• Sunrise At: 6:06 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

30 مارس 2022

من سير الصالحين الإمام الجنيدى

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

الإمام الجنيد رضي الله عنه

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي رقانا وأدنانا وحبانا وجعلنا من أحباب الصالحين، والصلاة والسلام على إمام الأتقياء، وتاج الأولياء، والشفيع الأعظم لجميع الخلق يوم العرض والجزاء، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

الحقيقة كما قال الإمام الجنيد رضي الله عنه: حكايات الصالحين جندٌ من جند الله، تقوي من عزائم المريدين في السير إلى الله تبارك وتعالى، فقالوا: هل لك من دليل؟ فقال: قول الله سبحانه وتعالى: ” وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ” (120هود).

وعندما يقرأ الإنسان في حكايات الصالحين يزن أحوال نفسه بأحوالهم، ويرى ما فيهم من كمال، وما في نفسه من عيوب ونقص فيتلافاه ويتحاشاه، ويكمل نقصه بما يراه من أخلاقهم وأحوالهم العظيمة علَّه يلحق بهم، وهذه الفائدة الأعظم، وإن كان هناك فوائد لا تُعد ولا تُحد في حكايات الصالحين.

وحديثنا الآن عن الإمام الجنيد وهو الإمام أبو القاسم الجنيد الخراز البغدادي القواريري، سُمي الخراز لأنه كان يبيع الحرير، وكان له حانوت في سوق بغداد التي وُلد فيها يبيع فيها الحرير، وكان كل الصالحين في هذا الزمان يشتغلون في التجارة، ولا يحاولون بل يرفضون بالمرة العمل في الدواوين الحكومية من شدة ورعهم في أخذ أرزاقهم، ولقوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ }[1]

والتجارة كان مبدأهم فيها قول الله تبارك وتعالى: ” رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله ” (37النور) عينه على هذه الآية ليكون من أهل العناية، وليس عينه على المكسب المادي السريع، أو العُلو في الدنيا بغير حق، وإنما يريد أن يكون من أهل هذه الآية ليخصُّه الله تبارك وتعالى بهذه العناية.

وسُمي القواريري لأن والده كان يعمل في صُنع القوارير، والقوارير هي الآنية المصنوعة من الزجاج، وهو لم يمتهن مهنة أبيه، فأبوه كان له مهنة، وهو له مهنة.

مولده ونشأته

وُلد الجُنيد سنة 215 هجرية، وأبوه توفى وهو صغير، فتولى تربيته خاله وكان اسمه السَرِيّ السقطي، وكان رجلاً من كبار الصالحين، ولذلك نشَّأه على هذه التنشئة النورانية.

ما خطواته في الطريق إلى الله؟ هي نفس الخطوات التي حكيناها وسنحكيها عن كُمَّل الصالحين الأكابر، والجُنيد خُصَّ منهم لأن الإمام القُشيري كان يقول عنه: سيد الطائفة، وكان الصالحون في زمانه يسمونه تاج العارفين، لأنه أول من أصَّل التصوف على الشرع الشريف والقرآن والسُنَّة.

طلبه للعلم

بدأ حياته كحياة كل الصالحين بطلب العلم، فحفظ القرآن وطلب علم الحديث، وأخذ يتلقَّى علوم الفقه.

والإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه وكان قبله بقليل كان قد ذهب إلى بغداد، وجعل له هناك مذهباً يُسمى مذهب الشافعي القديم، وعندما جاء إلى مصر بعدها وجد أن أحوال مصر وأهلها تختلف عن أحوال العراق وأهلها فجدد فقهه، وجعل منهجاً جديداً في فقهه يُسمى المنهج الجديد، حتى نعلم أن علم الشريعة يصلُح لكل زمان ودولة ورجال ومكان.

والذي حمل المذهب القديم عنه في بغداد كان فقيهاً مشهوراً يُسمى أبو ثور، وهو الذي تلقى عنه الإمام الجُنيد الفقه ولازمه، حتى أنه من شدة نبوغه أذن له شيخه أبو ثور أن يُفتي ويُدرِّس وهو جالسٌ في مجلسه وكان عمره وقتها عشرون عاماً، لنعرف مدى جد واجتهاد هؤلاء الرجال.

وكان يقول: (فتح باب كل علم نفيس بذل المجهود) أول مجهود ينبغي أن يبذله أي مريد في طريق الله في طلب العلم، لأن الشيطان لا يدخل للإنسان إلا من باب الجهل، فكلما علمت حكماً عجز الشيطان عن الدخول إليك منه، فإذا تعلمت وتبحرت في الفقه دخلت في قول الله:” إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ” (42الحجر).

واجتهد في طلب العلم حتى قال قولة غريبة وعجيبة، قال: (ما أخرج الله علماً وجعل للخلق إليه سبيلاً، إلا وقد جعل لي فيه حظاً ونصيباً) يعني تبحَّر في كل العلوم التي تملأ بقاع الأرض مع العلماء على اختلاف أصنافهم وعلومهم، وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول: (كان الجُنيد قطباً في العلم).

فأساس التصوف هو العلم المبني على كتاب الله، وعلى سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعل مبدأ التصوف قوله: (من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيدٌ بالكتاب والسُنَّة)

وهذا تأسيس المذهب الصوفي الوسطي الشرعي المعتدل مع الصفاء والنقاء الذي أسَّسه الجُنيد، ولذلك سموه سيد الطائفة.

ونأخذ من هذا الرجل في حياته كلها أمراً عجباً، أنه كان لا يُضيع نَفَساً في غير مرضاة الله، أي نَفَس يتنفسه لا بد أن يكون في طاعة لله تبارك وتعالى، حتى وهو غلامٌ صغير عمره سبع سنوات يحكي عن نفسه فيقول: كنت ألعب بين يدي السريّ خالي، وكان معه جماعة من الصالحين يتحدثون عن الشكر، وكل واحد منهم أدلى برأيه، قال الجنيد: فاستدعاني وقال لي: ما الشكر؟ قلت: الشكر أن لا تَعصي الله بنعمه، فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك، قال الجنيد: هذه المقولة ظلت تؤرقني طوال حياتي، خائف أن يكون حظه من الفتح اللسان وفقط، لأنه يريد شيئاً أعظم من اللسان.

وكان يقول لمن يُعلِّمهم: (إن للعلم ثمناً، فلا تعطوه حتى تأخذوا ثمنه، قيل له: وما ثمنه؟ قال: وضعه عند من يُحسن حمله ولا يضيعه) يعني لا تُعلِّم أحداً يقوم من أمامك وقد نسي ما تعلَّمه، بل لا بد أن يطلب العلم للعمل، ولا يُثبت العلم إلا العمل، فكلنا تعلمنا كثيراً، فلِمَ ننسى؟ لأننا لا نعمل، ما الذي يُثبِّت العلم؟ العمل.

ومع ذلك مع طلب العلم كان له عملٌ يقتات منه، وهذا مذهب الصالحين المتبعين لأمير الأنبياء والمرسلين، فكان يذهب كل يوم إلى دكانه ويمارس متطلبات مهنته وهي بيع الأقمشة الحريرية، لكن – كما قلت – تجارته لم تلهه عن ذكر الله، فكان عندما يخلو المتجر من الزبائن يُرخي الستارة ويصلي لله في داخل المتجر حتى يحضر زبائن آخرين، فقد رُوي عنه أنه كان يُصلي كل يوم في متجره ثلاثمائة ركعة، لأنه لا يضيع الوقت: ” لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله ” (37النور) فإذا جاء زبائن يتعامل معهم سريعاً ولا يجادل ولا يفاصل ويساوم أوقات طويلة، فإذا انتهى يشد الستارة ويصلي خلفها، وهذا أيضاً غير طلبه للعلم.

فانظر إلى بركة الوقت، يبيع ويشتري ويصلي لله هذا العدد ويطلب العلم، ويُدَرِّس العلم، لأن الصالحين تحفُّهم البركة من الله وهي التي تجعل أحوالهم وأعمارهم وأنفاسهم كلها مباركة بإذن الله تبارك وتعالى.

والجُنيد عندما تبحَّر في العلم طلب إخوانه من شيخه السريّ السقطي أن يحدثهم، وقالوا له: مُر الجُنيد أن يحدثنا بما فتح الله عليه، ولكنه لم يستجب، وقيل أنه جاءه ثلاثون من الأبدال يطلبون منه أن يبلغ دعوة الله وأن يُحدِّث الخلق لكنه كان عنده في قلبه شيء يريد أن يتأكد منه، يريد أن يكون: ” وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ ” (46الأحزاب) حتى جاءه الرسول صلى الله عليه وسلَّم مناماً وقال: يا جُنيد حدِّث الناس بعلمك لينتفعوا بك، وكان ذلك قبل الفجر بساعة تقريباً، فذهب مسرعاً إلى بيت السري السقطي شيخه وخاله، وكان هذا الكلام في ليلة جمعة، ودق عليه الباب، فقال له السري قبل أن يفتح: لم تصدقنا حتى قيل لك!! لأنهم لم يتكلموا أيضاً إلا بإذنه.

وفي الصباح ذهب إلى المسجد، وكان الجُنيد أول صوفي يعقد جلسته أو مجلسه العلمي في أكبر مساجد بغداد وهو مسجد المنصور، فجلس والتفَّ الخلق حوله، والناس في زمانه كانوا يلبسون العمامة، وهذا كنا نراه لعصر قريب في القرى، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلَّم كان يقول:

{ الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ }[2]

يعني تاجٌ على رأسه، وكما ورد في الأثر: (((تعمموا فإن الشياطين لا تتعمم) لذلك كان يلبسها الناس، وكان في أيامهم يُعرف المسلم بأنه يلبس العمامة، ويُعرف غير المسلم بأنه لا يلبس العمامة.

وفي بداية مجلسه جاء رجل يلبس عمامة، وقال: يا جُنيد: ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلَّم:

{ اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ }[3]

فنظر إلى الأرض وسكت، ثم رفع رأسه وقال: معناه أنه آن أوان إسلامك يا نصراني فأسِلم، فأسلم الرجل، وقال: لقد امتحنت قبلك ثلاثين رجلاً بهذه الطريقة فلم ينجحوا، لأنه كان يريد أن يرى هل معه الفراسة أم لا، والجنيد كان صاحب فراسة نورانية إلهية.

كان يعقد المجلس العام في مسجد المنصور وهو أكبر مسجد في بغداد، وكان يعقد مجالس خاصة لخاصة الخاصة وكان عددهم احدى عشر أو اثني عشر وكان لا يزيد العدد عن عشرين، لأن هؤلاء الخاصة، وحديث الخاصة غير حديث العامة، فهؤلاء لهم حديث هؤلاء لهم حديث.

ومعظم مشاكل المتحدثين في رحاب الصالحين تحدث بسبب أنه يسمع حديثاً خاصاً ونفسه لا زالت حية، فيريد أن يظهر أنه معه علوم ليست موجودة عند الناس، فيُحدِّث العوام، والعوام ليس شرطاً أن يكونوا أُميين، فقد يكونوا عوام ومعهم دكتوراه في مجال ما، ولكنهم عوام في هذه الناحية، فيحدِّثهم بالأحاديث الخاصة فلا يستوعبوها ويبدأوا في مهاجمة الصوفية، وينعوا على الصوفية، ويقدحوا في الصوفية، لماذ؟ لأنه أخرج الكلام لمن لا يستطيع أن يتحمله.

فكان الإمام الجُنيد رضي الله عنه في مجلسه الخاص يقول لهم عندما يدخلون: أجيفوا الباب يعني أغلقوا الباب من خلفكم حتى لا يأتي أحدٌ بغير إذن، وإذا دخل أحد سكت أولاً، فإذا كان أهلاً للكلام يُكمل الحديث، وإلا يغير الحديث إلى حديث عام حتى لا يُظهر البضاعة لغير أهلها، وهذا قوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ فِي قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَا تَكَلَّمُوا بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ الْجَاهِلِ فَتَظْلِمُوهَا، وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ، كُونُوا كَالطَبِيبِ الرَّفِيق يَضَع الدَّوَاءَ فِي مَوْضِعِ الدَّاءِ }[4]

الإمام الجُنيد رضي الله عنه وأرضاه كان حريصاً على أحكام الشريعة المطهرة كلها، والعبادات التي جاء بها الشارع صلى الله عليه وسلَّم جميعها، فبالنسبة للصيام كان مبدأه العام أن من أراد الفتح فعليه بالجوع والصيام، ولا ينفع الفتح والبطون ملأى بالطعام، ويقول لمن يصلي ولا يجد حلاوة الصلاة: ( يقوم أحدهم في صلاته فيجعل بينه وبين الله تعالى زنبيل طعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة أو يسمع فهم الخطاب) يعني تجعل بينك وبين الله مخلاة مليئة بالطعام، وتريد أن تشعر بحلاوة المناجاة!!.

من الذي يشعر بحلاوة العبادة وحلاوة المناجاة؟ الذي يديم العمل بقول حبيب الله ومصطفاه:

{ نَحْنُ قَومٌ لاَ نَأكُل حَتَّى نَجُوع وإِذَا أَكَلنَا لاَ نَشْبَع }[5]

لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، فمن أين يأتينا المرض؟! سواء المرض الظاهر أو الباطن.

وكان يقول: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال ولكن عن الجوع وترك الدنيا) وهذا الكلام معظم المعاصرين يكون التصوف عندهم عبارة عن كلام يدرسوه في الجامعات، فهل يوجد جزء عملي لهذا الكلام؟ لا يوجد، وخلطوا معه الفلسفة.

وكان يقول: (الصوم نصف الطريق) فقيل: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً كصيام سيدنا داود عليه والسلام، وقد تمرن على الجوع والصيام حتى وصل إلى حال قيل فيه: أنه كان يصوم أربعين يوماً متواصلة لا يفطر إلا كل أربعين يوماً مرة.

وهذا ليس باجتهاد ولكنه بأخذة قوية من رب العباد تبارك وتعالى، فلا يجوز لك أن تجتهد في ذلك، لأنها أخذة ربانية وليست اصطناعاً بشرياً لأنها فوق طاقة البشر.

أما الزكاة فكان حريصاً على أن لا يجب عليه نصاب الزكاة، مع أنه تاجر فكان ينفق كل ما تصل إليه يداه – بعد أن يكفي أهله – على الفقراء وعلى إخوانه في طريق الله تبارك وتعالى.

فلم تجب عليه الزكاة، وهذا كإمام القوم الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه وكرم الله وجهه إمام الصوفية، فلم تجب عليه الزكاة قط، لأنه لم يدخر حتى يكون معه مبلغاً يجب أن يؤدي عليه الزكاة، ولكن كان دائماً وأبداً ينفقه في مرضاة الله تبارك وتعالى.

ومن عظمته التي يجب أن يتأسى بها الناس في عصرنا، أنه مع سعة تجارته لم يحُج إلا حِجَّة الفريضة فقط، وكان يمكنه أن يحج كل سنة، وكان الحج وقتها ميسر وسهل، ولكنه كان يؤثر بذلك الفقراء والمساكين، كما قال سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وأرضاه: (لقمة في بطن جائع، خيرٌ من بناء ألف جامع).

فانظر إلى كلام الصالحين!، كلام له وزنه، لأنك تستطيع أن تصلي في الشارع أو في أي مكان، لكن الجوعان ماذا يأكل؟!، فهذه المواساة أولى، والناس الذين يسعون في تكرار العمرة وتكرار الحج، هذا الكلام إذا كان الناس قد شبعوا في البلاد الإسلامية ولم يعد فيها فقير، لكن ما دام فيها فقراء، فبعد الفريضة يكون الأَولى الفقراء.

ولما سُئل رضي الله عنه وأرضاه عما فتح الله عليه من العلوم، وقيل له: من أين استفدت هذا العلم؟ قال: (من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة) وكان قد جعل لنفسه حجرة صغيرة كخلوة أسفل سُلَّم البيت، فكان يجلس فيها في أوقات فراغه مع الله تبارك وتعالى.

فلم يضيع وقتاً في التجارة، ولم يضيع وقتاً في المنزل، وإنما وقته كله مع مولاه تبارك وتعالى، وهذه الأحوال هي التي يجب أن نقتدي فيها بالصالحين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.

كان شيخه – كما قلت – خاله السريّ السقطي، وبعد وفاته صَاحب شيخاً آخر هو الحارث بن أسد المحاسبي، وهذا المحاسبي كان رجلاً شديد المحاسبة على نفسه، حتى أنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم، وكان أبوه يميل إلى قول بعض المعتزلة في العقيدة، فرفض أن يأخذ درهماً من تركة أبيه، وقال: قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى }[6]

لا يجوز الإرث بين ملتين، وما دام هذا الرجل كان يقول بعقيدة غير عقيدة إجماع المسلمين فلا أرثه، ومن شدة ورعه ظل كذلك حتى كان ينبض له عرقٌ في يده إذا مد يده إلى طعام فيه شُبهة، فيعرف أن هذا الطعام فيه شبهة أو حرام، فلا يأكل منه، ولذلك سموه الحارث المحاسبي.

يحكي حال التلميذ مع شيخه فيقول: كان يأتيني البيت ويقول لي: هيا بنا نتصحَّر – يعني نمشي في الصحراء – فأقول له: أنا في خلوة تُخرجني بين الناس؟ فيقول لي: لا شأن لك بالناس، فأمشي معه في الطريق فلا أشعر بالناس حولي، ثم يقول: سلني – يعني اسألني بما عندك – فأقول له: ليس عندي شيء، ثم ينساب على قلبي سيلٌ من الأسئلة فأسأله عنها فيجيبها ثم يضعها في كتاب، وكُتب الحارث المحاسبي كلها بهذه الكيفية.

فأحوال الصالحين أحوال عجيبة وغريبة، لأنهم انشغلوا بالله ولم ينشغلوا بسواه، ففتح الله تبارك وتعالى عليهم بالعلوم النافعة، ورزقهم الأنوار الساطعة.

ما الذي أشهَر الجُنيد وجعلهم يسمونه سيد الطائفة؟ دوره في ضبط التصوف على قواعد الكتاب والسُنَّة، فجعل قواعد التصوف لا تخرج عن الشريعة طرفة عين ولا أقل، إن كان في العقيدة أو في العبادات أو في أي أمر من أمور توجه المرء نحو مولاه سبحانه وتعالى.

والذي يتبع التصوف ينبغي أن لا يصدر منه حركة أو سكنة أو قول يجعل الآخرين يعترضون على الصوفية، أو يعترضون على شرع الله تبارك وتعالى، لكن يكون صورة طيبة بما جاء به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلَّم.

فيقول: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريق واحد هو طريق من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلَّم واتَّبع سنته ولزم طريقته، فإن الخيرات كلها مفتوحة عليه).

ويقول لمن أراد أن يفتح الله عليه بعلوم وهبية: (من عمل بعلم الرواية، ورَّثه الله علم الدراية) علم الرواية يعني رواية فلان عن فلان عن فلان، فلا بد لعلم الشرع أولاً.

وقال: (إن الله أراد من العباد علمين: معرفة علم العبودية ومعرفة علم الربوبية، وما سواهما هو من حظ أنفسهم)

وهكذا كان من العلماء العاملين رواية ودراية، وكان من كبار الأساتذة في العلم والترقية في طريق الله في نفس الوقت.

ومن هنا نجد مواقفه التي اشتهر بها في حياته مع الجهلاء الذين ظهروا في عصره وانتسبوا للصوفية، فظهر كثيرٌ من المنتسبين للصوفية في عصره بجهل وبغير علم، ففعلوا أفعال، وقالوا أقوال ينكرها الشرع الشريف، فكان سيفاً مسلولاً على هؤلاء الخارجين على شريعة الله.

كان قومٌ منهم يقولون: أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى إلى الله تعالى، يعني يصلون إلى حال يكون كل ذكرهم قلبي ولا يحتاجون إلى ركوع ولا سجود ولا شيء من هذا، وهذه كلها خرافات، لكنه لم يكد يسمع هذا الكلام المضيع لحقوق الشريعة حتى انتفض ورد عليهم وقال: (إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لن أُنقص من أعمال البر ذرة، إلا أن يُحال بي دونها، وأنه لأوكد في معرفتي وأقوى في حالي).

ولما قيل له: إن جماعة يقولون أنهم وصلوا إلى حال لا يحتاجون فيه إلى الصلاة ورُفع عنهم التكليف، قال ساخراً: (قد وصلوا ولكن إلى سقر) لأنهم كيف يتركون الصلاة التي لم يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولا أصحابه من الخلفاء الراشدين، وغيرهم من الهادين المهديين رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين؟!!.

وكان له أيضاً صولاتٌ وجولاتٌ مع أهل الجذب الذين لم يحفظوا جذبهم بالأحوال الشرعية، لأن المجذوب الحقيقي يكون جذبه في قلبه، ولكنه لا يخالف الشريعة في ظاهره أبداً، يعني لا تجد مجذوباً في شهر رمضان يفطر نهاراً أمام الخلق، ويقول: أنا وصلت، أو يدخل الناس لصلاة الجمعة وهو خارج المسجد ويقول: أنا أُصلي بقلبي، أو أُصلي في مكة أو في المدينة كالتخاريف التي نسمعها، كل هذه خرافات كان يحاربها أشد الحرب رضي الله عنه وأرضاه.

حتى أن الحلاج تلميذ أبي عثمان المكي صاحب (قوت القلوب) جاء للجُنيد، والحلاج كان مجذوباً، لكنه في النهاية لما تعثَّر عقله كان يقول كلاماً لا ينتسب للشرع، فقال له: لم جئت؟ قال: طمعاً في صُحبة الشيخ، قال: أنا لا أجتمع بالمجانين، والصحبة تتطلب كمال العقل، يعني أنا لا أصاحب المجانين لأنه سيُشوِّه صورته.

وكان الحلاج في حضرته ذات مرة وقال: (أنا الحق) فقال له الجنيد: (أنت بالحق أيَّة خشبة تُفسد) وكان ذلك تنبؤاً بصلب الحلاج، وقد حدث، وقال له: (لقد أحدثت في الإسلام ثغرة لا تسدها إلا رأسك) فهو الذي حكم بقتله لأنه أظهر ما لا يطاق في وسط جموع المسلمين، وهذا لا ينبغي أن يكون أبداً.

فكان الجُنيد هو الذي جمع بين الشريعة والحقيقة في منهجه، لا إفراط ولا مغالاة ولا شطح ولا شيء من هذا القبيل، وإنما كان منهجاً صحيحاً معتدلاً، وهذا الذي من أجله سموه (سيد الطائفة) لأنه أول من قعَّد هذا المنهج على وفق شريعة الله سبحانه وتعالى.

والجُنيد كان له تلاميذ، منهم الإمام أبو الحسين النوري، وسموه النوري لأنه كان إذا ذكر الله يبيض وجهه ويستنير، ومنهم الإمام الشبلي، ومنهم رجل اسمه سمنون، وسمنون كان جميل الوجه، بهي الطلعة، عذب الحديث، وكان يعظ، فأُعجبت به امرأة، فجاءت إليه وزعمت أنها تريد أن تتلمذ على يديه، فصدها وردها، لأنه ينظر بنور الله تبارك وتعالى، فعرضت عليه أن يتزوجها، فرفض، فماذا تفعل؟ ذهبت المرأة إلى الجُنيد أولاً وحكت له ما دار، فلم يعبأ بها.

وكان في هذا الوقت رجل من القضاة يكره الصوفية، وكان قاضياً سلطانياً يعني مقرباً إلى السلطان العباسي، فذهبت إلى هذا القاضي وكان اسمه غلام الخليل وحكت له أن الجُنيد والنوري والشبلي وسمنون يتحرشون بها وفعلوا بها كذا وكذا وكذا،

فذهب غلام الخليل للخليفة وكبَّر له الأمر، وقال له: هؤلاء الجماعة خارجين عن الشرع وملحدين ويستوجبوا القتل.

فأتوا بالجُنيد وتلاميذه حتى يُقتلوا، وجاءوا بالسيَّاف والجلاد لينفذوا الحكم، وإذا بأبي الحسين النوري يتقدم ويقول للسياف: ابدأ بي أولاً، قال له: ولِمَ؟ قال: أوثر إخواني بساعة يذكرون فيها الله تعالى، فتعجب الرجل من هذا الإيثار في القتل!، يريد أن يُقتل قبل إخوانه ليزيد إخوانه في طاعة الله وفي ذكر الله، فارتجَّ الرجل وقال للخليفة: إن كان هؤلاء ملحدين فما على وجه الأرض موحد.

وراجع الخليفة، وتم تبرئتهم أجمعين من هذه النكبة التي تعرض لها الجُنيد وتلامذته.

أصول منهجه الصوفي

ما أصول منهجه الذي نسأل الله أن يعيننا ونمشي عليه؟

الأصل الأول: الحرص على لزوم العلم.

كان يقول لأي مريد: يا فتى الزم العلم ولو وَرَد عليك من الأحوال ما ورد، ويكون العلم مصحوبك، فالأحوال تندرج فيك وتنفذ لأن الله يقول: ” وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ” (7آل عمران).

الأصل الثاني: العمل بالعلم.

وفيه يقول: (بُني الطريق على أربع: لا تتكلم إلا عن وجود، ولا تأكل إلا عن فاقة، ولا تنم إلا عن غلبة، ولا تسكت إلا عن خشية من الله تبارك وتعالى).

الأصل الثالث: النية الحسنة.

لأنه أساس العمل النية الحسنة، حسِّن نواياك، وصفِّ طواياك، فكان يقول: (من فتح على نفسه باب نية حسنة فتح الله عليه سبعين باباً من التوفيق، ومن فتح على نفسه باب نية سيئة فتح الله عليه سبعين باباً من الخذلان من حيث لا يشعر).

الأصل الرابع: الأخلاق.

كيف أبحث عن الكمال وهو الأخلاق؟ قال: (مبنى التصوف على أخلاق ثمانية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، السخاء وهو لإبراهيم، الرضا وهو لإسحاق، والصبر وهو لأيوب، والإشارة وهي لزكريا، والغربة وهي ليحي، ولبس الصوف وهو لموسى، والسياحة وهي لعيسى، والفقر وهو لمحمد صلى الله عليه وسلَّم).

يعني الخلاصة أنك تتخلق بأخلاق الأنبياء، وعندما تقرأ كتاب الله وتصل إلى مواضع ذكر الأنبياء تأخذ العبرة من أخلاقهم لكي تتأسى وتقتدي بها: ” أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ” (90الأنعام) لم يقُل: فبهم اقتده، ولكن: (فبهداهم) يعني هديهم الذي كانوا عليه.

وكان يشترط على المريد الذي يريد أن يتبعه المداومة على عدة أمور، فيقول له: (دوام الوضوء، ودوام الصبر، ودوام السكوت، ودوام العُزلة عن الخلق، ودوام الذكر، ودوام نفي الخواطر، ودوام ربط القلب بالشيخ، ودوام ترك الاعتراض على الله تبارك وتعالى)

حتى وصل به الحال أنه قال لتلميذ من تلاميذه في الترقي وهو الإمام الشبلي رضي الله عنه، وهذا كان من الأتقياء الأنقياء: إذا خطر على قلبك غير الله من الجمعة إلى الجمعة فلا تأتينا.

ما هذه التربية؟! تربية راقية وعاليه، ولذلك كان تعامله مع تلاميذته كله شفافية منه ومن التلاميذ الذين رقاهم.

ذهب الجنيد إلى واحد منهم ليزوره، وكان اسمه خير النساج، فلما طرق الباب يقول خير النساج: خطر على بالي أن هذا هو الجُنيد، ولكن قلت: كيف يأتي إليَّ الآن؟! فطرق الباب مرة ثانية، فجاءه نفس الخاطر ولكن أيضاً قلت: ما الذي يأتى به الآن؟! فطرق الجنيد للمرة الثالثة، فقمت وفتحت الباب، فقال له الجنيد؟ قال: لِمَ لم تفتح عند الخاطر الأول؟!!، ما هؤلاء؟! وما هذه القلوب؟!.

أحد تلامذته واسمه أبو عمرو بن علوان كان في سوق اسمه سوق الرحبة، فمرت جنازة فمشى خلفها، فرأى امرأة وكانت حاسرة – يعني وجهها مكشوف – ودقق النظر، فلما عاد للبيت قالوا له: لماذا لون وجهك قد اسود؟! انظر كيف كان يحاسبهم الله؟ فظل أربعين يوماً يتوب إلى الله حتى يعود وجهه للبياض فلم يعد، اسودَّ وجهه من ذنب واحد فقط، ونحن كم من الذنوب نرتكبها في اليوم؟!!.

فلما علم أنه لا فائدة قال: لا بد أن أذهب للجُنيد، فذهب وطرق الباب فقال له: أدخل يا أبا عمرو، تُذنب بالرحبة ونستغفر لك ببغداد؟ ما هذه العلاقة؟ وما هذا الجمال في العلاقة بين الشيخ وبين المريدين؟!.

والأدهى من هذا يقول: رأيتُ ذات مرة في المنام إبليس وهو يرتدي ملابس مهلهلة ولونه أصفر اللون ونحيف، فقلت له: ما الذي غير لونك وما الذي أضعفك؟ هل الناس؟ فقال: وأين الناس؟! ولكن ما فعل بي هذا هم تلامذتك في مسجد الشُنزية، ومسجد الشُنزية كان به مجلس الجنيد مع تلامذته.

فاستيقظ الجنيد قبل الفجر بساعة، وتوضأ وذهب إلى المسجد، فوجد في المسجد أربعة أو خمسة من تلامذته، واحد منهم جالس ورأسه بين ركبتيه، وواحد يُصلي، وواحد يقرأ القرآن، وبمجرد دخوله من الباب رفع الذي رأسه بين ركبتيه رأسه وقال له: يا جُنيد لا يغرنك كلام هذا الخبيث!.

ما هذه التربية؟ كثير من المريدين في البدايات يكون متعلقاً بالرؤيات، لكنه يريد أن يرقيه فيُخرجه من هذه الورطة.

وجاءه واحد منهم وقال له: أنا رأيتُ نفسي وأنت معي في الجنة، فقال له: هل الشيطان لم يجد أحداً يسخر منه إلا أنت وأنا؟! يعني لا تقف عند هذا الحد، فنحن نريد الرؤيا العينية وليست الرؤيا المنامية.

وأحد تلامذته غاب فترة ولم يعد يحضر معهم، فقال لهم: اسألوا عن هذا الرجل لِمَ لم يعد يحضر معنا؟ فذهب إليه بعض إخوانه وسألوه، فقال لهم: إني كل ليلة أبيت في الجنة، قالوا: كيف تبيت في الجنة؟ فقال: يأتيني جماعة ويحملوني ويدخلوني الجنة، ونعمل كذلك حلقة ذكر هناك.

والجنيد يعلم أنه مُلبَّسٌ عليه، والشيطان يضحك عليه، فذهبوا للجنيد وحكوا له ما قاله، فقال لهم: اذهبوا إليه وقولوا له: عندما تشتغل حلقة الذكر قُل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فجاءته الشياطين ليحملوه وذلك ليبعدوه، ونصبوا حلقة الذكر وبمجرد أن قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فوجئ بالضرب ينزل عليه من كل جهة حتى أُغشي عليه، فظل نائماً حتى ظهرت الشمس ولسعته، فنظر فوجد نفسه في مزبلة بغداد، فعرف أن هذا من الشيطان وأنه كان ملبس عليه.

لنعرف أن الجُنيد كان من الرجال، والرجال قليل، ورجلٌ للتعليم والتربية والترقية، لماذا؟ لأن هذه أحوال الصالحين.

وكان يقول رضي الله عنه: (لا تكون عبداً لله بالكلية، حتى لا تبقى عليك من غير الله بقية) يعني لا يكون فيك شيئاً نهائياً لغير الله سبحانه وتعالى.

ويقول: (ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله، وأصله العزوف عن الدنيا، كما قال حارثة: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي وأظماتُ نهاري).

الجُنيد أيضاً له كتب وبعضها مطبوع، وهي ليست كتبٌ كبيرة، فتجد الكتاب حوالي خمس أو ست صفحات فقط، فهو لم يكن يهتم بالكتب، وتلامذته هم الذين جمعوا هذه العلوم وكتبوها في كتب ونقلت عنهم، ومنم كتاب اسمه (السر في أنفاس الصوفية)، وكتاب (الفناء)، وكتاب (الميثاق)، وكتاب (مسائل في التوحيد) وكتاب في (الألوهية)، وكتاب في (الفرق بين الصدق والإخلاص)، وكتاب عن (أدب المفتقر إلى الله)، ومسائل في (السُكر والإفاقة)، وكتاب (دواء التفريط)، وكتاب (دواء الأرواح)، وهذا غير رسائل كثيرة كان يرسلها لأحبابه، وكلها أيضاً تحوي علومه.

الشيء الغريب العجيب الذي نقف عنده لحظة وفاته، هذا الرجل توفى في آخر ساعة من نهار الجمعة ببغداد سنة 297 هجرية، وعند موته كان يقرأ ورده من القرآن، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له:

{أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ }[7]

ماذا يعني ذلك؟ يعني من يقرأ القرآن عندما يصل لسورة الناس ويختم، لا بد أن يبدأ أولاً من سورة الفاتحة ويقرأ ولو ربعاً من سورة البقرة حتى يكون قد حلَّ وارتحل على الفور.

فكان عند موته قد ختم القرآن ثم بدأ من سورة الفاتحة والبقرة فقرأ سبعين آية، فدخل عليه واحد من تلامذته اسمه ابن عطاء، فسلم عليه، فأبطأ الجنيد في رد السلام، ولما تكلم قال له: أعذرني فقد كنت في وردي – يعني كنت مشغول فلم أرد عليك – فقال ابن عطاء: بعد ذلك حوَّل وجهه إلى القبلة ومات!.

وأثناء قراءته جاءه تلميذ آخر ووقف عند رأسه واسمه الجريري، فقال له: ارفق بنفسك، يعني أنت في هذه اللحظة ليس شرطاً أن تقرأ، فقال الجنيد: ما رأيتُ أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، وهو ذا تُطوى صحيفتي، يعني صحيفتي تُغلق الآن وأحسن شيء أغلقها به أن أختم وردي في تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى.

وجاءه أحد تلامذته فوقف وقال له: قُل (لا إله إلا الله) فقال: ما نسيته فأذكره، يعني أنا ذاكر له على الدوام.

ومع ذلك فإن أحد تلامذته قال: رأيتُ الجُنيد في المنام بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في السحر.

أرأيتم العبرة من أحوال الصالحين؟! حتى النَفَس الأخير لا يشتغل إلا بذكر الله وتلاوة كتاب الله.

نسأل الله تعالى أن ينفعنا بالصالحين أجمعين، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] رواه ابن أبي الدنيا، وابن حجر في المطالب العالية

[2] مسند الشهاب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه

[3] جامع الترمذي والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

[4] المطالب العالية لابن حجر عن ابن عباس رضي الله عنه

[5] زاد المعاد والبداية لابن كثير

[6] سنن أبي داود وعون المعبود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[7] الحاكم في المستدرك والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما

1 المقطم – مجمع الفائزين الخيري 27 من شعبان 1443 هـ 30/3/2022م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid