلى علاج، والعلاج لا يكون إلا من رجل حكيم ماهر في اتَّباع الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلَّم.

5- الانشغال بمخارج الحروف، وهؤلاء تغلبت عليهم الوسوسة في مخارج الحروف، فكل ما يهتمون به أن تكون المخارج سليمة في النطق بآيات كتاب الله، وفي غضون ذلك لا يهتمون بحضور القلب ولا الصفاء ولا النقاء ولا الإخلاص لله تبارك وتعالى.

صحيح أنه لا بد من إتقان المخارج في الحروف، لكن لا بد من توافر الإخلاص والخشوع والحضور مع الله تبارك وتعالى أثناء ذلك.

روى سيدي عبد العزيز الدريني رضي الله عنه وأرضاه أنه كان له نقوداً عند تاجر في بلدة قريبة منه، وذهب ذات ليلة مع صلاة المغرب ليطلب منه نقوده التي استدانها منه، فصلى المغرب وراء رجل في مسجد في قرية وسط بينهما، وهذا الرجل أخطأ ولحن في بعض الحروف، فنوى في نفسه بعد انتهاء الصلاة أن يترك المال عند صاحبه ولا يذهب إليه الآن ويجلس ويتفرغ لتجويد الحروف والمخارج لهذا الرجل الذي صلَّى بهم إماماً، فما كان من الرجل بعد انتهاء الصلاة إلا أن قال له: يا عبد العزيز انهض واذهب مسرعاً إلى صاحبك فإنه قد جمع جموعه وبيَّت السفر من الصباح الباكر إلى بلاد الشام، فاذهب إليه قبل أن يُقلع للسفر، فذهب كما قال الرجل ثم رجع إليه متعجباً، فقال: يا عبد العزيز أتقنتم الحروف ولم تُتقنوا الخشوع والحضور مع رب العالمين تبارك وتعالى، فلم تصلوا إلى الصفاء والنقاء الذي يقول فيه الله: ” إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ” (29الأنفال).

6- الغرور بالحج والمجاورة، وهؤلاء فِرقة – وإن كان قلَّت في هذا الزمان – كانوا يغترون بالإكثار من الحج، بأن يعد حجَّات له ويحج كل عام، ليكون في نظر الناس يستحق الإمامة.

وبعضهم كان يجاور في بيت الله الحرام بأن يقيم في بيت الله الحرام أو بجواره مدة، أو يجاور حضرة النبي ويقم في المدينة المنورة مدة من الزمن، ويظنوا أنهم بذلك قد يصلون إلى ما يريدون ويُعَدوا عند الله من المقربين، والقرب قرب معنوي لا قرب جسماني، فإنهم بذلك وقعوا في هذا الخطأ الفادح لأن القرب إلى الله في أي زمان ومكان يكون بالقلوب، ويكون بالأرواح التي تطير من الأشباح في أي زمان أو مكان إلى حضرة المليك القدوس تبارك وتعالى.

7- غرور بعض الصوفية، وهؤلاء منهم فرقة اغتروا بالزي وظنوا أنه كل شيء، فكل همهم أن يلبس العمامة الخضراء أو العمامة الحمراء ليراه الناس منتسباً لأهل البيت، واغتروا بالهيئة الظاهرة من لبس الجُبة والعمامة وإسدال اللحية وغيرها من المظاهر، واهتموا كذلك بحفظ بعض حِكَم الصالحين، وبعض الروايات المحكية عن الواصلين، ويتحدثون بها بين الناس ليغتر بهم الناس ويظنوا أنهم من كبار العارفين بالله تبارك وتعالى، مع قوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ }[8]

أي أنه لا يهتم بظاهره، وإنما يهتم بباطنه لأن الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }[9]

أما الطائفة الضالة بين رجال الصوفية فهم الذين وقعوا في الإباحة، وطووا بساط الشرع ولم ينفذوا أوامر الشريعة المطهرة، وادَّعوا أنهم وصلوا إلى الله، وأن الله أسقط عنهم الأعمال الظاهرة بالجوارح، وهؤلاء قال فيهم الإمام الجُنيد رضي الله عنه وأرضاه: (إن قوماً ادَّعوا إسقاط الفرائض ويدَّعون أنهم وصلوا، فإنما وصلوا إلى سقر والعياذ بالله تبارك وتعالى).

ومن هؤلاء من يبيح السفر مع النساء ويقول: أختي في الله، ويبيح أيضاً أن يحضر النساء مع الرجال في حلقات الذكر أو في الموالد، وهؤلاء جميعاً خالفوا أصل الأصول، وأول أصل من الأصول أن يكونوا متَّبعين لسيدنا رسول الله في قول الله: ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا ” (21الأحزاب).

8- أرباب الأموال وغرورهم، وهؤلاء طائفة من أرباب الأموال تحرص على أن يكون لهم كيان في الدنيا فيبنون مساجد ليُكتب عليها أسماؤهم، أو مدارس لتُخلد عليها ذكراهم، أو رباطات وأماكن للضيافة لتكون ذاكرة أو مذكرة لأهلها بهم، وهؤلاء يكون عملهم إما فيه رياء، وإما عملهم لطلب الثناء والمدح من الخلق، وهؤلاء يقول فيهم الله: ” يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ” (188آل عمران).

فإن الذي يعمل العمل لله لا يرجو أن يطَّلع عليه أحد سواه، بل إنه يُخفيه حتى عن أعز المقربين لتكون له خبيئة صالحة عند رب العالمين تبارك وتعالى.

ومنهم طائفة اشتغلوا بالأموال وأمسكوها ولم ينفقوها في محاب الله ومراضيه، واشتغلوا بالعبادات البدنية بقيام الليل وصيام النهار وتلاوة القرآن، وقد حُكي حال رجل من هؤلاء إلى بشر بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه، فقال رحمه الله: لقد دخل في غير بابه، فإن الله عز وجل ما دام أعطاه مالاً فبابه الإنفاق، فترك باب الإنفاق المختص به، وزاحم الفقراء في قيام الليل وصيام النهار وتلاوة القرآن، وهذا لا يليق ولا يجوز.

فكل إنسان له عبادة بحسب ما أعطاه الله من النعم الظاهرة والباطنة عليه أن يعرفها من عارف، ويقوم بها لينال من الله العوارف والمعارف.

النجاة من الغرور

النجاة من الغرور يلزم فيها ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أن يحكِّم الإنسان عقله الذي وهبه له الله في أي عمل أو صنيع يقوم به في هذه الحياة، فإن العقل نور، ويهدي الإنسان للعمل الذي يحبه الله.

الأمر الثاني: أن يعرض نفسه على العلم أو على العلماء، فلا يقوم بعمل إلا إذا نفَّذ قول الله: ” فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ” (43النحل) فإذا علَّموه وفهموه يقوم بالعمل الذي وضحوه له، لأنه الباب الذي فتحه الله تبارك وتعالى له، ومنه يأتيه رزقه في عالم البطون من الألطاف الإلهية والعلوم الوهبية والمكاشفات الربانية وغيرها من الأرزاق الخفية التي يدخلها الإنسان من باب العلم والعمل المطابق للعلم من عالِم بالله تبارك وتعالى.

الأمر الثالث: أن يعرف نفسه أولاً، فإذا عرف الإنسان نفسه عرف ربه، فعرَّفه الله الدنيا وعرَّفه الله الآخرة، وعرَّفه الله سلوك الطريق إليه والعلم الذي يقربه إليه، وعرَّفه ما يباعد بينه وبين القرب من الله، وأعلمه بآفات الطريق وعقباته وغوائله، فيمشي على هدى وبصيرة، وهو يقول كما قال الله لحبيبه ومصطفاه: ” قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ” (108يوسف).

نسال الله تبارك وتعالى أن يُعرِّفنا بأنفسنا أولاً، وأن يجمعنا على العرفاء الحكماء الخالصين المخلصين ثانياً، وأن يوقظ فينا الحنين إلى حضرته، والباعث إلى الوصول إلى مقامات قربه تبارك وتعالى، وأن يحفظنا من غوائل النفس ووساوس الشيطان، وأن يجعلنا من عباد الرحمن الذين ليس للشيطان عليهم سلطان.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] جامع الترمذي وابن ماجة عن شداد بن أوس رضي الله عنه

[2] سير أعلام النبلاء

[3] المعجم الصغير للطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه

[4] صحيح مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[5] جامع الترمذي وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه

[6] سنن ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما

[7] صحيح البخاري وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه

[8] جامع الترمذي والحاكم عن أنس رضي الله عنه

[9] صحيح مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه

الجميزة – السنطة -الغربية   الخميس 9 من ربيع الآخر 1444هـ 3/11/2022م1

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid