Sermon Details
ذو النون المصري
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي يُولي عنايته لمن يشاء من عباده فينظر إليه بعين عنايته فيجعله ولياً، ويرعاه بعين رعايته فيجعل قلبه تقياً، والصلاة والسلام على تاج الأولياء، وسر صفاء كل الأصفياء، كوكب السعداء في الدنيا ويوم العرض والجزاء، سيدنا محمد وآله وصحبه وكل من مشى على هديه إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم أجمعين .. آمين يا رب العالمين.
اختار لنا الله تبارك وتعالى أن نتدارس سير الصالحين، ولعل قائلاً يقول: ولماذا لم نجعلهم صحابة النبي الأمين؟ أولاً: لأنكم جميعاً – والحمد لله – قد أحطتم بكثير من المعارف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لشهرتهم.
ثانياً: لأننا نريد رجالاً نقتدي بهم ونقتفي آثارهم، لعل الله تبارك وتعالى يفتح علينا كما فتح عليهم.
فإذا ذُكر الصحابي سيقول الحضور: هذا كان في عصر النبي، ويكفيه نظرات النبي ومجالسة النبي، والوحي كان يتنزَّل من السماء على النبي.
فكانت العبرة أنجع والموعظة أسمع بالرجال الذين جاءوا بعد عصر حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، والنبي صلى الله عليه وسلَّم بشَّر بهم وإشتاق إليهم وقال:
{ وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي، فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي }[1]
وكلمة (إخواني) للرجال والنساء، لأنه خطاب عام للفئتين، قال صلى الله عليه وسلم:
{ إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ }[2]
وقال صلى الله عليه وسلَّم: { إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ لأنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الخَيْرِ أَعْوَانَاً وَلَاَ يَجِدُونَ عَلَى الخَيْرِ أَعْوَانَاً }[3]
ومع ذلك من كمال الأدب أن لا نفاضل أحداً مهما بلغ من الرتب مع الصحابة الكرام أصحاب الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، ولا يأخذها أحد على أن عمل الواحد بخمسين يعني نحن أحسن منهم، فقد قال: عمل الواحد ولم يقُل الواحد بخمسين، ولكن عمله فقط، والله يضاعف الأجر والثواب على قدر المشقة.
علوم الولاية
ونحن نتناول سيرة هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه بحسب ترتيبهم الزمني التاريخي، وأول رجل تكلم في علوم الولاية وعلوم الإلهام وعلوم المعرفة في بلدنا مصر كان السيد ذو النون المصري، وهذا كان في القرن الثاني والثالث الهجري، وكان من تلاميذ الإمام مالك، ومن رواة كتابه المشهور (الموطأ) ويكفي أن من تلاميذ السيد ذو النون المصري الإمام الجُنيد الذي يُقال له سيد الطائفة.
مولده وتربيته
هذا الرجل اسمه ثوبان بن إبراهيم، وُلد من أبوين نوبيين في مدينة أخميم بمحافظة سوهاج الآن سنة 179 هـ، حتى نعرف أن فضل الله لا يقتصر على عرق ولا نسب، وإنما كما قال صلى الله عليه وسلَّم في سلمان الفارسي:
{ سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ }[4]
وقال في بلال الحبشي كما ورد ببعض الأثر: ((أدخل الإسلام بلالاً في نسبي، وأخرج الكفر أبا لهب من نسبي)) المهم النسب المحمدي وليس النسب الطيني.
هذا الرجل كعادة الصالحين الذين نتحدث عنهم سلك مسلك الصالحين، فبدأ بحفظ القرآن، وطلب العلم النافع من علوم الدين الفقه والحديث، وكاد يكون محدثاً لأنه كان يروي كتاب الإمام مالك، ولذلك سألوه: لِمَ لم تكن محدثاً؟ قال: للحديث أهله، وأنا شغلي بنفسي ألهاني عن ذلك، يعني كنت مشغول بتجهيز نفسي وتربية نفسي، وهذا لا يتأتى وهو يشتغل بالعنعنة والأسانيد وما شابه ذلك في علم الحديث.
سعة معرفته
ومن شدة ذكائه وألمعيته لم يكتفي بالعلوم الدينية، فدرس علوم الفلسفة، ودرس علوم الكيمياء القديمة، والكيمياء القديمة كان يُقصد بها تحضير الذهب وصناعته، فوصلوا إلى كيفية تجميع العناصر التي يتكون منها الذهب ليصنعوه منها، وأبوهم في ذلك كان جابر بن حيان، وجابر بن حيان تعلم ذلك من الإمام جعفر الصادق رضي الله عنهم أجمعين.
وتعلم علم الطب، وتعلم اللغة المصرية القديمة، حتى أنه فكَّ كثيراً من شفراتها، فكان واسع المعرفة في كل النواحي، وكان مع ذلك الاطلاع الواسع هداه الله إلى رجل يُسمى شقران العابد، واتخذه شيخاً له في طريق الله عز وجل.
وسيدنا شقران – لمن يبغي أن يعرف مكانه لزيارته – قريبٌ من ضريح سيدنا عُقبة بن عامر رضي الله عنه، وأيضاً سيدنا ذو النون المصري في هذا المكان بعد الإمام الشافعي.
سر تسميته بذي النون
لِم سُمي ذو النون؟ لأنه كان يمشي يوماً على شاطئ النيل، وكانت التماسيح كثيرة في هذه الأيام في نهر النيل، والتمساح له خاصية أنه يمشي على البر ويعوم في البحر، فيخرج يمشي على البر ويخطف شيئاً ثم ينزل البحر مسرعاً، وكانت هناك امرأة تمشي على شاطئ النيل فخرج تمساح وخطف ابنها، فأخذت تصيح: واإبناه واإبناه، فسألها سيدنا ذو النون عن سبب صراخها؟ قالت: إن التمساح أخذ ابني ونزل به في الماء، فما كان منه إلا أنه لبس قميصاً بعد أن خلع ملابسه حتى لا ينزل الماء عرياناً، ونزل إلى النيل وأخذ يسبح حتى وصل إلى التمساح، وأمسكه من فمه وأخرج الطفل من فمه، ولذلك سموه ذو النون تشبيهاً بسيدنا يونس نبي الله: ” وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا ” (87الأنبياء) فسموه ذو النون تيمناً وتشبهاً بنبي الله يونس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
خروجه من أخميم
دائماً من اجتباهم الله ويجتبيهم لولايته يظهر عليهم من الصِغر عناية الله فطرة في تصرفاتهم وفي أحوالهم، ولا يكونوا كالبشر العاديين، فهو كان قاطناً في أخميم، فلِمَ خرج من أخميم؟ سبب غريب وعجيب يحكيه الإمام المناوي رضي الله عنه وأرضاه، فيقول: كان ماشياً ذات يوم في البلد فسمع صوت غناء ومعه دفوف، فسأل ما هذا؟ قالوا: عُرس، ثم مشي قليلاً فسمع صوت بكاء ونواح، فسأل ما هذا؟ فقالوا: فلان قد مات، وهذا ما يحدث في هذه الأيام، ولم يكن يحدث من قبل، فكان الناس يحترمون مشاعر بعضهم.
فماذا قال؟ قال: أُعطي هؤلاء فما شكروا، وابتُلي هؤلاء فما صبروا، يعني هؤلاء الله أعطاهم فما شكروا الله على النعمة، لأن نعمة الفرح ليست بالدُّف، ولكن بالوليمة وبالصدقة وبإطعام الفقراء، وهكذا، والآخرين لم يصبروا على أمر الله فرفعوا الصوت بالنواح والبكاء وغير ذلك، وهذا محظورٌ في شرع الله تبارك وتعالى.
فقال: لله عليَّ أن ألا أبيت بهذا البلد، يعني طالما أن هذه البلد لا تحترم المشاعر فلن أبيت فيها، فهاجر إلى القاهرة، وعاش في منطقة الجيزة في المكان الذي يُسمى الآن (أبو قتادة) وهم ينطقونها خطأ فيقولون (أبو قتاتة) لكن هذا المكان فيه هضبة عالية، وعلى ظهر الهضبة من أعلى مقام سيدنا قتادة الصحابي الجليل، فعاش في هذه المنطقة.
التوجه إلى الله
ثم كان السبب الرئيسي في توجهه إلى الله تعالى بالكلية، والله تبارك وتعالى يخلق الأسباب، ويُعطي من يشاء بغير أسباب وبغير حساب، لكن حكمته الكونية أنه جعل لكل شيء سبباً
فكان يحب الحركة، بما نسميه في عصرنا بالسياحة، فلا يحب أن يبقى في مكان، ولكن يمشي ويسعى ويسوح، ولذلك نعتبره إمام السائحين.
يحكي عن سبب رجوعه أو توبته بالكلية إلى الله فيقول: ذهبت لقرية قريبة أزورها وبعد ذلك نمت تحت شجرة، فاستيقظت من النوم فوجدت طائراً أعمى فوق غصن الشجرة، وسقط الطائر على الأرض، وإذا بالأرض تنشق ويخرج إناءان صغيران، واحد من ذهب وواحد من فضة، في أحدهما سمسم وفي الآخر ماء، يأكل الطائر من السمسم ويشرب من الماء: ” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا ” (6هود) حتى لو كانت في جوف الأرض أو في جوف صخرة لأرسل الله إليها من يأتيها برزقها.
فيقول: عندما رأيت هذا المنظر قلت: حسبي تُبت، سأعود إلى الله ولن أترك هذا الأمر حتى يقبلني الله ويفتح عليَّ فتحاً مبيناً.
إمام السائحين
كان عنده ولهٌ شديد بزيارة الأولياء، فكلما سمع عن ولي من الأحياء يسافر ليزوره، وكان عنده ولهٌ بالسياحة، والصالحين لهم في كل بلد من بلاد الله أماكن خُصُّوا بها وخَصُّوا بها أنفسهم، يعني أماكن جعلوها مخصوصة للعبادة، يعني في القاهرة المكان المشهور بالعبادة هو جبل المقطم، ففيه خلوات كثيرة، والخلوة هي مكان يتخذه السالك ويمكث فيها يتعبد فيها لله تبارك وتعالى.
وفي بلاد الصعيد كانت الخلوات في الجبال المحيطة بالمدن والقرى، وفي سيناء كان جبل الطور يذهب إليه الراغبين في الولاية، وفي لبنان جبل مشهور هناك كان أيضاً يذهب إليه الأولياء ويتعرفون على بعضهم فيه، وفي السودان جبل إلى الآن اسمه جبل الأولياء، وكله خلوات، وكان يذهب إليه السالك ويمكث فيه حتى يفتح الله عليه، وبعدها ينزل.
زار سيدنا ذو النون كل هؤلاء الأولياء وهذه الجبال، وانظروا إلى هذه الهمة، فزارهم جميعاً، واجتمع على الأولياء وكلَّمهم، ولذلك له حكايات لا تُعد ولا تُحد عن هؤلاء الأولياء.
حكاياته
من ضمن حكاياته يقول: كنت ماشياً ذات مرة في جبل في لبنان، فقابلت امرأة، فسألتها: إلى أين تذهبين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله، فقال لها: ومن أين أتيتِ؟ قالت: من عند رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يعني كأنها أخذت عهداً على نفسها أن لا تتكلم إلا بالقرآن، ويؤيدها الله ويُلهمها الله تبارك وتعالى بذلك.
ومن إحدى حكاياته الشيقة جداً يقول: كنت واقفاً على شاطئ النيل، فوجدت عقرباً آتية مسرعة فهممت بقتلها فلم أستطع، واستمرت في سيرها حتى وصلت إلى شاطئ النيل، وكان هناك ضفدع كأنه في انتظارها، فعلت على ظهر الضفدع – أي قفزت على ظهره – فصار الضفدع يسبح بسرعة سريعة إلى الشاطئ الآخر، فأخذني الفضول فتبعته، لأن هذا شيء غير طبيعي وشيء غريب، فالإنسان الذي يريد أن يكون من الصالحين يجب أن يكون له عبرة في كل شيء: ” فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الابْصَارِ ” (2الحشر).
يقول: فوصلت العقرب إلى الشاطئ الآخر، وقفزت من على ظهر الضفدع ومشت بسرعة، يقول: فمشيت خلفها فوجدت رجلاً نائماً ونازل من فمه خمر، وثعبان ضخمٌ يريد أن يلدغه، فذهب إليه العقرب بسرعة ولدغه فتفتت في الحال، فأيقظت الرجل وقلت له: ماذا تفعل؟ وماذا يفعل الله معك؟!! أنت نائم وشارب للخمر والله أرسل إليك من ينقذك من الموت المحقق في الوقت والحال، فقال: يا رب لله عليَّ أن أتوب توبة نصوحة ولا أرجع إلى ذنب بعد اليوم.
فعنده قصص من هذه القصص كثيرة جداً، ولذلك الصالحون يحبون هذه القصص الكثيرة لسيدنا ذو النون المصري رضي الله عنه وأرضاه.
حدثت أيضاً له نادرة، فقد ذهب إلى بلد اسمها طرطوس في سوريا على البحر، وهذه الواقعة تبين شدة صدقه وقربه من الله، فقدَّمه الناس وصلَّى بهم، وكانت الروم في هذا الزمان اعتادوا أن يهجموا على هذه البلاد، وعندما يهجمون كان النفير يعمل حتى ينتبه الناس ويحرسون أنفسهم، فسمعوا النفير وهو في الصلاة، فأكمل الصلاة ولم ينشغل، وبعد الصلاة قالوا له: أنت جاسوس، فقال لهم: لماذا؟ قالوا: كيف تسمع النفير ولا تُنه الصلاة سريعاً، فانظر لرده، قال لهم: إنما سُميت صلاة لأنها اتصال بالله تعالى، وما حسبت أن أحداً يكون في الصلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطب به مولاه.
يعني أنه لم يكن يظن أن أحداً يكون في الصلاة ويسمع أحداً غير ما يكلم به المولى سبحانه وتعالى، وهذا يدل على مبلغ الصفاء والنقاء الشديد الذي جمَّله به مولاه سبحانه وتعالى.
وأيضاً من عناية الله تعالى به يقول: أصابني ضيقٌ شديد، فبتُ أتفكر ماذا أفعل؟ ففكرت أن أمشي وأذهب لأحد من إخواني حتى يفك عني هذا الضيق، يقول: فسمعتُ قائلاً في النوم يقول لي: أيجمُل بالحُرّ المريد إذا وجد عند الله ما يريد أن يميل بقلبه إلى العبيد؟!.
انظر إلى الرعاية وإلى العناية كيف تكون، يعني ما دام الله يرعاه فهل يتجه إلى خلق الله؟!! لا.
محنته
لكن لما فتح الله عليه – كما قلنا سابقاً – بدأ يتكلم في علوم لم يسمعها الناس في بلده ولا في مصر من قبل، فالناس كانوا يتكلمون في الفقه وفي الحديث وفي السيرة وفي العلوم الشرعية، وهذه أول مرة يسمعون كلاماً في الولاية، وكلاماً في منازل المتقين، وكلاماً في معرفة الله، وكلاماً في أهل ولاية الله.
وبالطبع فإن الواقفين عند الحدود الشرعية لا يعجبهم هذا الكلام، فاتهموه بالزندقة، وزنديق يعني أنت خارج عن نطاق الدين، وكانت مصر في عصرها ولاية تابعة للدولة العباسية، وكان الخليفة العباسي في زمنه الخليفة المتوكل، فشكوه وأرسلوا إلى الخليفة المتوكل بأنه يوجد زنديق سيغير الناس كلهم.
فأرسل المتوكل للوالي في مصر ليرسله، لتعرفوا أن أشد الناس بلاءاً بعد الأنبياء الأولياء، كما سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
{ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءَ؟، قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ }[5]
فأرسل إليه وأخذوه مقيَّداً إلى أن وصل إلى بغداد ليدخل على الخليفة، وهذا الكلام كان سنة 244 هجرية، ومن يتق الله يؤيده الله سبحانه وتعالى بالصالحين من خلق الله رجالاً أو نساءاً، يقول: فتركوني أمام باب المتوكل في الخارج، فوجدت امرأة عجوز جاءتني وقالت لي: إذا دخلت على المتوكل لا تهابه، ولا تراه فوقك، ولا تحتجَّ لنفسك محقاً كنت أو متهماً، لأنك إذا هِبته سلَّطه الله عليك، وإن حاججت عن نفسك لم يزدك ذلك إلا وبالاً، فإن كنت بريئاً فادعو الله أن ينتصر لك، ولا تنتصر لنفسك فيكلك إليها.
أرسل له الله هذه المرأة حتى تعطي له هذه النصيحة، فيقول: عملتُ بالنصيحة، فدخل على الخليفة فسأله: ما رأيك فيما يتهموك به؟ فلم يتكلم، فقال له: لِمَ لم تتكلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين إذا قلت لا أكذبت المسلمين – يعني كذَّبت المسلمين الذين يتهموني بهذا الإتهام وإن قلت نعم كذبتُ على نفسي بشيء لا يعلمه تعالى الله مني، فافعل ما ترى، إنني غير منتصرٌ لنفسي.
ففوراً قال المتوكل: هذا الرجل بريء، وقال له: عظني، فوعظه، فبكى المتوكل من وعظه وقال: إن شئت أقمت عندنا على الرحب والسعة، وإن شئت رددناك معززاً مكرماً.
وكان يذكره على الدوام ويقول: إذا ذُكر ذا النون فهيهلا بصاحب الورع ـ يعني الرجل الورع.
ورعه
ومن ورعه في هذه المدة أنه قد سُجن أربعين يوماً قبل أن يدخل للمتوكل، فإحدى الصالحات كانت ترسل له كل يوم رغيفاً وتقول له: هذا طعام حلال، وبعد أن أنهى الأربعين يوماً خرج من السجن فوجدوا الأربعين رغيفاً كما هي لم يأكلها، فقالوا له: لِمِ لم تأكل منها مع أنها حلال؟ فقال لهم: لأنها جاءت على يد ظالم وهو السجَّان، أي حارس السجن، فامتنع عن أكلها في هذه المدة لأنه كان أهم ما يحرص عليه كالصالحين أجمعين اللقمة الحلال.
علمه
كان عالماً في كل المجالات، فغير أنه كان واعظ يعظ الناس مواعظ بالغة، وله مجالس وعظ مشهورة في القاهرة والجيزة وغيرها، لكن كان له كتب، فقد ألَّف كتب في علوم الكيمياء، وألَّف كتب في العلوم الدينية منها (صفة المؤمن والمؤمنة) ومنها (رسالة في ذكر مناقب الصالحين) وله قصص عملها في كتب ويُعتبر من أول من كتب القصص في كتب.
وكان كذلك شاعراً، فله شعر في العلم، وفي الكيمياء، وله شعر في التصوف، وله شعر في كل المجالات، ويكفيه شرفاً أن أول من كتب عنه الشيخ محي الدين بن عربي، وعمل عنه كتاباً سماه (الكوكب الدريُّ في مناقب ذي النون المصري) وناهيك بمحي الدين بن عربي.
وكذلك الحافظ السيوطي عمل عنه كتاب سماه (السر المكنون في مناقب ذي النون)، وكذلك الإمام أبو نعيم الأصفهاني صاحب حلية الأولياء، وكان مُحدثاً وأملى كتاب حلية الأولياء في عشر مجلدات من ذاكرته دون أن يرجع إلى مرجع، وفيها أحاديث برواة السند، ولهم أقاويل يرويها أيضاً كذلك، فعمل كتاب كبير أيضاً عن ذي النون المصري رضي الله تعالى عنه.
المشكلة أن هذه الكتب موزعة في مكتبات العالم، فمنها في فرنسا، ومنها في بريطانيا، ومنها في الهند، ومنها في تركيا، ومنها في سوريا، ومنها في السنغال، توزعت في مكتبات العالم، وتحتاج إلى عدد من الباحثين المجدين المجتهدين يذهب إلى هناك ويصور هذه النسخ ويأت بها حتى يجمع تراث هذا العالم الورع ذو النون المصري رضي الله عنه وأرضاه.
أسس جهاد النفس
ذو النون كان صوفياً ملتزماً بالشريعة في كل تصرفاته، وكان يربط بين الحقيقة والشريعة، وعلم الباطن وعلم الظاهر، وأساس التصوف عنده مجاهدة النفس، وبعدها المحبة، وبعدها المعرفة.
وجهاد النفس عنده يقوم على أُسس أربعة:
1- حب الجليل وهو الله سبحانه وتعالى.
2- بُغض القليل، أي القليل من العمل الصالح، يعني لا بد أن يُكثر من العمل الصالح.
3- اتباع التنزيل، وهو القرآن الكريم.
4- خوف التحويل، يعني يخاف أن يتحول قلب الإنسان في أي لحظة من اللحظات: ” رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ” (8آل عمران).
هل يوجد منهج أصَّح من هذا؟!! منهج جامع مانع للشريعة والحقيقة.
علامات القلب المريض
وعندما كان يذهب إليه أحدٌ يكشف عليه ويقول: علامة القلب المريض أربع أشياء:
العلامة الأولى: أن لا يجد حلاوة للطاعة، يعني يؤدي الصلاة ولا يشعر بحلاوة، ويقرأ القرآن ولا يشعر بطلاوة، وهذا دليل على أن الإنسان يجب أن يصحح نواياه ويصحح الإخلاص والقصد في قلبه لله تبارك وتعالى.
العلامة الثانية: أن لا يخاف الله، أهم علامة للمريد عندنا ونعرف بها أنه مريد سعيد أن يخشى الله ويراقب الله، ويعلم أنه يطلع عليه ويراه.
العلامة الثالثة: أن لا ينظر إلى الأشياء بالعبرة، فالمريد السالك في طريق الله في كل شيء يكون له عبرة يعتبر بها، حتى يمشي في الإتجاه القويم المستقيم، لأنه لو لم يكن له عبرة ربما يتمادى في الباطل، وربما يزيد في الغي لأنه ليس له شيء يعتبر به ويرده إلى الطريق السوي.
العلامة الرابعة: أن لا ينال من العلم ما يتأدب به، يعني قد يمكث مع الصالحين سنين، ويكون قد سمع علوم تجعله عالماً من العلماء الكبار، لكن ما الذي ظهر عليه من تأثير هذه العلوم في أخلاقه وسلوكياته وأحواله؟!، وهذا سؤال دائماً أسأله، فقد كنت أقول لنفسي: لِمَ لا أرى أحداً أو مجموعة من الأحباب من حولي صادقين في القول، ولا يتحولون عن الصدق مهما كانت الأسباب؟ لا أجد.
فهناك أُناس يستسهلون الكذب، والأشد من ذلك أن البعض يرى أن الكذب ليس ذنباً، ويراه كأهل هذا الزمان مخرج أو فهلوة، فيكذب ليخرج من هذا المطب، وهذه مصيبة المصائب، لكن الذي يريد أن يكون مع الصادقين فيعمل حتى بقول سيد الأولين والآخرين:
{ إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا }[6]
حتى في المزاح واللعب، لأن المرأة عندما قالت لابنها الصغير لو أحضرت كذا لأعطيتك تمرة، وذهب وأتى لها بطلبها فأعطته التمرة، قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةٌ }[7]
لو لم تُعطها له لكُتبت عليها كذبة، ولحاسبها الله عز وجل عليها يوم القيامة.
متى يتحقق الإنسان أن هذا المريد سالك على المنهج الرشيد، ولا يخشى عليه من الوعيد، ولا من البعد عن الحبيب المصطفى؟ إذا كان يرى في كل الأوقات أن الله يطلع عليه ويراه، فوصل إلى مقام المراقبة، ومن لم يصل إلى مقام المراقبة ويرى أن الناس لا يرونه فيفعل ما يريد، فهذا يبكي على نفسه دماً وليس دمعاً، لأنه ليس له شأن بهذا الطريق.
وبعضهم يظن أن الصالحين مأمورين بالستر فلا يكشفوه فيكذب عليهم هو الآخر، ولا يعرف أنه يدخل في الحديث:
{ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا }[8]
فلا تلومنَّ إلا نفسك: ” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ” (46فصلت).
هذه موازين وضعها الشارع عز وجل نزن بها المريدين، حتى لا نعطي لأحد إلا ما يستحقه من عند رب العالمين تبارك وتعالى.
والسالك القويم المستقيم يخشى خشية شديدة من مثل هذه الأمور، إياك أن تحاول أبداً أن تكذب في أي أمر ولو كان فيه نجاة رقبتك، فإن كان الكذب يُنجي فالصدق أنجى.
اسم الله الأعظم
ولذلك أحد الناس رأى من سيدنا ذي النون كرامة – وهو له كرامات كثيرة – فأسرع وأمسك به وقال له: أنت معك اسم الله الأعظم، ولن أتركك حتى تعلمنيه، فأخذ يحاول أن يتخلص منه فلم يستطع، فقال له: يا هذا إن راق قلبك فادعو بما شئت فذاك اسم الله الأعظم.
وهل اسم الله الأعظم اسم من الأسماء؟ لا، لكن إذا صفا القلب فادعو فإنك قد دعيت باسم الله الأعظم.
واحد آخر من جدة مكث معه سنة، يريد أن يتعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وبعد سنة قال له: أنا لي معك سنة وقد اشتقت لأولادي وأريد أن أذهب إليهم، فعلمني اسم الله الأعظم، فقال له: خذ هذه الهدية وأوصلها لفلان في الروضة وهي المنيل الآن، والهدية كانت عبارة عن صندوق مغلق، فأخذها ومشى، فلما وصل إلى الجسر بين الجيزة والمنيل سمع صوتاً في الصندوق، فقال في نفسه: أأحمل الصندوق ولا أعرف ماذا فيه؟! ففتح الصندوق فوجد فأرة، فقفزت في الماء، فرجع مسرعاً ولكنه مخزياً وخجلاً، فلما رآه الشيخ عرف وقال له: أتريد أن أئتمنك على اسم الله الأعظم، وأنت لا تُؤتمن على فأرة؟!!، فانظر إلى تربيته للرجال رضي الله عنه وأرضاه.
أقواله الحكيمة
له أقوال كثيرة جداً كالجبال، وكلها حِكمٌ إلهية إلهامية تهمنا كسالكين، واخترت بعضها.
رجل قال له: من السفلة من الخلق؟ قال: من لا يعرف الطريق إلى الله تعالى، ولا يتعرَّف عليه.
واحد آخر قال له: ما العلامة التي يعرف العارف أنه طُرد بها من حضرة الله؟ قال له: بانقطاعه عن ذكر الله.
إذا كان يذكر الله وتوقف فجأة فهذا دليل على أن الله طرده ولا يريده، لأن الله إذا أحب عبداً ألهمه ذكره.
وآخر قال له: ما العلامة التي نعرف بها أن هذا العبد الله مُعرض عنه؟ قال له: أن تراه ساهياً لاغياً مُعرضاً عن ذكر الله.
إذا وجدته سارحاً دائماً، وكل كلامه في اللغو واللهو، ومُعرضاً عن ذكر الله، ولا يجد انشراح صدر أبداً، فلا يذكر الله وحده، ولا مع جماعة، فهذه أمور غريبة نراها الآن، أحد الصالحين انقطع عن دخول المسجد إلا لصلاة الجمعة أربعين عاماً، فسألوه: لِمَ انقطعت عن دخول المسجد؟ قال: كلما أردتُ أن أدخل المسجد أشم نتن رائحة القلوب فأفر.
لأن الدنيا اسمها جيفةٌ قذرة، والذي يُحب الدنيا بداخله جيفة ولا يشعر بها، لكن الصالحين من علاماتهم الأصلية البدائية الشم، كيف يعرف أن هذا رجلٌ صالح؟ يشم له رائحة طيبة فيعرف أنه من الصالحين أو من المؤهلين، فإذا شم رائحة نتنة فيعرف أن هذا من المطرودين لا ينفع في هذا الطريق بالمرة.
وقال: من لم يفتش على الرغيفين من الحلال لم يُفلح في طريق الله.
لا تغتر بالمظاهر، انظر أولاً للإنسان كيف حاله في الحلال؟ فالواحد منهم كان يفتش في الحلال، حتى أن الحارث المحاسبي كان يحاسب نفسه، فأبوه كان تاجراً كبيراً، وورث منه ثمانين ألف ديناراً، فلم يُرد أن يأخذهم، فسألوه لماذا لم تأخذهم؟ قال: لأنه كان يقول بقول جماعة من المغرضين من أهل التأويل، والرسول قال:
{ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى }[9]
إلى أن وصل إلى أن أصبح في يده عرق ينفض إذا امتدت يده إلى لقمة غير حلال، وهذه علامة على أن هذا الأكل حرام.
ولذلك سيدي أبو العباس المرسي رضي الله عنه وأرضاه أحد الناس دعاه إلى طعام وأراد أن يمتحنه، وهذا يحدث مع الصالحين، فجاء له بدجاجة مخنوقة وسوَّاها وقدمها له، فوقف وقال: إذا كان الحارث المحاسبي عنده عرقٌ ينفض، فأنا كلي عروق تنفض، هذه الدجاجة تقول: إني مخنوقة!، وهذه أحوال الصالحين.
واحد منهم عزمه السلطان هو والدراويش، والدراويش مساكين، فقدم لهم لحم حلال وخلط معه لحم ميت، فقال لهم الشيخ: لا يأكل أحد منكم إلا من يدي، فاللحم الحلال يعطيه لهم، واللحم الميت يلقيه، لأنه لو تركهم سيأكلون كل شيء، لكن هذه أحوال الصالحين.
وقال نصيحة للمريدين ونحن نحتاجها كلنا أجمعين: من نظر في عيوب الناس، عمي عن عيب نفسه.
لا شأن لك يا أخي بعيوب الناس: ” قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ” (30النور) يعني عن العيوب، وهل يوجد أحدٌ منا خالي من العيوب؟ انظر إلى محاسن الغير، وليس لك شأنٌ إلا بعيوب نفسك.
سيدنا عيسى كان يمشي مع الحواريين، فقابلوا كلباً ميتاً، فقالوا: ما أنتن رائحة هذا الكلب، فقال لهم سيدنا عيسى؟ ما أجمل بياض أسنانه.
هم ينظرون إلى السوءات ليُظهروها، وهو ينظر إلى المحاسن ليُظهرها، كلذلك السالك في طريق الله.
فلان كذا وكذا، ما شأني بذلك؟! فهذه مبادئ أسسها الرجال، ومن يُريد أن يكون رجلاً من الرجال لا بد وأن يسير على منهج الرجال.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم |
إن التشبه بالرجال فلاح |