• Sunrise At: 4:54 AM
  • Sunset At: 6:59 PM

Sermon Details

13 ديسمبر 2021

منهج الصالحين فى الوصول إلى الله

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

منهج الصالحين في الوصول إلى الله تعالى

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

لو رجعنا إلى السادة الأقطاب أئمة الصوفية أجمعين، نجد أن لهم منهجاً يكاد يكون منهجاً مشتركاً في جهادهم للوصول إلى الله تبارك وتعالى.

يبدأ المنهج بحفظ القرآن الكريم وتجويده بالقراءات، ثم التبحر في علوم الشريعة المطهرة، وعلوم اللغة والأدب لإتقان النطق باللغة العربية الصحيحة، وبعد ذلك يتجه إلى مشايخ الصوفية ليتربى على أيديهم التربية الصوفية الإلهية، وكلهم على هذا المنوال.

أبو الحسن الشاذلي

على سبيل المثال شيخنا أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه وأرضاه وُلد في سبتة في بلاد المغرب، فحصَّل العلوم الشرعية بعد حفظه للقرآن ببلاد المغرب، ثم وجد أنه لم يشبع منها، وكان في ذاك الوقت الأكثر علماً من بلاد المغرب تونس، فهاجر إلى تونس لاستكمال العلوم الشرعية كالفقه والتفسير والحديث والنحو والصرف والبلاغة وغيرها من العلوم الشرعية، حتى أصبح يُشار إليه بالبنان، ويستفتيه العلماء في هذه الفنون فيما عجزوا في الإجابة عنه.

بعد ذلك اتجه إلى التصوف، وراح يبحث عن الشيخ الذي يدله على الله، وكانت همته عالية، فكان يطلب أن يتربى على يد قطب الزمان، فأخذ يبحث عنه في بلاد المغرب، وفي ليبيا، وجاء إلى مصر، ثم ذهب إلى الحجاز، ثم ذهب إلى بلاد الشام ماشياً يبحث عن قطب الزمان، لأنه يعلم علم اليقين أنه لا وصول إلى الله إلا بعارف بالله، فلا اجتهاد في هذه الأمور.

فذهب إلى العراق أخيراً وقابل أحد تلاميذ سيدي أحمد الرفاعي، وكان اسمه الشيخ أبو الفتح الواسطي والذي جاء إلى مصر لينشر الطريقة الرفاعية وضريحه في الإسكندرية، فقال له: جئت تبحث عن القطب هنا والقطب عندكم في بلاد المغرب.

فذهب إلى سيدي عبد السلام بن بشيش رضي الله عنه، وكان في هذه الآنات يسكن على رأس جبل، وفي أسفل الجبل عين ماء يتوضأ منها ويشرب منها، ثم يصعد إلى الجبل ليقيم في خلوته، وبعد أن صعد إلى الجبل قال له: أهلاً بك يا علي بن فلان بن فلان حتى ذكر نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم.

ثم قال له: جئت تطلب الفتح الإلهي؟ قال له: نعم، قال: انزل فاغتسل، فظن أنه يريد أن يغتسل الغسل العادي بالمياه، فنزل إلى العين واغتسل، ثم صعد إليه فقال: انزل فاغتسل، فنزل واغتسل مرة ثانية، ثم صعد، فقال له: انزل فاغتسل، فعرف أنه يريد أن يغسل نفسه من العلوم التي حصَّلها، حتى لا يرى نفسه أنه عالم.

قال: فخرجت من علمي كله، ومكث معه فترة يربيه بنظراته ويلاحظه بإمداداته، ويوجهه بإشاراته، وبعد ذلك قال له: اذهب إلى تونس وهناك تذهب إلى بلدة تُسمى شاذله، فلم يكن اسمه أبو الحسن الشاذلي، ولكن كان اسمه علي بن عبد الجبار، وأبو الحسن لأن ابنه اسمه الحسن والشاذلي نسبة إلى شاذلة، وهي جبل.

وقال له: خلوتك تكون فيه، ومكث في خلوته سبع سنين، وقد ذكر له شيخه كل ما سيحدث له إلى أن يصبح القطب، وإلى أن يتوفاه رب البرية تبارك وتعالى، فذكر كل ما يحدث له، وقال: في تونس سيحدث لك كذا مع قاضي القضاة، وفي مصر سيحدث لك كذا، وذكر له كل شيء سيحدث له.

فالبداية لا بد أن تكون شرعية أي الشريعة المطهرة.

السيد أحمد البدوي

ونذهب لسيدي أحمد البدوي، فقد حفظ القرآن أولاً بالقراءات السبع، وتبحَّر في علم الفقه حتى وضع كتاباً في علم الفقه على مذهب الإمام الشافعي، يعني هو نفسه ألَّف كتاباً في الفقه، يعني ليست دراسة عادية، ولكنه عالم، وهذا الكتاب اسمه (الجوهرة).

وبعد ذلك بحث عن الشيخ، فوجد شيخاً من المشايخ الذين أنعم الله عليهم برضاه، اسمه الشيخ بري تلميذ سيدي أحمد الرفاعي، فتربَّى على يديه، وبعد أن تربى على يديه ذهب إلى خلوة سيدنا رسول الله وهي غار جبل حراء، ومكث في خلوته سبع سنين، ولماذا هذه الخلوة؟ ليطهر القلب بالكلية من الأغيار، ويمتلئ بالأنوار، ويحظى بالتربية على يدي النبي المختار صلى الله عليه وسلَّم، فكانوا يذهبون لهذه الأماكن من أجل ذلك.

ومن الأعاجيب أن سيدي أحمد البدوي وهو في غار حراء، ومن الإكرامات التي أكرمه الله بها أنه كان يصلي الفرائض في جماعة في بيت الله الحرام مع أن الغار بينه وبين مكة حوالي سبعة كيلومترات، والغار لتصعد إليه يحتاج إلى ساعتين، فكم يستغرق في الصعود والهبوط والذهاب والعودة؟!! لكنها عناية الله سبحانه وتعالى لأولياء الله الصالحين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.

السيد إبراهيم الدسوقي

وسيدي إبراهيم الدسوقي أيضاً نفس الأمر، فقد حفظ القرآن الكريم برواياته، وتبحر في علم الفقه وعلوم اللغة العربية كلها، ودخل خلوة وهو ابن واحد وعشرين سنة، وفي رواية وهو ابن سبع عشرة سنة، فكيف تكون همة هؤلاء القوم؟!!.

وظل على هذا الحال إلى أن خلع عليه السلطان المملوك الموجود في زمانه لقب شيخ الإسلام، أخذ مشيخة الإسلام، وكل هذه الإنجازات وانتقل إلى جوار الله وكان عنده واحد وأربعين سنة، فانظر إلى الهمة العالية.

السيد عبد القادر الجيلاني

وسيدي عبد القادر الجيلاني كان أيضاً على هذه الشاكلة، وهو عربي ولكن أبوه كان قد هاجر إلى بلاد أفغانستان، وحصَّل العلم في بلده والبلاد المحيطة به، ولكن كان لا يزال عنده طموح شديد في طلب العلم، فقالوا له: إن كنت تريد زيادة فاذهب إلى بغداد، وكانت بغداد حاضرة العالم الإسلامي في ذاك الوقت وهي عاصمة الخلافة العباسية، فاستأذن أمه، وكان أبوه قد توفى وتركه هو وأخاه، فحاولت أمه أن تثنيه لكنها وجدت عنده إصرار شديد، فأذنت له، وقالت له: قد ترك أباك تسعين ديناراً ذهباً، فخذ نصيبك.

والطرق كانت في ذاك الزمان مليئة بقطاع الطريق، فلا يسافر أحدٌ إلا مع قافلة، ويمشي معهم لأن معهم حراس، وزيادة في الإحتياط خاطت له أمه الدنانير التي معه داخل الثوب حتى لا يراه أحد، وقالت له: عاهدني أنك لا تكذب قط، فعاهدها، لأنه لا يصح لمريد أن يكذب ويطمع في ولاية الله، فالولاية تكون بالصدق: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ” (119التوبة) حتى في المزاح لا يقول إلا الحق، فقد قال صلى الله عليه وسلم:

{ إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا }[1]

وأثناء مسيرهم خرج عليهم قطاع طريق وأخذوا ما مع القافلة، وذهبوا له فلم يجدوا معه شيء، فسألوه: ماذا معك؟ قال: خمسة وأربعون ديناراً، ولكنهم عندما فتشوه لم يجدوا شيئاً معه، فأخذوا الأمر بسخرية وقالوا ربما هذا الولد غير عاقل، وأخذوه لزعيم العصابة، فسأله: ماذا معك؟ قال: خمسة وأربعون ديناراً، قال: أين هم؟ قال: هاهم وأشار إلى جيبه، قال له: ولِمَ لم تكذب؟ قال: لأن أمي أخذت عليَّ العهد أن لا أكذب قط، فشاءت إرادة الله أن صدقه يجر هذا الرجل إلى التوبة النصوح، فقال لرفقائه: أرأيتم هذا الغلام لأن أمه عاهدته أن لا يكذب فلم يكذب، وكيف بنا وقد أخذ الله علينا العهد أن لا نعصاه، فماذا نفعل؟ إني تائب على يد هذا الغلام، فقالوا: ونحن معك.

لم يكن شيخاً وقتها، ولكنها كانت مجاهداته، فحصَّل العلوم كلها بهمة شديدة، لدرجة أنه كان بعد ذلك مجلس علمه تحضره كل الطوائف، يحضر فيه المحدثون لكتابة الأحاديث التي يستمعون إليها منه، ولا يستمعون إليها من غيره، ويحضر النحويون لينظروا النطق الصحيح للألفاظ العربية والأسانيد اللغوية، ويحضر الصوفية حتى يسمعوا العلوم التي لم يقرأونها في كتاب ولم يسمعونها من أحد.

وكلهم كانوا على هذه الشاكلة، وراجع سيرة أي عالم من  هؤلاء العلماء، أو سيرة أي وليٍّ من هؤلاء الأولياء تجده كذلك.

الأئمة الأربعة

ولذلك علماء الأزهر إلى زمن قريب، ماذا كانوا يفعلون؟ بعد أن يُنهي الدراسة الأزهرية لا بد أن يبحث عن شيخ من المشايخ الصوفية الصادقين ويتربَّى عليه يديه، حتى يكتمل، لماذا؟ كما فعل الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب الأربعة في الفقه.

فسيدنا الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه بعد أن جمع مذهبه الفقهي وقننه، ذهب إلى سيدنا جعفر الصادق ومشى معه وصحبه سنتين، وبعدها قال: لولا السنتان لهلك النعمان.

وسيدنا الإمام الشافعي قال: صحبت الصوفية سنتين فاكتسبت منهما كلمتين، الأولى: (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) والحكمة الثانية: (نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل).

ولذلك إذا أردت أن تشاهد روائع شعر الحكمة، شاهد ديوان الإمام الشافعي رضي الله عنه، شعر في منتهى الروعة وكله حِكمٌ رائعة، لماذا؟ لأنه صحب الصوفية سنتان.

وعندما ذهب إلى بغداد وتتلمذ على يديه الإمام أحمد بن جنبل، وكان أحمد بن حنبل بعيد قليلاً عن السادة الصوفية، قال له : نحن لا نسلك من غيرهم، لماذا؟ لأن السادة الصوفية في المسائل الشرعية التي يعجز عنها علماء الفقه، يأتيهم فيها حلول من الإلهامات الإلهية من الله سبحانه وتعالى.

والإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه، كان كذلك، ولذلك كان يقول: ما بتُّ ليلة إلا ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في المنام.

فما هذا؟ ألا يكون إمام في الصوفية، ولِمَ قيل فيه: لا يُفتى ومالك في المدينة؟ لأنه عندما كان شاباً صغيراً حدث أن امرأة كانت تُغسِّل ميتة، وأثناء الغسل التصقت يديها بفرج الميتة، فاحتار العلماء، ماذا يصنعون؟! لو قطعوا يدها سيكون جسد الميتة فيه شيء ليس منه، ولو قطعوا جزءاً من الميتة يكون جرماً كما في الحديث الصحيح:

{ كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ، كَكَسْرِهِ حَيًّا }[2]

فاحتاروا، والإمام مالك كان لا يزال شاباً، ولكنه كان شاباً نشأ في طاعة الله، ولذلك عندما ذهب إليه الإمام الشافعي رضي الله عنه وقال له: أريد أن أقرأ عليك الموطأ، فجاء له بالموطأ، فقال له: أنا أحفظه، فقرأ، فقال له: إن الله ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية.

ولذلك عندما يقول لي أي واحد من الأحباب في أي مكان: عندما أحاول حفظ القرآن أنساه، أقول له: انظر إلى موعظة الإمام الشافعي، فأنت عينيك لا تستطيع الحفظ: ” قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ” (30النور).

لأن الشافعي كان كل ما يشاهده يحفظه، وفي يوم أراد أن يقرأ عند سيدنا وكيع ما حفظه فنسي، فقال له: ماذا حدث لك اليوم؟ فراجع نفسه وقال له: وأنا قادم في الطريق كانت امرأة تسير أمامي وجاءت نسمة هواء فكشفت عن ساقها، فنظرت إلى ساقها، فقال له: هذا هو سبب نسيانك القرآن، فقال:

شكوتُ إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يُهدى لعاصي

فما بالنا في هذه الأيام بالذين لا تنقطع عيونهم عن النظر هنا وهناك، وإن لم ينظر في الطرق ينظر في الهاتف المحمول، ويفتح المواقع الممنوعة ويشاهدها، فكيف يحفظ بعد ذلك؟!!، قال صلى الله عليه وسلم

{ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ }[3]

فقال لهم الإمام مالك: لا بد أن هذه المرأة المغسلة قذفتها بلفظ يستوجب حد القذف، فذهبوا ليسألوا المغسلة ويدها لا زالت ملتصقة بالميتة: ماذا قلت؟ فقالت لهم: قلت يا فرج طالما عصيت الله تبارك وتعالى، وهذا قذف مباشر، فقالوا: وما الحل؟ قال: تجلدوها ثمانين جلدة، ومع الجلدة الثمانين فكَّت يدها، فمن وقتها قالوا:  لا يُفتى ومالك في المدينة.

من أين أتته هذه الفتوى؟ هل من نور البصيرة أم من العلم الذي حصله؟ من نور البصيرة، وعلماء الأزهر كلهم عرفوا أنه لا بد أن يكون مع الطالب علم البصيرة بعد أن يحصل علوم الشريعة تحصيلاً جيداً بحيث لا يُعجزه شيء في العلوم الشرعية، فلو سُئل أي سؤال في الفقه، أو في التفسير، أو في السيرة، أو في الحديث لا يقف ولا يتخبط، ولا يأتي بجواب من عند نفسه قد يوافق الحق وقد لا يوافقه، بل لا بد أن تكون عنده الإجابات حاضرة على الفور بالدراسة الجيدة، وبعد ذلك لا بد له من نور البصيرة عن طريق سلوك طريق الصالحين.

الإمام الدردير

سيدنا الإمام الدردير رضي الله عنه، صاحب منظومة الأسماء الحسنى المشهورة، وله كتب كثيرة، صحب الشيخ مصطفى البكري وكان قطباً في زمانه، وكان يسكن القدس في هذه الفترة، فذهب ليزور شيخه بعد فترة، فسلَّم عليه وجلس معه ومع المريدين، وكان مشدداً على نفسه الأوراد التعبدية كقيام الليل وقدر من تلاوة القرآن والأذكار وغير ذلك، فقام يستأذن من الشيخ ليؤدي أوراده هذه، فقال له شيخه: أنت هنا ليس لك إلا فريضة واحدة وهي مجالستنا.

يعني الجلوس معنا فريضة، فهل تترك الفريضة وتذهب للسنن؟!! هذه السنن في حالة غيابك عن الشيخ، لكنك مع الشيخ هل تترك الشيخ وتذهب لتصلي السُنَّة؟!!.

فجاء بالمنهج الخلوتي، لأن سيدي مصطفى البكري كان خلوتياً في الأزهر فتربى على يديه الشيخ الحفني، وكان أيضاً من مشايخ الأزهر ومشى الأمر على هذه الشاكلة.

حتى وصلنا إلى عصرنا الحديث فرأينا الدكتور عبد الحليم محمود رحمة الله عليه وكان من كبار العارفين، وهذا الشيخ الطيب من كبار الصالحين.

علماء الأزهر والتصوف

حتى أنهم في منهج الأزهر القديم عندما كانت الدراسة في الجامع الأزهر فقط، ولم تكن قد انشئت الكليات بعد، كانت الدراسة حلقات حول أعمدة المسجد وكل عامود له شيخ.

لو قرأت سيرة الشيخ صالح الجعفري، ستجد أن المشايخ الذين كانوا بجوار هذه الأعمدة كلهم من أرباب الكشف، يعني الشيخ صالح عندما جاء إلى مصر، وكان قادم من السودان لأن عائلته أصلاً مصريين، ولكنهم ذهبوا للسودان في وادي حلفا، فلما جاء للأزهر رأى أنه لا قيود على خروج النساء كما كان هناك في السودان، ففكر أن يترك مصر ويرجع مرة أخرى حتى لا يرى هذه المناظر، وأثناء جلوسه مع شيخه في الدرس، فإذا بالشيخ يفاتحه في القضية، ويخلصه منها فوراً.

وكان بعضهم – كما كان يحكي – يقف أحياناً في أثناء الدرس، وكان هذا الدرس في سيدنا الحسين، فيسألوه: لماذا وقفت؟ فيقول: سيدنا رسول الله قادم حالاً ليزور سيدنا الحسين، فيقف حتى تنتهي الزيارة.

وصنعوا في ساحة الأزهر خلوات وموجودة إلى الآن، فبعد أن ينهي الطالب الدراسة الشرعية واللغوية يدخل الخلوة ويجلس فيها حتى يُفتح عليه، ويعطوه الأوراد والأذكار، ويتابعوه بأنفسهم حتى يُفتح عليه، فيأذنوا له ويعطوه العالمية، ويذهب عالم إلى بلده، ولذلك كان الناس ينتفعوا بعلمه.

وكان امتحان العالمية امتحاناً شديداً، سيدي أحمد حجاب رضي الله عنه وأرضاه يقول: كنت خائفاً من امتحان العالمية خوفاً شديداً، مع أنه كان متمكناً ومتفرغاً للدراسة، وكان كذلك مع شيخه، وشيخه كان اسمه الشيخ محمد الشريف، يقول: حدثت شيخي فقال لي: لا تخف، فيقول: ذهبت فوجدت نوراً أمامي ولمبة منيرة أمامي، وكلما سألوني تأتيني الإجابة، حتى أصبحت أنا الذي أسألهم، فذهبت للشيخ فقال لي: كان معك الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.

تجهيز العالِم لنفسه

هذه كانت الأحوال في هذا المجال، فلا بد للإنسان في فترة الفتوة وهي فترة الشباب أن يكون عنده عزيمة صادقة، فيحيط بكل هذه الحاجات، وخاصة الأحباب الذين يتعرضون للمنابر وللدروس وللناس، حتى يبلغوهم دعوة الله تبارك وتعالى، فلا بد أن يحيطوا بالفقه إحاطة كاملة، ولا يكتفوا بالدراسة التي في الكلية أو المعاهد، فهي دراسة خاطفة ليست كدراسة الزمان الماضي.

أنا كل كتب الفتاوى العصرية قرأتها، كفتاوي الدكتور علي جمعة وهي في خمس مجلدات، وفتاوي الشيخ يوسف القرضاوي وهي في ثلاثة مجلدات، وفتاوى الشيخ عطية صقر وهي في ست مجلدات، وغيرهم، وإلى الآن أُحضر المجلات الشهرية لأنظر للفتاوي الجديدة لما يستجد، ففي كل يوم في هذا العصر قضايا جديدة ليست موجودة في كتب الفقه، وأنا لا يجوز أن أجيب من ذهني، بل لا بد أن أستند إلى أقوال السادة العلماء الأجلاء وآراؤهم وأدلتهم التي يستندوا عليها.

لا بد للإنسان أن يقرأ تفسيراً على الأقل كاملاً للقرآن الكريم، ويكون شاملاً، فلو سألني أحد في معنى آية، أو في لفظة من كلمات القرآن، فلا أقول له: انتظر حتى أبحث ثم أرد عليك، بل لا بد أن يكون لي دراسة، يعني أقرأ التفسير كدراسة، ولا أقرأه كقراءة الصحف.

ولا بد أن أقرأ السيرة المحمدية في أكثر من مرجع حتى أكون محيطاً بها وملماً بها، لأن حياة رسول الله نُسأل فيها، والمستشرقين كل فترة يخوضوا فيها، فأعرف كيف أرد عليهم، وحتى أُثَبِت المسلمين المستضعفين، لأنهم أحياناً يتأثروا بكلام هؤلاء، فوظيفتي أن أُثَبِّتهم، وكيف أُثَبِّتهم؟ لا بد أن أعرف الحجة والدليل الذي أثَبِّت به أخي المسلم، فلا بد أن أطالع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلَّم.

الشيخ علي جمعة بارك الله فيه، عنده مكتبة بها أربعين ألف كتاب، وقرأها كلها، ولذلك هو عالم موصول، فسألوه: كيف رأيت حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم؟ قال: جئت بمراجع السيرة التي تتحدث عن حضرة النبي وعشتُ فيها، فقرأت ثلاثين مرجعاً، وعندما عشت معهم رأيت حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم.

فلم يقرأها قراءة عابرة، ولكنه عاش في هذه الكتب، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من عشقه لمقاماته وأحواله صلوات ربي وتسليماته عليه.

لا بد للإنسان أن يكون أيضاً عنده دراية ولو بسيطة ببعض أحوال الصالحين وتاريخ حياتهم، وكيف كانوا يربون أنفسهم ويربون المريريدن؟ حتى أرد على المعترضين والمنتقدين، لأنني أصبحت منسوباً للصوفية، ولا تنفع الردود العشوائية، أنا أريد الردود العلمية بالدليل من القرآن والسنة وأحوال النبي وأحوال الصحابة وأحوال الصالحين.

فلا بد للإنسان أن يحيط بهذه الأمور قدر الاستطاعة، لأنه لا يستطيع أن يُلم بها جميعاً، ونحن رأينا كثير من العلماء الذين يُقبل عليهم الناس، ولِمَ يقبلون عليهم؟ لأنه يُطعِّم دروسه بكلمات في أحوال الصالحين، وأقوال الصالحين يكون فيها نور من الله، فتشد القلوب بهذه الأحوال.

محمد حسان نفسه لما أرد أن يشد الناس، أتى بكلام الصوفية، فعندما ينطق بكلام الصالحين في وسط كلامه يشد الناس، لأنه كلام فيه نورانية.

والعبرة ليست بالكلام، ولكن العبرة بالقبول، والقبول من الله ولذلك يقول سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه في حِكَمه عن الصالحين: (تسبق أنوارهم أقوالهم، فتجذب القلوب وتُهيؤها لسماع العلم الموهوب).

قبل أن يتكلم يكون قد سلَّط الأنوار على قلوب الحاضرين ليشدهم، ولذلك الناس مشدودين لهم، لماذا؟ لأن النور قد سُلط عليهم، والنور أصلاً من عند النور الأعظم؛ من عند الله تبارك وتعالى، والحال من رسوله صلى الله عليه وسلَّم.

هذه الأمور إن لم يكن يتلمسها الإنسان في فترة الشباب، فمتى يتلمسها؟! لا بد للإنسان في فترة الشباب أن يجعلها لتحصيل العلم، والإمام أبو العزائم قال:

حصِّل العلم بعزمٍ صادق لا تكن في العلم كسلان ملول

ومعذرة سأتكلم عن نفسي، فقد كنت في فترة التحصيل أحصِّل في اليوم خمسمائة صفحة من كل ضروب العلم، غير الأوراد، وهذه وهذه وهذه، وأنا الذي كنت أحدد البرنامج، فالشيخ لم يُلزمني ببرنامج، بل كنت أُكمِّل نفسي، أُكَمِّل نفسي في نواحي الفقه مثلاً، فلو سُئلت في أي ناحية من نواحي الفقه لا بد أن أجيب إجابة صحيحة تستند على الأدلة الصريحة، لأنه يوجد الآن أئمة كثيرون للمساجد لا يعرف الإجابة ويجتهد ويجيب، فهذا قد دخل في الحديث:

{ مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَمَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ }[4]

لا يجوز للإنسان أن يفتي بغير علم، بل لا بد أن يكون عن علم، ومع العلم يكون معه نور، حتى يعرف ما يريده من يسأله فيريحه بالإجابة، لأن الذي أمامي يسأل، فما غايته من السؤال؟ يريد إجابة تريحه، فأعطيه الإجابة التي تريح باله، فلا يكون عندي شريط مسجل من هذا السؤال هنا أو هنا أو هنا فتكون الإجابة واحدة.

ولذلك تجد إجابات العلماء العاملين للسؤال الواحد متعددة، هذا يريد إجابة يعطيها له، والآخر يريد إجابة يعطيها له، وكلها صحيحة، من أين ذلك؟ إلهام من الله، تبارك وتعالى بدون تحضير.

فلا بد أن نمشي على نفس البداية التي بدأ بها الصالحون السابقون والمعاصرون واللاحقون أجمعون، لأن هذا جهادنا الموصل إلى رضوان الله تبارك وتعالى.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح لنا فتحاً مبيناً، وأن يهدينا صراطاً مستقيماً، وأن ينصرنا على أنفسنا نصراً عزيزاً، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] معجم الطبراني عن ابن عمررضي الله عنهما

[2] سنن أبي داود وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها

[3] جامع الترمذي ومسند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما

[4] مسند أحمد والسنن الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه

 درس بعد صلاة العشاءدار الصفا الجميزة – السنطة -الغربية  الخميس 9 من جمادى الأولى 1443هـ 13/12/2021م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid