• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

26 اكتوبر 2000

منح العارفين

،

شارك الموضوع لمن تحب

مِنَحُ الْعَارِفِينِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي مَنْ توكَّل عليه كفاه، ومَنْ دعاه لبَّاه. والصلاة والسلام على حبيب الله ومصطفاه، سيدنا محمد وآله ومن والاه. وبعد ….

حِكْمَـةُ الإِسْـرَاءِ لِلأَنْبِيَاءِ

الإسراء والمعراج للأنبياء والمرسلين، أنهم جميعاً أخذ الله عليهم العهد قبل إيجاد الحياة الكونيَّة، وهم في العوالم الروحانيَّة أنه صلى الله عليه وسلم رسولهم: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ﴾، وهم نبيُّون، ﴿لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ﴾ [81آل عمران]. والرسالة لا تكون إلا بعد تكليفه مِنْ الحقّ، ولا تكون إلا في عالم الخلق، لكن قبل الخلق كانت النبوة، فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: { إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةِ عِيسَى قَوْمَهُ، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَكَذَلِكَ تَرَى أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ} (مسند الإمام أحمد والمستدرك للحاكم وصحيح ابن حبان عن العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه).

أي أن آدم لم يكن قد بدأ الحياة الآدمية بعد، كان صلى الله عليه وسلم عند الله خاتم الأنبياء، وليس المرسلين، فالرسالة بعد أن يختاره الله ويكلِّفه بتبليغ شرعه ودينه إلى خلق الله: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ﴾ [39الأحزاب]. أي يبلغونها في عالم الدنيا، لمن يبلغونها؟ للخَلْق الذين وُجدوا ونشأوا بينهم ووسطهم.

لكن الله لم يكلِّف نبياً برسالة قبل وجوده في الحياة الدنيا، كانوا قبل القبل بين يدي الله يناجون الله، ويشاهدون من معاني عظمة الله، وجمال الله، وكمال الله، ما به تسعد أرواحهم وحقائقهم النورانية، ولم يكن عليهم تكليف في ذلك الحين من ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ، فقال لهم الله: ﴿ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ ﴾. فما المطلوب منهم؟ ﴿ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ هو الذي يصدِّق على ما جاءوا به من عند الله: ﴿ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ﴾ [81آل عمران].

إذن لابد لجميع الأنبياء أن يؤمنوا بختام الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وكذلك يؤمنوا به بعد بعثته، وبعد اصطفاء الله له بتبليغ رسالته، ونزول الوحي عليه بتمام شريعته، فكان أن دعاهم الله جميعاً ليُحَقِّقَ لهم هذا الميثاق. كم كان عددهم؟

سأل عن ذلك سيدنا أبو ذر رضي الله عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ النَّبِيُّونَ ؟، قَالَ: مِائَةُ أَلْفِ نَبِيٍّ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ. قُلْتُ: كَمِ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ؟. قَالَ: ثَلاثُمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ } (رواه البيهقي في سننه الكبرى وفى المستدرك على الصحيحين للحاكم وشعب الإيمان عن أبى ذر الغفاري رضي الله عنه، وأول الحديث قَالَ أبو ذر رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَاغْتَنَمْتُ خَلْوَتَهُ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً. قُلْتُ: وَمَا تَحِيَّتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَكْعَتَانِ؛ فَرَكَعْتُهُمَا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاةِ فَمَا الصَّلاةُ ؟ قَالَ: “خَيْرٌ مَوْضُوعٌ فَمَنْ شَاءَ أَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الإِيمَانُ بِاللَّهِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ).

بعدد أهل بدر، مائة أربعة وعشرين ألف نَبِيٍّ، لكن كما نعلم؛ فالمذكور منهم في القرآن خمسة وعشرون، ولكن الله قال: ﴿ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ﴾ [78غافر]، أي في القرآن، ﴿وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [21 الإنسان]، إلا في عالم المعاني والقرب والتداني.

فوقفوا جميعاً في سبعة صفوف، وصلَّى بهم إماماً ليحظوا بإمامته، ولينالوا شرف الإيمان به واتباع شريعته، وليكونوا جميعاً من أمته صلوات الله وسلامه عليه:

صُفّوا وراءك إذ أنت الإمام لهم               قد بايعوك على صدق المتابعة

أبوهموا أنت يا سر الوجود ولا               فخر و سرهمو  قبل  المعاهدة

صليت متوجهـــــــاً لله معتصــــماً                بالله حتى بدا نور المفاضــــــــــلة

فنالوا بركة إتباعه، وأصبحوا من أهل شريعته. والشريعة التي أنزلها الله لجميع رسل الله هي الإسلام: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ [19آل عمران]. ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [132البقرة].

إذن فإن الدِّين عند الله كله هو الإسلام. واليهودية والنصرانية أقوال بشرية: ﴿الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى﴾ [14المائدة]. لم يقل الله ذلك، ولكنهم هم الذين قالوا على أنفسهم: ( إنا هدنا)، يعـني: رجعنا ﴿إِنَّا هُدْنَـا﴾ [156الأعراف]. سمُّوا أنفسهم اليهود، وسمَّى الآخرون أنفسهم النصارى. لكن الدين عند الله، من بدء البدء إلى نهاية النهايات هو الإسلام، ولا دين سواه، قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿ِمِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾ [78الحج]. دين واحد هو الإسلام، فأخذوا عليهم العهد، وجددوا هذا العهد، وصلَّى بهم ركعتين، ليكون إماماً لهم في الدنيا، ويوم لقاء الله عزَّ وجلَّ.

وهناك حِكَمٌ كثيرة يضيق الوقت عن ذكرها، من جملتها – وليس من تفصيلها:

أن الله عزَّ وجلَّ أجاب للأنبياء ما أخَّره لهم في تحقيق الرجاء بعد لقائهم بسيِّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فكلُّ مَنْ كان له مطلب أخَّره الله، أعطاه الله له في هذه الليلة المباركة، وعلى سبيل المثال: فقد طلب موسى من الله أن يراه، وقال كما أنبأنا الله: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [143الأعراف]، فأمهله الله إلى هذه الليلة وقال في حقه: ﴿فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ﴾ [23السجدة]، وتمتَّع في هذه الليلة بجمال الله مرات، ظاهراً ناصعاً ساطعاً في حبيب الله ومصطفاه صلوات الله وسلامه عليه:

وإِنَّما السرُّ  فِي مُوسَى  يُرَدِّدُهُ           لِيَجْتَلِي حُسْنَ مَولاهُ حِينَ يَشْهَدُهُ

ليتمتع بجمال الله، وكمال الله، الذي ظهر على حبيب الله ومصطفاه بعد قاب قوسين أو أدنى.

أَسْرَارُ العُرُوجِ لِلْعَالمَ الأَعْلَى

أمَّا بالنسبة لملائكة الله والعوالم العلوية، فلهم نصيبٌ في رسالته؛ فإن الله لم يجعله رسولاً للبشر، وإنما رسولاً للكل، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [28 سبأ]. فهو رسول المرسلين والنبيين، ورسول الملائكة والمقربين، ورسول الملأ الأعلى وما بعد الأعلى، كما هو رسول أهل الأرض، ورسول الجنِّ، ورسـول كل عوالم الله عزَّ وجلَّ.

فكما صرف إليه نفراً من الجِنّ، وأيضاً في تلك الليلة عندما لم يؤمن به أهل الطائف؛ أرسل الله إليه نفراً من الجن وهو راجع إلى مكة، فآمنوا به وصدقوا به، وكانوا نفراً من أهل نصيبين – وهي بلدة من بلاد الشام وهي الآن في تركيا – فآمنوا به، وكانت من الآيات في تلك الليلة. ثم أخذه الله ليعْلِمَهُ أنه إن كان قد كذبته هذه الشرذمة مِنْ البشر، فإنه قد آمن به الجنُّ، وآمن به النبيون والمرسلون، وصدَّق به كل أهل عليِّين وعالين من الملائكة المقرَّبين؛ فلماذا يأسى على هؤلاء؟ ولماذا يحزن على الأشقياء من هؤلاء؟ فأمره الله ألا تذهب نفسه حسرات عليهم، لأنه رسول للكلِّ صلوات الله وسلامه عليه.

فذهب إلى أهل كل سماء ليعلِّمهم الوحي الخاص بهم من الله، والمقدار اللازم لهم في شرع الله – فهل تكليف الملائكة كتكليفنا؟! أبداً – فالملائكة في عبادة ثابتة منذ خلقهم الله إلى يوم الدين، ولا يرتقون، ولذلك فقد قال الله على لسان كبيرهم: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [164الصافات]، أي ثابت. أما المؤمنون فهم درجات عند الله، قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [11المجادلة]. فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبهم من الرحمة التي خصَّه الله بها، وقال لنا مبرزاً عُلُوَ قدرها وشأنها: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [107الأنبياء]، وكل ما سوى الله، فهو من العالمين.

فلم يقل الله (من العالَمَيْن)، كما يفسرها بعض المفسرين بأنهم الجنُّ والإنس، ولكن الله قال: ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾ جمع عَالَمْ، فكل ما سوى الله له نصيبٌ في رحمة رسول الله التي غمره بها، وفتحها له مولاه عزَّ وجلَّ.

فكان يوزِّع الرحمة على الأنبياء والمرسلين، ثم على الملائكة المقربين. ولذلك قد عبَّر الله عزَّ وجلَّ عن الرحمة التي حفَّتْ بيت المقدس بعد تشريفه بسيد الأولين والآخرين، فقال عز شأنه: ﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [1الإسراء]، وذلك عندما ذهب رسول الله ومن معه من الأنبياء والمرسلين. وهناك فرق عظيم بين: ﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ وبين: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [97 آل عمران].

فأخذ الأنبياء والمرسلون، والملائكة والمقربون؛ نصيبهم من صاحب الرسالة الأقدس صلوات الله وسلامه عليه. وتعجبون إذا علمتم شيئاً من علوم أهل الخاصة!!! فقد كان سيدي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه رجلاً أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وكان في بلاد المغرب، ولكنه بَلَغَ في الصفاء والنقاء والطُّهر والبهاء لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يغيب عنه أبداً؛ يقظة ومناماً، حِلاً وترحالاً، وكان إذا سأله سائل يقول: (انتظر حتى أسأل رسول الله).

ومن جملة هذه التفصيلات العجيبة أنهم سألوه: كيف تتسع الجنَّة؟ وبم تنضج ثمار الجنَّة؟ وذلك أنَّ الجنة ليس فيها شمسٌ ولا قمر – والذي ينضج الثمار في عالم الأرض الشمس والقمر، فبعض المزروعات تنضجها الشمس، والخضروات والفواكه جُلُّها ينضجها القمر، ولذلك فإنها تكبر في الليالي القمرية. والجنَّة: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾ [13الإنسان]. فكيف تنضج؟ وكيف تمتد؟

فقال رضي الله عنه مُلْمِحَاً برذاذ من علوم المكاشفة، وهي العلوم التي يتفضَّل بها الله على أحباب الله، كشفاً وعياناً وشهوداً، وليس اطلاعاً ولا قراءة ولا بياناً، من: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [75الأنعام].

فقال رضي الله عنه: (إن الملائكة الحافين بالجنَّة، إذا أراد الله عزَّ وجلَّ اتساعها، أمرهم أن يتحركوا ويصلُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحنُّ الجنَّة إلى أصلها، فتسعى إليهم فتمتد بأمر الله عزَّ وجلَّ. وإذا أراد ثباتها، ألهمهم التسبيح والتقديس؛ فتخشى جلال الله فتنكمش. وعندما يريد الله إنضاج خيرها، وتكميل ثمارها، وتجميل حُورها، وإتمام قصورها وبهائها وبنيانها، هلَّ عليها بالحبيب الأعظم فيتمُّ كل شيء فيها بطلعته صلوات الله وسلامه عليه، فدخل الجنَّة ليتم لنا الأمر).

وهذه الأسرار التي يحكيها الصالحون والأبرار، هي التي عليها المدار في كلامنا الليلة عن حكمة الإسراء، وهي أسرار للأخيار، والمصطفين، والأبرار والأطهار، الذين هم أنتم إن شاء الله عزَّ وجلَّ.

الآَيَاتُ الْكُبْرَى

هذه الرحلة فيها حكمة لنا أجمعين: فإن الله فيها يُعلي هممنا، ويفتح المجال لسمو أرواحنا، حتى نخرق أسوار عالم الأكوان، ونسوح بأرواحنا وأنوار قلوبنا في الملأ الأعلى، إلى حيث قدَّر لنا الرحمن عزَّ وجلَّ، فجعل الله عزَّ وجلَّ حكمة الإسراء لحبيبه ظاهرة في قوله عزَّ شأنه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾، لماذا؟﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [1الإسراء].

الحكمة العليا لكي يرى من آيات الله: آيات مُلْكِيَّة في عالم الأرض، وآيات روحانيَّة في بيت المقدس – فقد رأى أرواح النبيين والمرسلين – وآيات علويَّة وسماويَّة في السموات العلى، وآيات جنانيَّة في الجنات، وآيات نورانيَّة في عوالم الأنوار، وآيات لوحيَّة، وآيات قلميَّة، وآيات عرشيَّة، وآيات إلهيَّة، وآيات قدسيَّة؛ آيات لا عدَّ لها ولا حدَّ:

وَمَاذَا بَيَانِي وَالعُقُولُ عَمِيَّةٌ           وَلا كَمٌّ بَلْ وَلا كَيْفٌ فِي الأَكْوَانِ

والأسرار ليس فيها كمٌّ ولا مقدار؛ فكانت الحكمة بالنسبة للحبيب الأعظم أن يريه الله هذه الآيات. وفتح الله عزَّ وجلَّ الباب للمصطفين من أمته، والأخيار من أتباع شريعته الذين لبسوا ثياب العبودية لله، وصاروا عبيداً لحضرته، ولذلك لم يقل الله: سبحان الذي أسرى بنبيه، أو سبحان الذي أسرى برسوله، حتى لا يغلق الباب، بل إنه فتح الباب للأحباب؛ فقال: ﴿بِعَبْدِهِ﴾.

فكلُّ من تمكَّن من الوقوف بنفسه وقلبه وروحه، على أعتاب العبوديَّة، وتجمَّل بأوصاف العَبِيد؛ فله قِسْطٌ ونصيب – من المكاشفات – على قدره، وعلى قدر صفائه ونقائه، حتى يكون من الذين قال الله فيهم ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [32 فاطر]. أي لهم نصيب في وراثة الكتاب، وهو صلى الله عليه وسلم لبُّ الكتاب، ونورُ الكتاب، وحقيقةُ الكتاب – صلوات الله وسلامه عليه، فكأن الله يقول لنا في ليلة إسراء ومعراج حبيبنا: من يريد قسطاً من الأنوار؟ ومن يطلب سياحة في عالم الملكوت مع الأبرار؟ ومن يريد أن يطَّلع على الكتاب الذي يقول فيه العزيز الغفار: ﴿إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [18-21المطففين]؟ ولم يقل: يقرأه، ولكن ﴿يَشْهَدُهُ﴾ بعين اليقين ﴿الْمُقَرَّبُونَ﴾ فيطَّلعون على ما فيه.

كان سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه – وهو منهم – إذا جاءه سائل يسأله عن آية في كتاب الله؟، يقول: (انتظر، ثم يخفض رأسه لحظة، ثم يرفعها ويقول: اطَّلعتُ على اللوح المحفوظ؛ فوجدت فيه معنى هذه الآية وهو كذا وكذا). أين يقرأ التفسير؟ في ألواح العلي القدير عزَّ وجلَّ. وهل هناك تفسير في ألواح الله؟ إلى ذلك الإشارة في قول الله: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [19القيامة]، أي: هناك بيان عندنا خاص لكتاب الله عزَّ وجلَّ!!

فهؤلاء القوم نما شوقهم، وعلا سعير الغرام لحضرة الحقِّ في قلوبهم، وانفتقت المحبَّة في كل أرجاء أفئدتهم لحبيبهم صلوات الله وسلامه عليه، وأخذوا الطريق القويم، والمنهج المستقيم، من الإسراء والمعراج للرؤوف الرحيم صلوات الله وسلامه عليه .

الْمُكَاشَفَةُ بِالْغُيُوبِ

كيف يرى الإنسان الغيوب؟ غيوب القلوب – وفي القلوب غيوب!! وأسرار النفوس؟ وكوامن الخـواطر؟ وما كتبه الله بقلم القدرة على عوالم الأشياء؟ ليفصح عن أسرارها للعارفين والحكماء والألبَّـاء؟ فإن لله رجالٌ؛ تناديهم الحقائق، وتفصح لهم عما ادَّخره الله عزَّ وجلَّ فيها من خير للخلائق، فقد تناديه ورقة في شجرة، وتقول: جعل الله فيَّ كذا وكذا وكذا، فيأخذ الأسرار منها: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [44الإسراء].

كل هذه الأشياء تحتاج إلى أمر واحد بيَّنه لنا الله مع حبيبه ومصطفاه: فقد كان صلى الله عليه وسلم  نائماً عند الكعبة، ثَّم جاءته الملائكة الكرام؛ فأيقظوه، وأخذوه، وشقُّوا صدره، وأخرجـوا قلبه، ووضعوه في طست من ذهب، وغسلوه بماء زمزم[1]، وقد جعل الله ذلك ليلاً لتعلم علم اليقين: أن هذه الأسرار لا تظهر وأنت مشغول بشيء عليه ضوء النهار، وإنما إذا أردت أن يكاشفك الله بالأسرار؟ فغُضْ عينك عن زينة الدنيا وزخرفها وبهجتها، واسمع إلى الله وهو يقول لحبيبه ومصطفاه، أو يقول لنا في شخصه صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [21الإنسان]. لماذا يا ربِّ؟ ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [21 الإنسان]. أي رزق ربك من العلم الإلهامي، ومن الفتح الشهودي، والكشف الرباني، والنور القدسي، وخزائن الفضل الإصطفائي، هي خير وأبقى مما تراه وتشهده في عالم الناس، وليس هناك مجال لقياس.

إذن من أراد الورود، فعليه أن يغضَّ عين قلبه، وليس عين رأسه عن زينة الدنيا، فإن الذي غضَّ عين قلبه تنظر عين رأسه ولا يتحرك قلبه لأنه مشغول البال بالواحد الكبير المتعال عزَّ وجلَّ:

غُضْ عَيْنَ الحِسِّ وَاشْهَدْ بِالضَّمِير       تَشْهَدَنَّ يَا صَبُّ أَنْوَارَ القَدِير

هل يستطيع الإنسان أن يرى بالعينين في وقت واحد؟ لا يكون ذلك إلا لمن ملك حال نفسه، وفارق كونه ولبسه. ولكن في البداية: فإن على أهل العناية أن يغضُّوا عين الحسِّ ليصحو ضمير القلب ونور الربِّ، فيكشف الله لهم الحجاب؛ فيرون بنور حضرة الكبير الوهاب عزَّ وجلَّ.

حُقَيقَةُ الْزُّهْدِ

فإذا زهد في دنياه – وهذا هو أول بدء لمريد الوصل لله – وليس الزهد يعني الترك، لكن الزهد أن تخلع هذه الأشياء من القلب، فقد تكون في يدك؟ لكن نفسك ليست مشغولة بها، وقد لا تكون في يدك؟ وقلبك يتطلَّع إليها، وهذه هي الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى. فإن رجال الله لا يتحركون، ولا يشتاقون، ولا يميلون، إلا إلى ما رغَّبهم إليه الله في كتابه جلَّ في علاه، وعلموا أن الله قد حقَّر الدنيا، ومن حقارتها عنده أنه منذ خلقها لم ينظر إليها[2]، ومن شدة حقارتها عنده أنه لم يعطها لأحبابه، ودفعها عنهم، وسخَّرها لهم، وأمرهم أن يتركوها، ولا يركنوا إليها طرفة عين ولا أقل؛ لأنها إذا حَلَتْ أَوْحَلَتْ، وإذا أقبلت أدبرت.

فالزهد الحقيقي أن يزهد الإنسان فيما معه وفيما يملكه، لكن ليس بزاهد من يدَّعي الزهد في شيء لا يملكه، فإذا ملكه ربما يتغيَّر شأنه، وربما يتبَّدل حاله، لكن الزاهد هو الذي يزهد فيما هو في يده وفيما هو عنده، كزهد حبيب الله ومصطفاه صلوات الله وسلامه عليه:

وراودته الجبال الشمُّ من ذهب         عن نفسه فأراها أيَّما  شمم

ولو تصفحنا في سير الصالحين والعارفين لوجدنا قصصاً لا تعدُّ ولا تحصى لكيفية عرض الدنيا عليهم، وزهدهم فيها، ويضيق المجال عن حصر هذه النماذج والأمثلة، لأنهم يريدون أن يكونوا على قدم حبيبهم، لا يلتفتون عن الله طرفة عين ولا أقل.

وقد ذهب رجل منهم إلى سيدي سهل التستري رضي الله عنه: (وقال له: خذ هذا الشيء لتستعين به على عبادة ربك. قال: أنا!! قال: نعم. قال: انظر، فنظر الرجل؛ فوجد رمال الصحراء كلها لؤلؤاً وجواهر، وقال له: يا هذا، من يملك مثل هذا؟، كيف يحتاج إلى ما معك).

وآلاف القصص على هذه الوتيرة، وعلى هذه الشاكلة. وقد ذهب للإمام أبي العزائم رضي الله عنه وأرضاه كبير أغنياء الصعيد – وهو محمد محمود سليمان باشا في ذلك الوقت، وكان قد سجَّل حجَّة بمائة فدان: (وقال له: ياسيدى، هذه لتستعين بها على الأحباب والمريدين، فقال: انظر، فوجد خلفه خزانة تفوق خزانة أعظم دولة، مملوءة بالأموال والمجوهرات والذهب، وقال: من يملك ذلك؟، كيف يحتاج إلى هذا؟).

شيم العارفين وطريق الصالحين هو طريق سيد الأولين والآخرين، عندما ذهبوا إليه، وعرضوا عليه، وقالوا: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً ملَّكناك علينا[3]، وعرض عليه ربُّه أن تصير الجبال ذهباً له[4] ولا ينقص ذلك من مكانته شيئاً. ولكنه قال: لا، لأنه قدوة وأسوة حسنة صلوات الله وسلامه عليه وسلم.

نُورُ الْقِيَامِ

إذن الليل ليعلم الإنسان أن من أراد أن يكون له جاه عند الله، لابد أن يكون من أهل الليل وعمَّار الليل وقوَّام الليل، والمجدين بين يدي الله بالليل: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ﴾ لماذا ؟﴿ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾ [79الإسراء]. من يريد المقام المحمود فعليه أن يتهجَّد في الليل، وتكون له نافلة، وكان أصحاب رسول الله معه في هذا الطابور الليلي: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ [20المزمل].

﴿تَقُومُ﴾ هنا إلى يوم الدين، فهو ما زال قائماً، وكذلك فإن هذه الطائفة مُقامة إلى أبد الآبدين، ولذلك فإن أحد الصالحين كان يقول عن الله عزَّ وجلَّ على لسان الحضرة:

الليل لي ولأحبابي أنادمهم           هم أهل ودِّي ونور الفجر مطلبهم

(ومن لم يكن له في بدايته قومة لم يكن له في نهايته جلسة). وهل سمعتم عن أحد من الصالحين ليس له حظ في قيام الليل؟ أين هو؟ دلوني عليه، إنهم قوَّام الليل، وإياك أن تظنَّ كما يظنُّ بعض الغافلين؛ أن قوَّام الليل هم الفارغون من العمل، كأن يقول أحدهم: كيف أقوم الليل؟، وإن كنت سأقوم الليل، فكيف أذهب إلى العمل في الصباح؟

أبو حنيفة رضي الله عنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء أربعين عاماً، وذلك لأنه سمع قوماً يقولون: هذا أبو حنيفة الذي يصلي الفجر بوضوء العشاء، فحافظ على هذه السنة أربعين عاماً، وإذا أصبح الصباح يذهب إلى السوق، ويفتح حانوته، وبعد العصر يذاكر مع طلابه دروسه إلى منتصف الليل، ولا ينام إلا هجعة قليلة ما بين الظهر والعصر، يبارك الله فيها؛ فيقوم من النوم وكأنه نام دهراً طويلاً. إذن لابد من قيام الليل لمن أراد أن يكون من أهل هذا المقام.

طُهْرَةُ الْقَلْبِ

فإذا زهد في الدنيا، وقام بين يدي الله؛ فعليه أن يقبل على قلبه، ويفتحه بكتاب ربِّه، ويطهِّره بالعلوم الوهبيَّة والأسرار القرآنيَّة، من البشر الذين هم في صورة الملائكة العلويَّة. فهم بشرٌ؛ لكن الله اصطفاهم وجعلهم دعاة للخير على قدم سيد البشر، فمعهم العلوم الإلهامية التي تغسل النفوس، وتطهر القلوب من الحقد والحسد، والبغض والكره، والشحِّ والبخل، والأثرة والأنانية، وكل الصفات الإبليسية والحيوانية المردية، والتي هي حجب تمنع القلوب عن رؤية المكاشفات والأسرار الربانية.

واغسل فؤاداً  بماء جمع              صفا فهذا إليَّ يدني

كيف نغسل هذا الفؤاد؟ بماء الغيب، وهو العلم الوهبي النازل في الحال من سماء فضل الله عزَّ وجلَّ. وكان شيخ العلماء وسلطان العلماء العزُّ بن عبد السلام، عندما يتحدث سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يخرج ويدعو الناس ويقول: (هلموا لتستمعوا إلى هذا العلم الحديث عهد بالله عزَّ وجلَّ). وكانت سنته رضي الله عنه لأحبابه أن يقول لهم: (لا تحـدِّثونا عن الآخرين، ولكن حدَّثونا بما فتح الله عزَّ وجلَّ به عليكم). يعني لا تأذن لنفسك في التحديث: حتى يفتح الله عليك ويرزقك العلم الخاص بك، فتتحدث عن الله بما ألهمك الله عزَّ وجلَّ.

هذه العلوم هي التي تنظِّف القلوب، وتطهِّر النفوس. وفيها يقول إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه عندما وقف أمام البحر الأبيض المتوسط، وكان يعرف ببحر الروم:

قليلك قد يطهِّر كلَّ جسمي     يطهِّر بحر روم  كلَّ رسمي

وقلبي لا تطهّــــــــــــِره بحــــــــــــــــار    يطهِّره  العلي بنيل  علم

وهو العلم المكنون الذي يطهِّر!! لكن متى يطهِّر العلم المكنون؟ بعد التسليم، لأنهم لم يشقُّوا قلب النبيَّ حتى أرقدوه، ولم ينازعهم، ولم يعارضهم، ولم يمنعهـم، فلم يقل لهم مثلاً: ستقتلونني، ولكنه سلَّم، إذن لا بد من التسليم: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾. [65 النساء].

لابد من التسليم الكامل، وبعد التسليم ينفع التعليم، وقبل التسليم فإن التعليم نفعه عديم، حتى ولو مكث مع العارف عشرات السنين، فلا ينتفع به لأن أول الانتفاع أن: ﴿َيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾. فلو أن هناك شكُّ في نفسه، أو حرج في ضميره أو قلبه توقَّف، لأن أساس الانتفاع هو العقيدة. قال سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه وأرضاه في مننه الكبرى: (إن إمداد المريد من شيخه عن رســول الله صلى الله عليه وسلم، يأتيه مدد رسول الله عن طريق شيخه ببركة الاعتقاد فيه، فإذا حرم الاعتقاد حرم النفع ببركة شيخه).

لابد من التسليم التام ،وانظر إلى تسليم سيد الأنام في يد الملائكة الكرام: أخذوه، وأرقدوه، وشقُّوا صدره، وأخرجوا قلبه، فلم يشْكُ، ولم يتأوه، ولم يتوجع، ولم يتبرم، لأنه يعلم أنهم كما قال الله في شأنهم – وهذا أيضاً حال العارفين بربِّهم: ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾، وإياك أن تظن أنه نسي ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [64 مريم].

أو تقول أذكِّر الشيخ، ظناً منك أنه نسي هذا الأدب؟ أو نسي هذا الموضوع؟، فاعلم أنه لا ينسى لأنه يمشي بأمر الله عزَّ وجلَّ. فعليك إذن أن تسلِّم كالحبيب الأعظم صلوات الله وسلامه عليه حيث شقُّوا صدره، وأخذوا حظَّ الشيطان وألقوه.

أَسْرَارُ أَهْلِ الْعِرْفَانِ

وكذلك العارفون والحكماء الربانيُّون؛ إذا سلَّم لهم المريد قلباً وقالباً، على أن يكون التسليم بشرع الله، وعلى منهج كتاب الله – حتى نُخْرِج من يسلِّمون أنفسهم للجهلاء بالله، أو لمن يدَّعون حالاً مع الله – وهذا التسليم يجعل الرجل الصالح يلقي عصا روحه؛ فإذا هي تلقف ما تصطنعه النفوس ويباعدك عن حضرة القدوس عزَّ وجلَّ: ﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ [45الشعراء] من الخواطر النفسيَّة، والخواطر الدنيويَّة، والخواطر الشيطانيَّة، وخواطر المعصية، فيأخذ الشيخ بحاله هذه الخواطر، ولا يأذن في ساحة قلبك إلا بخاطر مَلَكيٍّ، أو خاطر رحمانيٍّ؛ فتمشي بأمر الله لما يرضي الله، وتصبح ممن قال فيهم الله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [65الإسراء]. ويمدُّه بالخاطر الملكي، والخاطر النوراني الرباني، والخاطر الروحاني، ويمشي بأمر الله لما يحبُّه الله ويرضاه؛ فتنكشف الحجب حجاباً وراء حجاب.

فإذا كُشف حجاب النفس أقبل هذا العبد بالكليَّة على طاعة الله؛ فتجده في كل أحواله وأوقاته مع الله إما في ذكر، أو في علم، أو في عبادة، أو في طاعة، أو في خدمة لله عزَّ وجلَّ. فإذا استدام هذا المدام – وهذه الطاعة لها لذة أعلى وأغلى من لذة أي مدام يشربه أي إنسان في الوجود يشعر بها أهلها ويستطعمها القائمون بها – فإذا واظب على ذلك؟، كشف حجاب الجسم عند النوم. فإذا نام؛ صعدت روحه إلى عالم الطهر والصفاء؛ فيرى في نومه ما يراه الأتقياء، والأنقياء، والصالحون، والأولياء .. رؤيا صادقة، ولكنه يحتاج عندها إلى الرجوع إلى العارف؛ ليثبَّت قدمه؛ حتى لا يضلَّ في هذا المنزلق الخطير لأنه إذا تزايدت عليه الرؤيات؛ ربما يغترُّ فينضرُّ.

إذ لابد له من بيان وتأويل من رجل من الصالحين؛ حتى يثبِّته على النهج الصحيح للنبي العدنان صلوات الله وسلامه عليه. فإذا استدام هذا الحال، وراقبته عين العناية من الرجل الذي أقامه الولي الوال؛ فتح الله له عين سريرته، ويشعر أن في عينك كذا؛ فيخبرك عنه؛ فتتعجب؛ كيف رأى ذلك؟!! وقد يحكي لك وقائع حدثت معك في النوم أو في اليقظة؟ فتقول: كيف عرف؟!! وهو بلسان الحال يقول: ﴿نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [3التحريم] وهذا هو الإلهام. فيتفضل الله عليه بهذا الإلهام؛ ثم يمنُّ الله عليه برفع غطاء وراء غطاء، حتى يكون من أصحاب الكشف التام، فيبصر في النور كما يبصر في الظلام، ويرى ما في القلوب كما يرى على صفحات الأجسام، ولا يشغله ذلك كله نفساً ولا أقل، عن إقباله على الملك العلام سبحانه وتعالى.

حكم كثيرة، وأحوال عظيمة، وأرجو من إخواني جميعاً أن ينتبهوا لما فيها، وأن يُعْلوا هممهم، وأن يجعلوا الحق مقصدهم، والحبيب إمامهم، ويتوجهون إليه في كل وقت وحين بقلوبهم متعرضين، وبأفئدتهم سائلين، ولسان حالهم يقول: أنظرنا .. أنظرنا .. ( واسمعوا ).

اللهم اجعلنا من أهل نظره ورضاه، واجعله ينظر إلينا في كل وقت وحين، نظر شفقة وحنان ورضا وامتنان، نظراً يرفع حالنا ويصحِّح قصودنا، ويضمن لنا السعادة في عاقبتنا. اللهم اجعلنا من أهل قربك وودادك، وأنزلنا دائماً وأبداً مع أهل إرشادك، ووفقنا لما تحبُّه وترضاه، واكشف عنا كلَّ حجاب، حتى نكون من الناظرين إلى عليَّ الجناب، ومن الممتعين بالأحباب الذين يرفع عنهم النقاب، ويكونون مع الذين أنعم الله عليهم في الدنيا ويوم الإياب.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

*************

[1] روى البخاري في صحيحه وابن منده في كتاب الإيمان، الأسماء والصفات للبيهقى وغيرها، عن أنس بن مالك فى حديث طويل ونصه: ( يُحَدِّثُ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟، قَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ، ثُمَّ فَرَّجَ صَدْرَهُ وَجَوْفَهُ فَغَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أَتَى بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ نُورٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً فَحُشِيَ بِهِ صَدْرَهُ وَجَوْفَُهُ وَأَصْلَ أُذُنِهِ ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ) وللحديث بقية طويلة ).
[2] إشارة إلى أحاديث عدة منها ما ورد فى شعب الإيمان للبيهقى عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ مُنْذُ خَلَقَهَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا)
[3] إشارة إلى الحديث المشهور عن ابن عباس والذي روته كتب عدة أَنَّ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ – وذكر الرواي عددا من سادة قريش – اجْتَمَعُوا، أَوْ مَنِ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ، بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذِرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ: – …..حتى قالوا له – ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ مَالا، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشُّرَفَ فِينَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ بِمَا يَأْتِيكَ) وللحديث بقية معروفة)
[4] (إشارة إلى الحديث المذكور فى حلية الأولياء و كتب أخرى بروايات عـدة عن ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ) لَقَدْ هَبَطَ عَلَيَّ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ مَا هَبَطَ عَلَى نَبِيٍّ قَبْلِي وَلا يَهْبِطُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدِي ،وَهُوَ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ إِلَيْكَ، أَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعْ،” فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: ” نَبِيًّا عَبْدًا ” فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَوْ أَنِّي قُلْتُ نَبِيًّا مَلِكًا ثُمَّ شِئْتُ لَسَارَتْ مَعِيَ الْجِبَالُ ذَهَبًا)).

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid