Sermon Details

الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. العبرة التي نأخذها لإصلاح حياتنا وإصلاح مجتمعنا، نأخذها من مجتمع المهاجرين والأنصار الذي لو صرنا على هداه – في أي زمان أو مكان – لنصرنا الله كما نصرهم، ولأعزَّنا كما أعزَّهم، ولهدانا كما هداهم، ولمَكَّن الله عزَّ وجلَّ لنا في الأرض كما مكَّن لهم. كيف نصلح مجتمعنا .. ويصير مجتمعاً نورانياً ربانياً مثل مجتمع المدينة المنورة التي فتحها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينها القرآن؟!
حتى يكون المجتمع في الدنيا في رغد العيش، وفي خيرات وبركات، وفي صالحات وفي طاعات، ولا يوجد بين الناس مشكلات، ولا معارك، ولا غش، ولا غير ذلك، بيَّن الله ذلك في ثلاث أشياء!!
بِمَ وصف الله عزَّ وجلَّ الأنصار؟
﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ .. أول صفة: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾، والصفة الثانية: ﴿ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ﴾، والصفة الثالثة: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [9الحشر]. هذه الصفات لو اتُّبعتْ في أي مجتمع فإنه سيكون في الدنيا في أرغد عيش وفي أسعد حال، وفي الآخرة يكون أهله هم أهل النجاة والفلاح عند المليك الفتاح عزَّ وجلَّ.
الصفة الأولى: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ .. وهي التي نحتاج إليها جميعاً!! كان حضرة النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يُجرى لكل من يدخل في الإسلام عملية في قلبه، فينزع حُبَّ الدنيا ويضع حُبَّ الله ورسوله. كلُّ المشاكل التي بين الناس سببها حُبُّ الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: {حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ} (رواه البيهقي في الشعب عن الحسن رضي الله عنه)
فأي خطيئة بين الأخ وأخيه، وبين الابن وأبيه، وبين الزوج وزوجته، وبين الجار وجاره، وبين أي إنسان في أي زمان ومكان سببها حُبُّ الدنيا، لأن ذلك يجعل الناس تقع في بعض، ثم يكيدون لبعض، ولا مانع من أن يتطاولون على بعض، ثم بعد ذلك لا مانع من أن يشتكون بعضاً، ثم لا مانع بعد ذلك من الافتراء على بعض حتى يؤيدوا شكاياهم على بعض، وكل ذلك سببه حُبُّ الدنيا.
لذلك أول شيء كان يفعله رسول الله مع أصحابه ينزع من قلوبهم حُبَّ الدنيا، ويضع مكانه حُبَّ الله ورسوله، وحُبَّ كتاب الله وحُبَّ المؤمنين. نحن جميعا نقول: أننا نُحبُّ الله ورسوله، رسول الله أعطانا ترمومتراً نقيس به هذا الحب فقال: {والله لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (سنن النسائي الصغرى عن أنس، ورواه البخاري ومسلم بلفظ. “لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى أكونَ أَحَبَّ إليهِ مِنْ والِدِهِ وَوَلَدهِ والنَّاس أَجْمَعين”).
أنت تُحِبُّ حضرةَ النبيِّ، ولكن تحبُّ نفسك أكثر!! إذاً هذا الحب غير مضبوط، كيف تحب نفسك أكثر من حضرة النبي؟! تحب نفسك لأنك تضرب بسنة حضرة النبي عرض الحائط من أجل مصلحتك، مع أنك تعرف أنه مخالف للسُّنة، لكن الذي يحب حضرة النبيِّ يعظِّم السُّنة، وقد قال في ذلك بعض الصالحين: (حافظ على السُّنة ولو بُشِّرْتَ بالجنَّة). فلابد من المحافظة على السُّنة.
والسنة مقابلها الهوى، كما جاء في الحديث الآخر: {لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ}( فتح الباري وصححه النووي عن أبى هريرة رضي الله عنه). فالذي ضيَّع الناس الآن هو الهوى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾. [40، 41النازعات].
وعندما ننظر في المجتمع فإننا نجد أن معظم المشكلات سببها عدم إتباع السُّنة أو شرع الله لأن هناك شيء من الهوى، فلو اتفقنا على سنة رسول الله ففي أي شيء سنختلف؟!! لن يأتي أي خلاف، لكن الخلاف يأتي عندما يكون شخص غير أهل ويُدخل نفسه في موضع لا يليق أن يكون له، وإنما موضع ينبغي أن يكون لغيره.
مثال ذلك: لما أراد حضرة النبي أن يقوم بعمل إعلان للصلاة، وأراد أن يكون هذا الإعلان مخالفاً لليهود والنصارى، فطلب من أصحابه أن يبحثوا عن وسيلة!! فنام جماعة من أصحابه، ولأنهم كانوا مع الله كانوا عندما ينامون تصعد أرواحهم إلى الملكوت الأعلى، فصعدت روح أحدهم إلى الملكوت ورأى الملائكة، فقالوا له: ماذا تريد؟ قال: أريد شيئاً نعلن به عن الصلاة، فأعطوه ألفاظ الآذان. فاستيقظ الرجل من نومه وذهب إلى رسول الله وقال له: رأيت كذا وكذا. رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع القاعدة إلى يوم القيامة، فلم يقل له أنت الذي تلقيت الآذان قُمْ فأذن، ولكن قال له: لَقِّنْهُ بلالاً فإنه أندى صوتاً منك!! لو مشينا على هذه القاعدة هل سيحدث خلاف؟ لا، لأننا نريد جميعاً رفعة الإسلام.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع القاعدة الأولى لمنع الخلافات، وهي أن نُعظِّم الله ورسوله، ونجعل أمر الله ورسوله هو السائد علينا أجمعين: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾. [65النساء]. يسلمون لشرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فكل مشاكل المسلمين ستنتهي إذا أحببنا الله ورسوله الحب الذي يجعل شرع الله هو المهيمن على حركاتنا وسكناتنا، وهو الغالب على أمرنا: ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾. [21، يوسف]. أريد أن أنفذ شرع الله، وأريد أن يُنفذ شرع الله في هذه الحياة، وهنا لن أصنع خلافاً، أو أسمح بخلافٍ بين المؤمنين.
وضع حضرة النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة الثانية فقال: {لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ} (صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه).
متى يُصبح الإيمان كاملاً؟ إذا أحب الإنسان لأخيه ما يحبه لنفسه إن كان في الدنيا أو في الآخرة، لو ظهر هذا بيننا جماعة المؤمنين، ورجع الحب مرة أخرى مثل الزمن الفاضل فلن تحدث بيننا خلافات، وستكون الحياة مثل الجنة، لأن الجنة كلها حياة عالية راضية لا تسمع فيها لاغية، لأن كل من فيها قال الله في شأنهم: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾. [47الحجر].
إذا وضعت في قلبي الحب فإنه سيكون معه الرحمة والشفقة، والعطف والمودة والإيثار، ومعه كلُّ الخُلُق الكريم!!! لو تركت الحبَّ ووضعت مكانه حبَّ الدنيا، فسيكون معه البغض والكره، والحقد والحسد، والفرقة والأنانية، ومعه كل الصفات الإبليسية!! إذاً الصفات الطيبة التي تصلح معها كل المجتمعات تأتى مع حبِّ الله ورسوله، والصفات التي بِها إفساد كل الأماكن والبقاع والمجتمعات تأتى مع حبِّ الدنيا، ولذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ما أخشاه عليكم أن توضع الدنيا في قلوبكم .. { مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ إِلاَّ ابْتَلاَهُ اللَّهُ بِخِصَالٍ ثَلاَثٍ: بِأَمَلٍ لاَ يْبَلُغُ مُنْتَهَاهُ، وَفَقْرٌ لاَ يُدْرَكُ غِنَاهُ، وَشُغْلٍ لاَ يَنْفَكُّ عَنَاهُ } (الدَّيلمي عن أَبي سعيدٍ رضَي اللَّهُ عنه).
لو جاءت الدنيا في قلوبكم فإنه سيحدث ما نراه الآن!! أما بالنسبة للكافرين واليهود وغيرهم لن يتمكنوا من المسلمين مادامت القلوب تحبُّ الله ورسوله، لأن قلوبهم كانت تُؤثِرُ رضاء الله على كل شيء في هذه الحياة، ففتحوا الدنيا في أيام وسنوات معدودات.
إذن متى جاء ما نحن فيه الآن؟ تنبأ رسول الله بذلك فقال: {يُوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعى عَليْكُم كَمَا تَدَاعى الأكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا، فقالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: بَلْ أنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثُيرٌ، وَلَكِنَّكُم غُثَاءُ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِ عَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوكُمْ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهْنَ، فقالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الْوَهْنُ؟ قالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ} (مسند الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله).
إذن السبب الذي مكن الأعداء منا هو حب الدنيا، فالذي يخاف على منصبه، والذي يخاف على ماله، والذي يخاف على نفسه …. هذا الخوف هو الذي مكن الأعداء منا، وأصبح المسلمين مستضعفين ومستذلين أمام الأعداء، وفي داخلهم مع بعضهم هم أعداء، أين ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾. أين ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾.
لو وجدت هذه الآن فلن نجد في رول المحاكم أي شيء، لكن للأسف نجد الآن في المحاكم الخلافات بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والجار وجاره …. على أشياء كلها تافهة من لعاعة الدنيا، ومن الجائز أن ينتهي العمر والقضية لم تنتهي!! ولم يأخذ ما كان يشكو من أجله، وحتى لو أخذ ما يريد من الجائز قبل أن يُنفذ الحكم يأتيه أمر رب العالمين فيخرج من الدنيا ولم يحقق ما كان يتمناه، ولكنه خرج ومعه حقد على أخيه وحسد وكره وبغض، وغير ذلك من الصفات التي يبغضها الله، والتي نهي عنها دينه، والتي كان يحاربها رسوله صلى الله عليه وسلم.
كان الأنصار يحبون من هاجر إليهم، ولذلك نرى العجب العجاب عندما جاء ضيف لرسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: من يُضَيف ضيف رسول الله؟ فيقول كل واحد منهم: أنا، فيقوم صلى الله عليه وسلم بعمل قرعة بينهم، وعندما كان يأتي أي مهاجر إلى المدينة كانت هذه القرعة تتم بين خمسين واحد على الأقل، لأن كل واحد منهم يريد أن يحظى بهذه الغنيمة، ويريد أن يأخذ أخاه في الله الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ [9الحشر].
ويأخذ أخاه ويقسم بيته ويقول له: اختر ما تريد، ويقسم أمواله نصفين ويخيره بينهما، وإذا كان غير متزوج يخيره بين زوجاته ويقول له: التي تعجبك أطلقها ثم تتزوجها بعد العدة!!.
هذا هو الإيمان، وعلامة الإيمان: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [9الحشر]. هذه الآية نزلت في رجل تعرض ليأخذ ضيف رسول الله، وبعد أن ذهب لبيته سأل زوجته عما في البيت من طعام، فقالت: عندنا طعام يكفي لشخص واحد، إذا أكل الضيف فسنبيت نحن والأولاد جوعي، وإذا أكل الأولاد فلا يوجد طعام للضيف، فقال لها: عللي الأولاد حتى يناموا، ثم أحضري الطعام، وعندما نجلس لنأكل مع الضيف تظاهري أنك تصلحي المصباح فتطفئيه، ثم نتظاهر أننا نأكل بأسناننا حتى يأكل الضيف ويشبع!! ما هذا الإلهام؟!! ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾. [26، المطففين]. هذا التنافس الذي علَّمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لما ذبح صلى الله عليه وسلم ذبيحة وأمر عائشة أن توزعها، ثم عاد وسألها: {«مَا بَقِيَ مِنْهَا؟» قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلاَّ كَتِفُهَا. قالَ: (بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفهَا)} (رواه أحمد والترمذي عن عائشة)، ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾. [96النحل]. هذا هو الهدى النبوي الذي علَّمه رسول الله لأصحابه الكرام أجمعين ولكل الأمة من بعدهم إلى يوم الدين!.
قسَّمَ الأنصار مع المهاجرين كل شيء!! وبعد بضع سنين جاءت غزوة خيبر وغنم فيها المسلمون خيراً كثيراً، فأحضر النبيُّ صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، وقال للأنصار: ما رأيكم .. في أن أوزع الخير الذي جاء عليكم أنتم والمهاجرين ويبقى معهم ما تنازلتم عنه لهم؟ أو أخص به المهاجرين ويعيدون لكم ما أخذوه منكم؟ فقال الأنصار رضي الله عنهم أجمعين:
لا يا رسول الله! ما تنازلنا عنه لله لا نعود فيه أبداً! والخير الذي جاء خُصّْ به المهاجرين!! هذا هو الإيثار الذي غلبوا به كل المشكلات الاقتصادية! والشح هو سبب كل العراقيل والمشاكل الاقتصادية التي عندنا، لأن هذا يذهب ويأتي ليخزن، وهذا وذاك، فالنتيجة أن البضاعة تشح والتاجر يرفع الأسعار!! لكنهم مشوا على صفة الإيثار، فجعل الله عزَّ وجلَّ حياتهم كلَّها خيراتٌ وبركات، وكلَّها نعيمٌ وجنات، ولم يكن فيها لا شكايات، ولا قضايا، ولا أي شيء: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [9الحشر].
نكتفي بهذا القدر خوفاً من الإطالة والسآمة … وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
درس بعد صلاة الجمعة – كفر المنشي – 4 محرم 1332هـ الموافق 10/12/2010م