وخص عباده بأسمائه وصفاته، وكنز عطائه وهباته سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باب فضل الله، وخير خلق الله، باب الاصطفاء لعباد الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الهداة وأصحابه الداعين إلى الله بالله وكل من تبعهم على هذا النهج القويم من رجالات الله، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وعلينا معهم أجمعين.
أما بعد..
فهذه الليلة ليلة النصف من شهر شعبان يقول فيها صلى الله عليه وسلم:
ففضل الله ينزل في هذه الليلة من الوفرة والكثرة حتى أن الملائكة الكرام لتعجب من كثرة ووفرة ما ينزله الله في هذه الليلة من البركة والخير لجميع الأنام، وأعظم ما في هذا الخير – والخير الذي يحتاجه المسلم إما لدنياه وإما لأخراه – فأعظم الخير في الدنيا هو استجابة الدعاء أي أن الله يستجيب لكل مؤمن بما يدعو به مولاه في تلك الليلة ما لم يدع على أحد ظلماً وعدواناً أو يدعو على أحد بأن يقطع رحمه أو يدعو على أحد بأن يرتكب محرماً أو إثماً أومعصية، فهذه دعوة ظالمة.
أما إذا دعا بالتوفيق لنفسه أو لأهله أو لأولاده أو لإخوانه أجابه الله على التحقيق، ولا شك في هذه الإجابة، وإذا دعا بخير في الدنيا أو الآخرة أيضاً لمن ذكرنا استجاب الله تعالى له، أما بالنسبة للآخرة فإن الله بفضله وكرمه ومنه وعفوه يعفو عن أهل الإستقامة وأهل التعرض لنفحات فضله وإن لم يدعوه ويستغفروه لأنه يتفضل بادئ ذي بدء في هذه الليلة فيغفر مغفرة تعم جميع خلقه إلا ستة أصناف لم يشملهم قرار هذا العفو ويقول في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَتَانِي جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ: هذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلِلَّهِ فِيهَا عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ بِعَدَدِ شُعُورِ غَنَمِ كَلْبٍ، وَلاَ يَنْظُرُ اللَّهُ فِيهَا إلَى مُشْرِكٍ، وَلاَ إلَى مُشَاحِنٍ، وَلاَ إلَى قَاطِعِ رَحِمٍ، وَلاَ إلَى مُسْبِلٍ، وَلاَ إلَى عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ، وَلاَ إلَى مُدْمِنِ خَمْرٍ }[3]
هؤلاء القوم هم الذين يحرمون من هذا الفضل الإلهي في هذا الحديث يضاف إليهم صنف آخر رواه حديث آخر وبذلك استكمل الموانع في قرار التوبة والأوبة والعفو إلا لهؤلاء السبعة وقد قال صلى الله عليه وسلم: {يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمٍّومِنِينَ، وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحَقْدِ لِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوْهُ}[4]
أي أن الذي في باطنه حقد أو حسد على أحد من المسلمين لا يستجيب الله له، ولا يحقق رجاءه ولا يغفر له في هذه الليلة، والحقد هو أن الإنسان يستكثر الخير على المؤمنين ويرى أنه أولى به منهم، وإذا كثر الحقد تحول إلى الحسد، والحسد هو تمني زوال النعمة، فيتمنى من الله أن هذه النعمة تزول عن أخيه، إن كان صحيحاً بأن يمرض، وإن كان غنياً بأن يفتقر، وإن كان أولاده موفقين أن يخذلوا، وهذه الصفة لا توجد بالأحرى في أي مسلم عادي فضلاً عن المسلمين المستقيمين، فإن أي مسلم لا يتمنى من الله إلا الخير للمسلم لأن هذا هو أساس قبول الأعمال عند الله عز وجل بالنسبة لأمة الإسلام أجمعين.
نسخ الآجال و المواليد و الأرزاق
هذه الليلة ورد فيها حديث آخر يبين ميزتها قال فيه صلى الله عليه وسلم: { تُقْطَعُ الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى شَعْبَانَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ وَيُولَدُ لَهُ وَقَدْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَىٰ }[5] فملك الموت ومساعدوه ومعاونوه من ملائكة الموت يتلقون في هذه الليلة كل خطوط سيرهم طوال العام لمن يقبضون أرواحهم في هذا العام إلى الليلة الآتية من العام القادم، وفى ذلك الحديث الشريف أيضاً رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال: { أنه شهر تنزل فيه الآجال وأحب أن ينزل أجلي وأنا في عبادة ربي }[6]، وفى الحديث المعروف عن عائشة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلمقال لها:{ هَلْ تَدْرِين مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟- أى ليلة النصف من شعبان – قُلْتُ: وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: فِيهَا يُكْتَبُ كُلُّ مَوْلُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا يُكْتَبُ كُلُّ مَيِّتٍ، وَفِيهَا تَنْزِلُ أَرْزَاقُهُمْ، وَفِيهَا تُرْفَعُ أَعْمَالُهُمْ }[7]
عرض ورفع الأعمال
ولذلك عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختصاصه شهر شعبان بإكثاره من الصيام قالصلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك في رواية أنه قال: { وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ }[8]، فهو شهر ترفع فيه الأعمال، عمل العام كله يرفع في هذه الليلة مع إننا نعلم أن العمل يرفع أو يعرض قبل ذلك على ثلاث مرات، العمل يرفع في وقت فعله إلى الله ورسوله ثم يؤخره الله عز وجل بفضله ومنه وكرمه، ويؤخر قبوله إذا كان فيه سوء أو معصية لعل العبد يتوب إلى الليل ويأمر الحفظة الكرام أن ترفعه أي تعيد عرضه مرة أخرى عند النوم { تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُ خَيْراً حَمِدْتُ اللَّهَ، وَإِنْ رَأَيْتُ شَرًّا اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ }[9] فإذا كان هناك سوء أو وزر وصاحبه مصرٌ عليه أخرَّ الله هذا وأمر الملائكة أن ترفع إليه العمل وتعرضه يومى الأثنين و الخميس وأفهمنا ذلك صلى الله عليه وسلم عندما نصح أصحابه بصيامه هذين اليومين فقال: { تُعْرَضُ الأعمالُ يَوْمَ الاْثَنيْنِ والخَميِسِ فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلي وأنا صَائِمٌ }[10] فمن تاب تاب الله عليه: { تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَمِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيُغْفَرُ لَهُ، وَمِنْ تَائِبٍ فَيُتَابُ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ أَهْلُ الضَّغَائِنِ بِضَغَائِنِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا }[11] . ثم يمهل الله المؤمنين مرة أخرى ويترك لهم الفرصة ليتوبوا ويرجعوا إلى الله وينيبوا إليه، فيأمر الملائكة أن ترفع العمل عمل العام كله في ليلة النصف من شعبان.
الإكثار من الاستغفار
وهذا ما جعل الأئمة الكرام يحيون هذه الليلة بالتوبة والاستغفار والأنين إلى الله، يتوبون ويستجيرون، فإن الله يغفر ذنوبهم، ولذلك استحسن الأئمة الكرام الاكثار من الاستغفار فيها وخاصة سيد الاستغفار والذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم سيد الاستغفار: {اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إلهَ إلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِيِ وَأَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ فَاغْفِرْ لِي فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أَنْتَ}[12] ثم قال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضله: {فَإنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ مُوقِنا بِهَا فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي مُوقِنا بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ}[13].
ولذلك استحسن الأئمة الكرام أن يبدأ الإنسان به بعد صلاة الصبح وأن يبدأ به بعد صلاة المغرب، ليبدأ به أول النهار ويبدأ به أول الليل فيكون قد ضمن لنفسه دخول الجنة إن مات نهاراً، ودخول الجنة إن مات ليلاً فيكثر فيه من الاستغفار ويقرأ فيه سورة يس كما قرأنا لقوله صلى الله عليه وسلم: { مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يسۤ فِي لَيْلَةٍ أَصْبَحَ مَغْفُوراً لَهُ }[14] ونثلثها لأن التثليث سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم كان يقضي الليلة في الصلاة، لأن الصلاة من أعظم أبواب الخير التي يدخل بها العبد على مولاه عز وجل.
عموماً فأقل الأعمال خفة على اللسان وثقلاً في الميزان هو الاستغفار، فما على المرء في هذه الليلة أن لا يجعل لسانه يبخل عليه بالاستغفار في تلك الليلة جملة، لا يسكن ولا يكل ولا يمل من ترداد الاستغفار حتى يعمنا الله بمغفرته ويكتب لنا فضله وبره وخيره وجوده وكرمه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] كانت هذه المحاضرة في الاحتفال بليلة النصف من شعبان بدار الصفا بالجميزة غربية يوم 14 من شعبان 1420هـ – 22/11/1999م.