Sermon Details
سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:
الحمد لله رب العالمين الذي هدانا بفضله وبنوره إلى طريقه المستقيم ومنهجه القويم.
والصلاة والسلام على أفضل من خصَّه الله في الذكر الحكيم بالتكريم، سيدنا محمد وآله وصحبه والناهجين على نهجه إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم أجمعين آمين يا رب العالمين.
قد خصصنا في اللقاء الأخير الشهري يوم الخميس، ونحن ماشيين فيه في مسلسل في الآيات القرآنية التي تتحدث عن خير البرية صلى الله عليه وسلَّم.
وزدنا عليه يوم الأربعاء ـ لمن شاء ـ على أن نخص بذكرى رجلٍ من رجالات الله الصالحين، لقول الله تبارك وتعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاولِي الالْبَابِ ﴾ (111يوسف).
وبدأنا كذلك وخصصنا يوم الإثنين بث مباشر كذلك عن {عجائب عالم القلب} وجعلنا كل أسبوع للبث يوم الإثنين والخميس، وبعدين ثبتنا كل شهر الاربعاء والخميس إن شاء الله.
ربما يسأل سائل: لماذا نحكي عن الصالحين ولا نحكي عن الصحابة المجتهدين أجمعين؟ لأن ذكر الصالحين فيه إحياءٌ للعزائم، وشحذٌ للهمم، هم رجال ونحن رجال.
أما الصحابة فيكفيهم أن فيهم وبينهم شمس رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مشرقةٌ على قلوبهم على الدوام، وأين لنا بهذه؟!!، فإذا ذكرنا الصحابة يقول بعض أصحاب النفوس وذوي الهمم الضعيفة والعزائم الخائرة، أين نحن وأين الصحابة فقد كان الرسول معهم؟! فنلزمهم الحُجة ونذكر الصالحين الذين جاهدوا في الله حق جهاده، ووصلوا إلى الفتح الرباني الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، واتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم باطناً، وبعضهم اتصل به باطناً وظاهراً، رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
وسنبدأ بذكر الأعلام الذين لهم قدمٌ في جذب الخلق إلى الحق، والأخذ بأيديهم للوصول إلى مقاعد الصدق عند الله تبارك وتعالى، لأن هؤلاء همتهم أعلى.
كثيرين كانوا مجدين ومجتهدين في طاعة الله وعبادته بأنفسهم ولأنفسهم فقط، وليست هذه بغيتنا، لكن بغيتنا أن نشد غيرنا إلى الله، وأن نكون دعاة يدعون الخلق إلى الله، وندخل في قول الله: ” وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ” (33فصلت).
والحقيقة يكفيكم كتب الدكتور عبد الحليم محمود، وقد كتب حوالي 25 كتاباً عن الصالحين بأسلوب عصري وواضح وسهل ومحقق وعلمي بعيداً عن الخزعبلات والخرافات.
ومن يريد أن يطلع على الصالحين أجمعين ويعرف شيئاً عنهم فعليه بكتاب (الطبقات الكبرى) للإمام عبد الوهاب الشعراني رضي الله تبارك وتعالى عنه.
الرغبة في معرفة أحوال الصالحين
لو لمسنا وتحسسنا إلى أحوال الصالحين نجد أن بدايتهم كانت الغرام الشديد في سماع وقراءة أحوال الصالحين السابقين، لأنها هي التي تشد العزيمة وتقوي الهمة، حتى إمامنا الإمام أبو العزائم رضي الله عنه كان له مقدمة يتحدث فيها عن نفسه في كتاب (شراب الأرواح من فضل المنعم الفتاح) في طبعته الأولى التي طُبعت في حياته، وللأسف أنهم حذفوها في الطبعات التالية، فيقول: كنت مغرماً بأحوال الصالحين وعلى شوق دائم لسماع حكاياتهم والقراءة عنهم، حتى أني من كثرة قراءتي لكتاب (روض الرياحين في مناقب الصالحين) حفظته حفظاً تاماً، لماذا؟ لأنه كان متعلق بهؤلاء القوم ويريد أن يكون منهم ومعهم.
من هؤلاء الأئمة الأعلام السيد عبد القلادر الجيلاني رضي الله عنه وأرضاه، وكلمة (السيد) لقب يُطلق على آل بيت النبي وهم أولاد الحسن والحسين لقوله صلى الله عليه وسلَّم:
{ إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ جَعَلَ ذُريَّةَ كُلِّ نَبِيّ فِي صُلبِه، وإِنَّ الله تَعَالَى جَعَلَ ذُريَّتِي فِي صُلبِ عَليّ بنِ أَبِي طَالِب}[1]
وفي بعض الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ بَني آدمَ ينتمونَ إلى عصبةِ أبيهِمْ، إلا ولدَ فاطمةَ، فإنِّي أَنا أبوهُمْ))
فذرية النبي من السيدة فاطمة رضي الله عنها، وقال النبي صلى الله عليه وسلَّم عن الحسن والحسين:
{ الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدا شَبَابِ أهْلِ الجَنَّةِ }[2]
وقال عن الحسن:
{ إنَّ ابْني هذا سيِّدٌ، وسَيُصلِحُ اللهُ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ مِنَ المُسلِمينَ }[3]
وقد كان، فالنابغة من آل البيت، والزاهد العابد الصالح منهم نقول له السيد فلان، فكلمة (السيد) هي لقب وليس اسم، وحتى الذي اشتهر عند الناس يقولون مثلاً: السيد البدوي، هو اسمه أحمد البدوي، ولكن الناس اختصروا الإسم وقالوا: السيد البدوي، لأن آل البيت جميعاً يُطلق عليهم السيد فلان، والذين هم من ذرية فاطمة من الحسن والحسين رضي الله تبارك وتعالى عنهما.
وحكمة سيدنا رسول الله أن تكون ذريته من السيدة فاطمة، لأن سيدنا علي تزوج من أخريات غير فاطمة وله منهن أولاد، لكن اختص الميراث لأولاد فاطمة الذكور وهما الحسن والحسين، وقد كان لهم أخٌ آخر اسمه محسن ومات صغيراً.
السيد عبد القادر الجيلاني في عصر الدولة الأموية – وهذا أمر نلحظه في تاريخ الصالحين – حدث اضطهاد شديد من بعض الحكام لآل بيت النبي، فاضطروا إلى الهجرة من موطنهم الأصلي في المدينة ومكة، وبعضهم كان في بلاد العراق ذهب إليها مع الإمام علي واستوطنوا هناك إلى جهات شتى.
منهم من جاء إلى مصر كالسيدة زينب رضي الله عنها ومن كان معها، ومنهم من فرَّ بنفسه إلى بلاد المغرب الأقصى، ومنهم من فرَّ بنفسه إلى أقصى بلاد الشرق – أفغانستان وأوزبكستان الآن – بعيداً عن سلطة الدولة التي كانت تقهرهم وتحاول أن تتخلص منهم على الدوام.
مولده
قلت ذلك حتى لا يتفاجأ البعض عندما يعلم أن السيد عبد القادر سُمي جيلاني لأنه وُلد في جيلان، وجيلان بلدة في أفغانستان قريبة من حدود إيران الآن.
وُلد سنة أربعمائة وسبعين هجرية، وكان أبوه رجلاً زاهداً من الزهاد الصالحين، وأنجب عبد القادر وأخٌ له، وتوفي أبيه، فتربى يتيماً؛ ربته أمه هو وأخيه، وكانت من الصالحات.
وكان عبد القادر ككل الأتقياء والأولياء والكُمَّل من الصالحين عنده رغبة شديدة جداً جداً في طلب العلم، فبعد حفظه للقرآن أخذ يطلب العلم في بلدته، إلى أن جمع العلم من العلماء الموجودين في بلدته، وانتقل إلى البلاد المجاورة وما زالت شهيته مفتوحة إلى طلب العلم وهذه صفة الأولياء، فمن يملُّ من طلب العلم فليعلم أن هذا عيبٌ عنده ولا بد أن يتخلص منه إن أراد أن يلحق بالصالحين.
فلما وجد العلماء شهيته مفرطة في طلب العلم، قالوا له: اذهب إلى بغداد، وكانت عاصمة الخلافة العباسية في ذلك الوقت، وكانت حاضرة العالم أجمع، وأكبر مدينة في الحضارة في وقتها.
السفر إلى بغداد
فقرر أن يذهب إلى بغداد، لكنه كان كثير الأدب مع أمه فاستأذنها في السفر، فقالت: يا بني لا أطيق فراقك، ولكن ما دمت ترغب في طلب العلم فسافر على بركة الله، وأذنت له، وقالت: يا بني خذ نصيبك قبل السفر فإن أباك قد ترك لك وأخاك ثمانين ديناراً، خذ أربعين واترك لأخيك أربعين.
وكانوا لا يسافرون إلا في قافلة، فالذي يُريد أن يسافر يذهب إلى محطة السفر وينتظر متى ستتحرك القافلة للسفر ويتجهز، ويمشي معهم في فرقة للتأمين خوفاً من قُطَّاع الطريق الكثيرين.
وزيادة في الإحتياط وضعت له أمه هذا المال داخل ثوبه من الداخل وخاطته، حتى لا يعرف أحدٌ طريقه، وسافر، وكان عمره ثماني عشرة سنة، حتى تعلمون أن الرغبة عنده كانت منذ صغره.
بركة الصدق
وهم في الطريق خرج عليهم قُطَّاع الطريق وأخذوا كل ما في القافلة، وجاءوا إليه فقالوا له: ما معك؟ قال: أربعين ديناراً، فظن قطَّاع الطريق أن عقله به شيء، فأخذوه إلى زعيمهم وقالوا أن هذا الغلام يزعم أن معه أربعين ديناراً، فقال له: ما معك؟ قال: أربعين ديناراً قال: أين هي؟ قال: ها هي، قال ولِمَ لم تكذب؟ قال: إن أمي عندما ودعتني إلى السفر أخذت عليَّ العهد أن لا أكذب أبداً.
فمسَّت هذه الكلمات بإرادة الله قلب هذا الرجل، وقال لرفقائه: إذا كان هذا يخشى أن يكذب لأنه وعد أمه أن لا يكذب، فماذا نصنع نحن في وعد الله تبارك وتعالى الذي أخذه علينا؟! إني تائبٌ على يد هذا الغلام، وأنتم وشأنكم، قالوا: ونحن معك، فتابوا جميعاً، وردُّوا الأموال إلى القافلة ببركة صدقه رضي الله عنه.
من كريم أخلاق اللصوص
حتى اللصوص والسارقين كان عندهم في هذه الأوقات البعيدة أخلاقٌ كريمة ليتها تكون في عصرنا هذا، فمن القصص الطريفة في هذا الأمر أن مجموعة من من اللصوص دخلوا بيت رجل ثري ليسرقوه، وبعد أن دخلوا فوجئ الرجل وهو على باب حجرته وفيها زوجته باللصوص واقفون، فقالوا: استر زوجتك لأننا سنأخذ ما في البيت، قال: خذوا ما في البيت ولكن لا تقتلوني، قالوا: لن نقتلك، قال: إن كان ولا بد كم عددكم؟ قالوا: عشرة، فأخرج لكل واحد منهم ألف درهم، وقال: خذوا هذه واتركوني، قالوا: لا مانع.
وبينما هم يهموا بالخروج، وجد واحدٌ منهم صندوق شكله ثمين، فأخذه الفضول إلى أن يفتحه، فوجد فيه شيئاً يُؤكل ولا يعرف ما هو، فأكل منه، فإذا به ملح، قال: إنه ملح، فقال زعيمهم: أأكلت منه؟ قال: نعم، قال: إذاً لا نأخذ من هذا الرجل شيئاً ما دمنا قد أكلنا من بيته ولو ملحاً.
حاول الرجل أن يعطيهم جميعاً ثمانمائة درهم فرفضوا، أو أربعمائة فرفضوا، وقالوا: والله لا نأخذ شيئاً ما دام أكل واحدٌ منا في بيتك ملحاً، أين هذه الأخلاق؟! ولمن هذه الأخلاق؟ للصوص.
طلبه للعلم
ذهب سيدي عبد القادر إلى بغداد، وأخذ في طلب العلم، وأخذ يتجول على طبقات العلماء، درس علم الفقه أولاً وتوغَّل فيه، ولذلك له كتابٌ سماه (الغُنية لطالبي طريق الحق عز وجل) والكتاب موجود وفيه كل شيء عن الفقه من البداية إلى النهاية، ودرس الحديث، ودرس التفسير، ودرس النحو، ودرس الأدب، وتبحَّر في كل العلوم.
وفي أثناء ذلك كان لا يبيت في بغداد، فكان يأتي إلى بغداد لطلب العلم ثم يخرج إلى الصحراء للعمل بالعلم، ولتطبيق العلم عملياً في طاعة الله، والإقبال على الله، وإفراد الله تبارك وتعالى بالقصد.
وكان مُصراً كغيره من الصالحين الصادقين أن لا يأكل إلا من عمل يده، فلا يطلب من أحد، ولا يتكفف أحد، بل لا يمد يده إلا إلى الواحد الأحد تبارك وتعالى.
عناية الله بالصالحين
وحدث في هذه الآنات أن أصاب بغداد قحطٌ شديد، ويذكر هو عن نفسه ويقول: ففنيت الأقوات إلا القليل، وأنا مكثت ثلاثة أيام لا أُطعم شيئاً لأنه لا يوجد طعام، فمشيت لأبحث عن طعام فلم أجد، فدخلت إلى مسجد ورجليَّ قعدت بي من الإجهاد فلا أستطيع المشي ولا أستطيع الوقوف، وبعد جلوسي إذا بي برجل يدخل ومعه لحمٌ مشوي وخبز، فأخذ يأكل وكلما رفع لقمة أحرك فمي كأني سآكل هذه اللقمة، وإذا بالرجل يلتفت إليَّ ويطلب مني أن آكل معه فرفضت واعتذرت، فأصر على أن آكل معه، وأثناء الأكل قال لي: من أين أنت؟ قلت له: من جيلان، فقال لي: وأنا أيضاً من جيلان، وأنا هنا في بغداد من فترة أبحث عن عبد القادر الجيلاني ولم أجده، فقلت له: أنا عبد القادر الجيلاني، فقال: أمك قد أعطتني ثمانية دنانير أوصلها لك، وأنا نفدت كل الأموال التي معي، ومكثت ثلاثة أيام بدون طعام، فاضطررت للأخذ من مالك لأشتري هذا الطعام، فأصبحت أنت صاحب الضيافة وأنا ضيفك، لأن هذا مالك، وسامحني فيما جرى لك.
فكانت أمه تواصله، وكانت ترسل إليه الرسائل، وتضع في الرسائل خصلة من شعرها، ولا أعلم كيف كانت هذه المسلمات في أذواق عجيبة وغريبة وأحاسيس عجيبة؟! فكانت ترسل له مع الخطاب خُصلة من شعرها وتقول له: اشتقت لك، فيقول لها: إن شئت تركت العلم وأتيتك – لأنه بار بها – فتقول له: ما دمت ترغب في العلم فابقى في طلب العلم وآثرت طلب العلم على رؤية ابنها.
لقاء الشيخ المربي
في هذه الآنات كان ماشياً في يوم من الأيام فجاء على خاطره أن ما حدث ربما يكون للموبقات والآثام التي يقع فيها أهل بغداد، فعزم على الخروج من بغداد، وهو خارج من بغداد إذا بصاحب منزل يفتح الباب ويقول له: تعالى وادخل يا عبد القادر، في ماذا تفكر؟ قال له: الخروج من بغداد، قال له: إن لك أثر بالغ ستتركه في بغداد، فقال له: ومالي وما للناس؟ أنا أريد أن أفر بنفسي، فعنَّفه الرجل، وهذا الرجل هو شيخه الشيخ حماد الدباس رضي الله عنه.
فلما أصر على عدم الدخول قذفه بشدة وغلَّق الباب وراءه، يقول: بعد يومين انتابتني أحوال عليه، وخواطر كثيرة، وتمنيت من الله أن يدلني على رجل يبين لي هذه الخواطر، فمر ببيت الرجل مرة أخرى ففتح وقال له: ماذا كنت تتمنى بالأمس على الله؟ قال: كنت أتمنى كذا، فقال له: تعالى، قال: فأخبرني بكل أحوالي التي حدثت لي.
وصحبه وتتلمذ على يديه في علوم الولاية، وكان قد حصَّل علوم الشريعة، وعلوم اللغة، وعلوم الأدب، وغيرها.
جهاده لنفسه
وبعد أن حصَّل علوم الولاية حدثت له حالة الوله، وهي الجذب، وخرج إلى صحراء بغداد ومكث خمس وعشرون سنة في هذه الصحراء، وقال: كنت ألبس ثوباً من الصوف الخشن – يعني صوف الغنم الطبيعي وكان لا يلبسه إلا الفقراء – وأمشي حافياً، وأضع خرقة على رأسي، وآكل من حشائش الأرض، وأشرب من مياه الأنهار، وانشغل بذكر الله بالكلية، قيل أنه كان في الليلة الباردة شديدة البرودة ينزل منه العرق الشديد، ويطلب ممن حوله أن يروحوا عليه بمراوح كأنه في الصيف من شدة استغراقه في ذكر مولاه تبارك وتعالى، واستمر في هذا الذكر، وكان أحياناً يغيب عن وعيه، قال صلى الله عليه وسلَّم:
{ أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ }[4]
فلما كان يغيب عن وعيه ظنَّ من حوله أن به جنون فأدخلوه البارستان – وهو مكان المجانين – وهناك جاءه الموت ورأوه كأنه مات، فوضعوه على الدكة، وأحضروا الغُسل ليغسلوه ويكفنوه ويدفنوه، ثم أيقظه رب العزة تبارك وتعالى من هذا الحال.
كم سنة قضاها في هذا الحال في الجهاد؟ خمس وعشرون سنة يجاهد نفسه ويصفي قلبه إلى أن امتلأ من رأسه إلى أخمص قدميه بالعلوم الإلهية.
الإذن بالدعوة
وجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مرة قبل الظهر، وقال: يا عبد القادر تكلم لتنفع الناس بعلمك، قال: قلت يا سيدي أنا رجلٌ أعجمي – على أساس أن بلده من بلاد العجم، وهي بلاد الفرس وأفغانستان – ولا أجيد النطق بالعربية، فقال له: افتح فاك، ففتح فاه، فتفل فيه صلى الله عليه وسلَّم سبع مرات.
وذهب لصلاة الظهر بالمسجد، فإذا بالمسجد غاصٌّ بأهله، وصلاة الظهر نادر أن يكون فيها عدد كبير من المصلين، قال: والتف الناس حولي وقالوا: حدثنا بما فتح الله عليك، قال: فارتُجَّ عليَّ – عندما رأى هذا العدد المهول – وإذا بي أرى الإمام علي في اليقظة، وقال: يا عبد القادر حدِّث الناس لينتفعوا بعلمك، قال: فقلت: ياسيدي أنا رجلٌ أعجمي ولا أستطيع النطق باللغة العربية جيداً، قال: افتح فاك، فتفل فيه ست مرات، فقلت: يا سيدي لِمَ لم تكملهم سبعاً؟ قال: أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فبدأ يتحدث للناس، وأعطاه الله عز وجل القبول في قلوب الناس، فليس المهم العلم، ولكن المهم القبول، من الذي يُقبل بالقلوب؟ علام الغيوب.
لو معك علوم الأولين والآخرين ونزع الله القبول من قلوب الحاضرين، فهل أحدٌ يبقى ليسمع؟! لا، سيتركوك ويمشوا، ولو لم يكن معك شيء ووضع الله لك القبول في قلوبهم، سيجلسوا ولو كانوا صامتين وينظرون لك فقط، قال صلى الله عليه وسلم:
{ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ }[5]
وهذه فيها معنى لطيف فانتبهوا له: أهل السماء هم أهل القلوب العالية السائحة في عالم السماء على الدوام، يعني كبار الصالحين والأولياء، فهؤلاء يحبوه ويمدوه، ويوضع له القبول في أهل الأرض وهم الذين لا يزالون في الأرض ولم يصعدوا بعد، لا يزالون محجوبين بالنفس والهوى والشهوات والحظوظ، فيوضع القبول في قلوبهم حتى يقبلوا عليهم.
إعانة الله
وإذا أقامك أعانك، فجاءه رجل أستاذاً لهم في علم الحديث، وكان له مدرسة كبيرة يُعلِّم فيها تلاميذه الحديث، فطلب منه أن يقبل منه هذه المدرسة ليعلم المريدين فيها، فانظر إلى إعانة الله كيف تأتي؟ فلم يبع ولم يشتر، ولكن فضل الله واسع.
فجلس في هذه المدرسة، وانهالت عليه العطايا من كل جانب من المجاورين للمدرسة، كل فترة يتنازل أحد من الجيران عن دراه ليضمه للمدرسة فيوسعونها، ولذلك من أكبر مساجد العالم الإسلامي الآن مسجد السيد عبد القادر الجيلاني، ومن أكبر الأضرحة أيضاً ضريحه في بغداد.
متى كان هذا الكلام؟ عندما كان عمره حوالي ثمان وأربعين سنة، وهذا للناس المتعجلين، الذي يُريد أن يمكث معنا شهرين ثم يريد أن يملأ الكون علماً، أو يبقى معنا سنتين ويريد أن يكون ولياً وله كرامات.
لكن كما ترون هذا الرجل استمر في الجهاد خمس وعشرون سنة في الصحراء، وفي سنة خمسمائة وثمان عشر هجرية بدأ الدعوة إلى الله وكان عمره ثمان وأربعين سنة.
وكان لشدة تعلقه بمولاه لم يتزوج حتى هذا الوقت، فتزوج، وذهب إليه أحدهم وسأله: لِمَ تزوجت؟ فقال: أمرني النبي وقال لي: تزوج، لأن المربي للمريدين لا يجب أن يكون أعذباً، بل لا بد أن يكون رجلاً متزوجاً، فتزوج ولكنه لم ينشغل بذلك.
فكان من شدة فنائه في الله يقول: وُلد لي إثنى عشر ولداً، ما وُلد لي واحدٌ منهم إلا كبرت عليه أربع تكبيرات، يعني حتى لا ينشغل به عن الله: ” وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ” (28الأنفال) حتى لا يُفتن به عن الله تبارك وتعالى.
مدرسته العلمية في بغداد
اشتهر في بغداد كلها بالعلم، لأنها مدرسة شاملة كاملة كالجامعة، كان يُدرِّس ثلاثة عشر علماً، ففي الصباح يدرس في علم الفقه وعلم الحديث وعلم التفسير، وبعد الظهر يجود القرآن لمن أراد أن يجود، وهذا غير العلوم الإلهامية الوهبية للصفوة الذين يريدون القرب من رب البرية تبارك وتعالى.
وكحال العلماء في كل زمان ومكان، غار علماء بغداد من جمع الخلق عليه، لأنه كان يحضر مجلسه ما لا يقل عن عشرة آلاف نفس، وكان شديد الاهتمام بالوعظ، لذلك كان لا يخلو درس من دروسه من توبة عدد لا يُحصى من الحاضرين.
فجهَّز مائة عالم من بغداد أسئلة وذهبوا مجتمعين لامتحانه، فجلس على كرسيه في المدرسة التي يدرس منها، وإذا ببارقة تخرج من صدره تأخذ كل العلوم التي جهزوها في نفوسهم، ثم بعد ذلك أجابهم عنها جميعاً واحداً بعد واحد.
وكانوا إذا أتتهم مسألة فقهية يعجزون عنها، يرسلون إليه فيحلها إلهاماً من الله، ولذلك تجد المسائل الفقهية العويصة من الذي يحلها؟ الصالحون، فجاءوه ذات مرة وقالوا له: رجل حلف طلاقاً ثلاثاً أن يعبد الله عبادة بمفرده لا يشاركه فيها أحد، فما الحل؟.
والطلاق الثلاث واقع في المذاهب الأربعة لكن العلماء الأجلاء في منتصف القرن العشرين تقريباً عندما وجدوا هذا الأمر منتشر وأصبح كالوباء، قالوا: نبحث في المذاهب الأخرى، فذهبوا إلى ابن تيمية، وابن تيمية عنده من يحلف بالطلاق فهذا ليس بحلف، لأن الحديث:
{ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ }[6]
فما الذي يقع في الطلاق؟ إذا قال لها: أنتِ طالق، لكن اليمين لا، ولو قال لها: هذه الكلمة ثلاث مرات في جلسة واحدة، فتعتبر مرة واحدة، يعني المذهب الذي نمشي عليه حالياً مذهب ابن تيمية، وليست المذاهب الأربعة، لأن في المذاهب الأربعة إذا قال عليَّ الطلاق يقع على الفور، ولو قالها ثلاثاً فيكون ثلاثة على الفور.
فقال لهم: يذهب لمكة ويخلوا له المطاف ويطوف وحده، فبهذا يكون قد حل اليمين، أرأيتم كيف يكون الإلهام من الله؟! ففي أي كتاب موجودة؟ غير موجودة إلا في أم الكتاب، وهو أتى بها من أم الكتاب إلهاماً من الله تبارك وتعالى.
الطريقة القادرية
وأخذ رضي الله عنه يربي المريدين، والحقيقة أن الطريقة القادرية من أكثر الطرق انتشاراً في العالم الإسلامي كله، ولها مآثر كثيرة على دخول المسلمين الجدد في الإسلام على يد أبناء الطريقة القادرية، فلو تتبعنا التاريخ سنجد أن لهم دور كبير في نشر الإسلام في أفريقيا، لأن أبناء الطريقة القادرية في بلاد المغرب العربي هم كثير هناك، وكذلك في السودان.
وهم الذين يتحملون العناء، ففي وسط أفريقيا صحراء جرداء، فيمشون في هذه الصحراء ولا يهابون الوحوش التي هناك، ويذهبون لا يرجون إلا رضا الله، وهم الذين نشروا الإسلام في الدول الأفريقية المسلمة الآن، والدول الإسلامية الأفريقية غير العربية مثل السنغال ومالي ونيجيريا والنيجر وغيرها، كل هذه الدول إسلامية الآن، من الذي نشر فيها الإسلام؟ الطريقة القادرية، والطريقة التيجانية التي كانت موجودة في بلاد المغرب العربي، والطريقة الشاذلية.
لماذا؟ لأن الواحد منهم لا يذهب هناك ليرجع بكنز من المال، لكن يذهب لوجه الله، وليس عنده مانع أن يلتحف السماء ويفترش الأرض، يعني ينام على الأرض وبدون غطاء، والله يغطيه ويدفؤه، لأنه ذاهب لله سبحانه وتعالى.
كذلك في الجهاد الأسيوي هم الذي حملوا الإسلام إلى بلاد الهند وباكستان وماليزيا وأفغانستان، فالطريقة القادرية لها شأنٌ كبير في نشر الإسلام في هذه البقاع في البدايات وفي النهايات.
تربيته لمريديه
فكان سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه يؤدب مريديه ويهذبهم غاية التهذيب، وكان يربيهم بالحال والقال، يمدهم بالحال ويعلِّمهم بالقال، والأساس عنده الشريعة المطهرة، فلا يترك الشريعة طرفة عين ولا أقل.
وكثير من أتباعه الأولياء مذكورين في كتب طبقات الأولياء، من جملتهم رجل اسمه محمد البلخي يحكي عنه أبو محمد الحسن، قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: خدمت الشيخ الجليل العارف أبا عبد الله محمد بن أحمد البلخي رضي الله عنه ببغداد سنة، وسألته عن بدايته فكتمني إياها، فخدمته سنة ثانية، وسألته عن بدايته فكتمني إياها، فخدمته سنة ثالثة فسألته، فقال: ولا بد؟ فقلت: إن رأيت، قال: ولا تخبر أحداً بما أخبرك به وأنا حي، قلت: نعم، فلما وثق مني بالكتمان قال: هاجرت من بلخ إلى بغداد وأنا شاب لأرى الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، فوافيته يصلي العصر بمدرسته، وما كنت رأيته ولا رآني قبل ذلك، فلما سلَّم وأهرع الناس للسلام عليه تقدمت إليه وصافحته، فأمسك بيدي ونظر إليَّ مبتسماً وقال: مرحباً بك يا بلخي يا محمد، قد رأى الله مكانك وعلم نيتك، قال: فكان كلامه دواء الجريح، وشفاء العليل، فذرفت عيناي خشية، وارتعدت فرائصي هيبة، وتقطعت أحشائي شوقاً ومحبة، وأوحشت نفسي من الخلق، ووجدت في قلبي أمراً لا أحسن أن أعبر عنه، ثم لا زال ذلك ينمو ويتقوى وأنا أغالبه، وقمت إلى وردي في ليلة مظلمة فبرز لي من قلبي شخصان وبيد أحدهما كأس، وبيد الآخر خلعة، فقال لي صاحب الخلعة: أنا علي بن أبي طالب، وهذا أحد الملائكة المقربين، وهذا كأس من شراب المحبة، وهذه خلعة من حلل الرضا، ثم ألبسني تلك الخلعة، وناولني صاحبه الكأس، فأضاء بنوره المشرق والمغرب، فلما شربته كُشف لي عن أسرار الغيوب، ومقامات أولياء الله تعالى، وغير ذلك من العجائب، فكان مما رأيت مقاماً تزل أقدام العقول في سره، وتضل أفهام الأفكار في جلاله، وتخضع رقاب الألباب لهيبته، وتذهل أسرار السرائر في بهائه، وتدهش أبصار البصائر لأشعة أنواره، ولا تسامته طائفة من الملائكة الكروبيين والروحانيين والمقربين إلا حنت ظهورها على هيئة الراكع تعظيماً لقدر ذلك المقام، وسبَّحت لله عز وجل بأنواع التقديس والتنزيه، وسلَّمت على أهل ذلك المقام، ويقول القائل: إنه ليس فوقه إلا عرش الرحمن، ويتحقق الناظر إليه أن كل مقام لواصل، أو حال لمجذوب، أو سر لمحبوب، أو علم لعارف، أو تصريف لولي، أو تمكين لمقرب، فمبدؤه ومآله وجملته وتفصيله وكله وبعضه وأوله وآخره فيه استقر، ومنه نشأ، وعنه صدر، وبه كمل، فمكثت مدة لا أستطيع النظر إليه، ثم طوقت النظر إليه، ومكثت مدة لا أستطيع أن أسامته، ثم طوقت مسامتته، ومكثت مدة لا أستطيع أعلم من فيه، فإذا فيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه آدم وإبراهيم وجبريل، وعن شماله نوح وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبين يديه أكابر أصحابه، والأولياء قياماً على هيئة الخدمة كأن على رؤوسهم الطير من هيبته صلى الله عليه وسلم، وكان ممن عُرِّفت به من الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة والعباس رضي الله عنهم، وكان ممن عُرِّفت به من الأولياء معروف الكرخي وسري السقطي والجنيد وسهل التستري وتاج العارفين أبا الوفاء والشيخ عبد القادر والشيخ أبا سعد والشيخ أحمد الرفاعي والشيخ عدي رضي الله عنهم، وكان أقرب الصحابة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان من أقرب الأولياء إليه الشيخ عبد القادر، فسمعت قائلاً يقول: إذا اشتاقت الملائكة المقربون والأنبياء والمرسلون والأولياء المحبون إلى رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ينزل من مقامه الأعلى عند ربه تعالى إلى هذا المقام، فتضاعف أنوارهم برؤيته، وتزكو أحوالهم بمشاهدته، وتعلو مكانتهم ومقاماتهم ببركته، ثم يعود إلى الرفيق الأعلى، فسمعت الكل يقولون: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، ثم بدت لي بارقة من نور القدس الأعظم فغيبتني عن كل مشهود، واختطفتني من كل موجود، وأسقطت مني التمييز بين كل مختلفين، وأقمت على هذا الحال ثلاث سنين، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا في مسامرة، والشيخ عبد القادر رضي الله عنه قابض على صدري وإحدى رجليه عندي والأخرى ببغداد، وقد عاد إليَّ تمييزي، وملكت أمري، فقال لي الشيخ: يا بلخي قد أُمرت أن أردك إلى وجودك، وأملكك حالك، وأسلب منك ما قهرك، ثم أخبرني بجميع مشاهداتي وأحوالي من أول أمري إلى ذلك الوقت اخباراً يدل على اطلاعه عليَّ في كل نَفَس، وقال لي: لقد سألت فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مرات حتى طوقت النظر إلى ذلك المقام، وسبع مرات حتى طوقت مسامتته، وسبع مرات حتى اطلعت على ما فيه، وسبع مرات حتى سمعت المنادي، ولقد سألت الله فيك سبع مرات، وسبع مرات، وسبع مرات، حتى ألاح لك تلك البارقة، وكنت من قبل سألته فيك سبعين مرة حتى سقاك كأساً من محبته، وألبسك خلعة رضوانه، يا بني اقض جميع ما فاتك من الفرائض)).
لأنه كان في حالة جذب تام لا يدري بأي شيء حوله، وكانت هذه طريقته الحال والقال.
ولذلك واحدة من النساء الصالحات، أخذت ابنها وذهبت له، وقالت له: ياسيدي إن ولدي هذا متعلقٌ بك، وأنا متنازلةٌ لك عن حقي فيه، فخذه وربيه، فأخذه وبعد فترة من الزمن ذهبت لترى ابنها، فوجدته في الخلوة وأصبح كعظام على جلد – لأنه لا بد أن يُذيب الشحم واللحم حتى ينبت النور في القلب – وأمامه قليل من الدقة يأكلها ببقايا خبز جاف، فذهبت للشيخ فوجدت الشيخ وأمامه دجاجة قد أكلها وبقيت العظام، فعاتبته وقالت له: يا سيدنا أتأكل دجاجة وابني يأكل هذه الدقة والخبز القديم؟! فوضع الشيخ يده على العظام وقال: قومي بإذن الله، فقامت الدجاجة بعد أن أحياها الله تمشي وتصيح بإذن الله، فقال: يا بنية إذا وصل ابنك إلى هذا المقام، يأكل من هذا الطعام.
وصاياه لتلاميذه
أولاً: البعد عن مجالسة الخلق:
كانت أول وصية لتلاميذه البعد عن مجالسة الخلق، ولذلك آفة معظم السالكين معنا ومع غيرنا الخوض فيما لا يعنيه، لكن أول أساس الطريق قوله صلى الله عليه وسلَّم:
{ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ }[7]
وقد قال سلفنا الصالح أن هذا الحديث ربع الدين، فالمسلم لا يتكلم إلا إذا كان للكلام موضعاً أو ضرورة.
يعني جاء يحضر معنا ومعه اثنين أو ثلاثة، فما الذي يجعله لا يشتغل بذكر الله، أو بالصلاة على رسول الله؟! لكنه يتحدث مع هذا، ثم يتركه ويجلس مع آخر، ثم يتركه ويجلس مع آخر، فهذا بالله عليكم متى يُفتح عليه؟! لكن الذي يُريد الفتح يهرب من الخلق، لأن الخلق كلهم فتنة، يقول إمامنا أبو العزائم رضي الله عنه:
والخلق فتنة من أردتُ صدوده | وشهود أهل البعد في الأدوار |
فماذا يفعل الأئمة؟ قال:
وإذا دعاهم أن يدلوا غيرهم | قاموا بحولٍ منه لا بفخار |
حتى يبلغوا الدعوة مستعينين بالله لا افتخار ولا سمعه:
يدعون والرهبوت ملء قلوبهم | بالهَدْي هَدْي المصطفى المختار |
وهذه كانت أول وصية للشيخ عبد القادر لتلاميذه، أن الإنسان يهرب من مجالسة الخلق الغافلين، ولكن إذا جلس ليتعلم، فعلى بركة الله، أو سيجلس ليتناقش في مسألة دينية أو علمية لا بأس، لكن الخلق الغافلين لا يجالسهم وهم الذين قال فيهم حضرة النبي:
{ إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ }[8]
فلان قال وفلان عاد، فلانة خُطبت وحدث لها كذا، وبعدها جاءها فلان وحدث لها كذا، فأنا ما شأني وهذه الروايات؟! أنا أجمع روايات من هنا ومن هنا ومن هنا، وهل أنا فارغ؟! إذا كان الواحد منا سيأتي يوم القيامة إذا دخل الجنة – ونسأل الله أن نكون من أهلها أجمعين – سيندم على اللحظة التي مرت به دون ذكر الله، قال صلى الله عليه وسلم:
{ لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى شَيْءٍ إِلا سَاعَةً مَرَّتْ بِهِمْ، لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا }[9]
لماذا كنت أضيع وقتي في كذا وفي كذا؟! فالمؤمن بين أمرين إما في عمل لمعاشه لنفسه وأولاده، وإما في عمل مع مولاه، وليس عنده وقت آخر، هل عنده وقت للكوتشينة وللدومينو وهذه الأمور على المقاهي؟! هذا لا ينفع للمؤمن، وهل عنده وقت يتكلم مع غيره عن فلان وعلان والثاني والثالث؟ لا وقت لهذا الكلام، لأن كلام أي مؤمن يكون نزراً دائماً.
فكان الشيخ رضي الله عنه وأرضاه في بدايته ليطبق هذه القاعدة يخرج من بغداد إلى الصحراء لأنها ليس فيها أحد من الخلق، ويهيم بذكر مولاه، ومكث في هذا الحال خمسة وعشرون سنة، حتى أتاه حضرة النبي وقال له: تحدث على الناس يا عبد القادر.
ثانياً: إطعام الطعام:
كان يُعلِّم تلاميذه فيقول: ((ما وجدتُ طريقاً إلى الله أفضل من إطعام الطعام)) أي ليس هناك عملاً أفضل من إطعام الطعام، والحبيب قال ذلك:
{ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ }[10]
والتي يقول فيها الله:” غُرَف مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الانْهَارُ ” (20الزمر) وغرفٌ من فوقها غرف يعني أنها برج، وتحت كل دور من أدواره أنهار، وهذه لا يستطيع البشر الوصول إليها، فهذه الغرف لمن أطعم الطعام.
فكان يأمرهم بإطعام الطعام، ولذلك يقول الإمام الشعراني رضي الله عنه: ((أقبح القبيح صوفي شحيح)) والصوفي الشحيح في العادة يكون عقله يغلب عليه، فيُهيئ له أن يقول: أحضر مع هؤلاء الجماعة وأضحك عليهم، وآكل معهم وأشرب معهم ولا أعمل لهم أي شيء أبداً!، لكنك تضحك على نفسك: ” وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلانْفُسِكُمْ ” (272البقرة) أنت تقدم لنفسك ولا تقدم لهم.
الشيخ المرشد
وكان رضي الله عنه وأرضاه قد أُمر من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بعد أن أمضى هذه السياحة الطويلة أن يُرشد الخلق إلى الله، فكان يجلس طوال يومه يعلم الخلق، يُدرِّس صباحاً الفقه والتفسير وغيرها من العلوم، وبعد الظهر يُجوِّد للناس القرآن الكريم، وفي الليل في خلوته.
فانظر إلى هذا الجهاد، يقول خادمه: خدمت سيدي عبد القادر الجيلاني أربعين سنة، فما وجدته خرج بعد العشاء أبداً من خلوته، ولا يُدخل أحداً معه.
لماذا؟ لأنه ورد أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كان بعد العشاء يدخل إلى منزله، ولا يخرج لأحد، فهذا الوقت لله، ومشى على أثره الصحابة الأجلاء، سيدنا عمر مثلاً أشفقوا عليه وهو خليفة، فقالوا له: لِمَ لا تريح نفسك؟ فقال: ((جعلتُ النهار لرعيتي والليل لربي، فإن نمتُ نهاراً ضيعت رعيتي، وإن نمت ليلاً ضيعت نفسي)).
فكانوا يجعلون الليل لله، وليس لمواقع التواصل على الانترنت وخاصة الشباب هداهم الله، وهذه المواقع لا تحلوا لهم إلا بالليل، سبحان الله!.
فيقول الخادم: دخلتُ معه ذات مرة، فوجدته يقسم الليل ثلاثة أقسام، الثُلث الأول يصلي قليلاً ثم يجلس يذكر الله، وفي الثُلث الثاني يقوم للصلاة، ويقرأ كتاب الله في الصلاة ويطيل السجود، وفي الثُلث الثالث يكون قد وصل لمرحلة المشاهدات، فيجلس ويشاهد ويراقب ما يلوح له من الغيوب، وما يظهر له من الأنوار من عند حضرة الله تبارك وتعالى، فإذا اقترب الفجر انصرف إلى الاستغفار والدعاء.
كم سنة على هذه الحالة؟ أربعين سنة وهو لا يزال أيضاً يُدرِّس لطلابه ويربي مريديه.
تواضعه للفقراء
وكان رضي الله تبارك وتعالى عنه – لأنه لا يرى نفسه لأنه فني في الله بالكلية – لا يقف إلا للفقراء والمساكين الذين يأتونه، وإذا سمع أن السلطان أو أحد الوزراء أو أحد الأمراء سيأتيه، يدخل داخل البيت، ثم يخرج ويسلم عليه حتى لا يقوم له ويقف له، أرأيتكم الحكمة العلية، لأن الصالحين دائماً حكماء، لأنه لو كان جالساً ولم يقف له، فجائز أن يحدث شيء في نفس الزائر، لكن يدخل البيت فينادونه من داخل البيت، ويخرج ويسلم عليه.
لكن من الذين يقف لهم؟ الفقراء والمساكين، لماذا؟ أُسوة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقد كان صلى الله عليه وسلَّم كما قال له ربه: ” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ” (28الكهف) فكان صلى الله عليه وسلَّم إذا جالس الفقراء لا يقوم إلا إذا أذنوا له، إذا لم يأذنوا يظل جالساً معهم، وإذا سلَّم عليه أحدهم بيده لا يسحب يده حتى يكون الآخر هو الذي يسحب يده، وكانت تأتيه المرأة الفقيرة وهو في الطريق يمشي وتقول:
{ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ فُلَانٍ، اجْلِسِي فِي أَيِّ نَوَاحِي السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَجْلِسَ إِلَيْكِ، قَالَ: فَجَلَسَتْ، فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهَا حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا }[11]
هل كان له مدير مكتب، أو سكرتير خاص؟ لا، بل يقول لها: اجلسي في أي ناحية من نواحي الطريق أجلس إليك، فانظروا للأدب النبوي في الطريق العام، ويجلس معها حتى يقضي لها حاجتها.
فكان الصالحون الأكابر يمشون على هذا المنهج، وكانوا أرفق الناس بالفقراء والمساكين، وخاصة إذا كانوا صالحين أو محبين للصالحين، لكنني لن أفعل ذلك لفقير يتعاطى المسكرات مثلاً ويدَّعي أنه من المسلمين، لننتبه للفارق بين الأمرين، أو فقير ويرى نفسه كبير ولا يشعر أنه فقير، كما ورد في بعض الأثر: ((قال الله تعالى: أكره ثلاثًا، وكرهي لثلاث أشد: أكره العصاة وكرهي للشيخ العاصي أشدُّ، وأكره المتكبِّرين وكُرهي للفقير المتكبِّر أشدُّ، وأكره البخلاء وكُرهي للغني البخيل أشدُّ)).
آفة الكِبر
مرض الكِبر انتشر كثيراً في هذا العصر، حتى أن الناس يحرمون أنفسهم من الانتفاع بما لا بد لهم منه من العلم النافع والأنوار الساطعة نتيجة الكِبر، يقول: كيف أذهب للشيخ فلان لأسمعه؟ أو كيف أذهب للشيخ فلان لأجلس معه؟ فهل أنت الذي ينتفع أم هو؟ أنت، لذلك انظر نظرة بعقل سديد وفكر رشيد، فما دامت المنفعة ستعود عليك أنت، فالإنسان عبدٌ لمنفعته، ويبحث عن المنفعة حتى يجدها.
وسيدنا موسى كان كليم الله ورسوله، فهل تكبَّر أن يذهب للرجل الفقير؟ لا، لماذا؟ لأنه يريد أن ينتفع، ومشى وقال: سأمشي ولو وصل السير إلى ثمانين سنة حتى أذهب لهذا الرجل لأنتفع منه.
وعندما وصل له في النهاية وجده نائماً على كوم من التراب، ليس عنده ساحة ولا مضيفة ولا غيره، فهو فقير ولكن قال فيه العلي الكبير: ” آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ” (65الكهف) فهل تركه وذهب؟ لا، بل طلب العلم من هذا الرجل.
فكان على هذه الشاكلة سيدي عبد القادر الجيلاني، كما كان على هذه الشاكلة كل الصالحين الأكابر أجمعين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
وكان رضي الله تبارك وتعالى عنه كل همه وقصده والذي يُمرن المريدين عليه، أن تكون الغاية والقصد وجه الله سبحانه وتعالى.
وكان مع كل ذلك لا يأكل إلا من عمل يده، فلا ينتظر عطاءات من هنا، ولا زيارات من هنا، لأن الله أغناه به عن جميع من سواه، وجعل له البركة في كل شيء يَمسُّه تكريماً وتفضيلاً له من عند مولاه تبارك وتعالى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بالصالحين، وأن يخلِّقنا بأخلاقهم، وينفعنا بعلومهم، ويرزقنا حُسن متابعتهم، وحُسن الأدب بين أيديهم.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
[1] معجم الطبراني والسيوطي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه
[2] جامع الترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
[3] صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه
[4] مسند أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه
[5] البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
[6] صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما
[7] جامع الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه
[8] البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
[9] معجم الطبراني والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه
[10] صحيح ابن خزيمة ومسند أحمد عن أبي مالك الأشعري
[11] سنن أبي داود ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه
المقطم – مجمع الفائزين الخيري 25 من جمادى الأولى 1443 هـ 29/12/2021م 1