Sermon Details

الشوق
سؤال: ما معنى الشوق؟
——————–
الشوق هو الحب الزائد الذي ينمو ويتزايد رغبةً في حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم، أو في التملِّي أو التمتع بالمشاهد العالية من كمالات الله جلَّ في علاه. وهذا الشوق ينمو فيصير عشقاً، ثم يتحول إلى هيام، ثم يتحول إلى اصطلام، ثم يتحول إلى فناءٌ بالكلية في المحبوب، فلا يبق للمُحب هُويِّة ولا أنيَّة مع المحبوب، وهو الذي قيل فيه: ((لا يصِّح الحبُّ بين اثنين حتى يقول أحدهما للآخر: يا أنا)).
وهي الدرجات التي يرتقي الناس فيها، وهي مذاقات وليست كلمات، فلا نريد أن نشغل أنفسنا بالكلمات كبعض من ينتسب للصوفية، والذين يشغلون أنفسهم والناس بكلمات عالية من كلام السادة الصوفية ويردِّدُونها بينهم، فمن يسمعهم يقول: هؤلاء أهل أحوال عالية، وأهل مقامات راقية، وهم ليسوا على شيء، يحملون البضاعة فقط على رؤسهم ولا يحملونها في قلوبهم. والشوق لا ينمو إلا بمجالسة أهل الشوق، وهناك شوقٌ ظاهر وهو للمظاهر، لكن شوق أهل الحقيقة باطن لعَالَم الغيب الذي تجلَّى الله عزَّ وجلَّ فيه في باطن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
فهناك فرقٌ كبير بين من يشتاق لزيارة المقام في الروضة، وبين من يشتاق للذات المحمدية، وهناك فرق بين من يشتاق للكعبة كمبنى، ومن هو ناظرٌ نظرةً أعلى ويشتاق إلى كعبة الأرواح، والإمام أبو العزئم رضِي الله عنه وأرضاه عندما كان واقفاً عند الكعبة خاطبها وخاطب الله وقال:
حبي لمبناكَ هيمني وأرَّقني |
فكيف إذا ما أشرق المعنى |
فكيف بمن أشرق عليه عالم المعنى؟ ماذا يفعل؟! ولذلك أعجب عندما أرى المساكين الذين يذهبون إلى هناك، منهم من ينخرط في البكاء وغير ذلك، فما بالك لو رأيت ذرَّة من عالم الحقيقة ماذا تفعل؟!. إذا كنت عند الجدران وتبكي، فما بالك لو رأيت القلب العامر بالله؟! فهذا البيت الذي بناه إبراهيم، وآثار الخليل فيه، فما بالك بالبيت الذي بناه الجليل، وهو قلب الحبيب الأعظم؟! هل هذا كذاك؟!. هل يستوي البيت الذي بناه الخليل مع البيت الذي بناه الجليل؟! فهذا به آثار، ولكن الآخر فيه أسرار!!، وفرقٌ شاسعٌ بين الآثار والأسرار، لذلك لابد للإنسان أن يكون في البدايات مع أهل العنايات.
والشوق مزعج، يزعج كل الأعضاء الظاهرة والباطنة لبلوغ المراد، ومثلاً في الدنيا: إذا اشتاق الإنسان لواحدة يحبُّها، فعند نومه يطوف به خيالها فيمنعه من المنام، وعند أكله يرى خيالها فلا يتلذذ بالطعام، يريد أن يتكلم فيتذكر نغمات كلامها فلا يتهنَّى لسماع أي كلام.
وهذه الحالة أيضاً يراها المحبُّون، والذين هم ذوي شوقٍ وهيام، فلو ذهب أو أتاه رجل آخر ويريد أن يُسمعه حتى ولو كان علماً من القدس الأعلى، يجد أن عنده انصرافاً وصدوداً عن كلامه ولا يريد أن يسمع، لأن أذنه الواعية جُبلت على السماع من شيخه.
فالشوق يجعل كل حقائق الإنسان الظاهرة والباطنة تتَّجه إلى حبيب ذي هيامٍ وغرامٍ، وتريد أن تتقرب منه، وتريد أن تعيش معه، وتريد أن تحظى بلقياه، وتريد أن تحقق المنى معه.
ونحن نعجب من الشوق مع الغَيْبَة، الغائب يشتاق حقاً، لكن الإمام أبو العزئم سأل سؤالاً فقال: هل يشتاق حاضر؟!!، فلم يجبه أحد، فقال: هناك مقام المعية، وهناك مقام العندية، وهناك مقام اللدنية، فكلما دخل إلى مقام يشتاق للمقام الأعلى في هذا المقام، الحضور معية – في مقام المعية – فيكون الشوق لمقام العندية: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) (128النحل) غير: (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ) (206الأعراف) هل هؤلاء كهؤلاء؟! وهؤلاء غير: (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) (65الكهف)، ولذلك المقام الأعظم للحبيب صلى الله عليه وسلَّم: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) وهذا مقام اللدنية، لا جبريل ولا غيره، مقام اللدنية مباشرة: (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (6النمل). هذه المقامات تحتاج إلى سير وسلوك وأذواقٌ ومشاهدات، وليست علماً ولكنه ذوق:
العلم حدٌ وفوق العلم أنوارٌ |
والنور غيبٌ وفوق الغيب أسرارٌ |
والسر يجذبني لشهود حضرته |
وهو الوليُ تعالى وهو ستَّارُ |
فيرتقي الإنسان في هذه المقامات، فأول شيء يُحصِّل العلم، وبعده يعمل بالعلم، حتى يرى نور العلم، فلو وقف عند الأنوار يُحجب عن الأسرار، فلا يقف عند الأنوار ليرى الأسرار، ولو وقف عند الأسرار يُحجب عن وجه النبي المختار صلى الله عليه وسلَّم الذي هو مصدر هذه الأسرار .. وهكذا، ولذلك كان صلى الله عليه وسلَّم يستغفر الله فيقول: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)[1]، وقال في الرواية الأخرى: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)[2].
فالذين على قدرهم قالوا: إن رسول الله مثلنا يأتيه أشياء على قلبه، فسيدي أبو الحسن الشاذلي رضِي الله عنه وأرضاه قال: تحيَّرت في هذا الحديث، فجاءني سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في المنام وقال لي: ((غين الأنوار لا غين الأغيار يا مبارك)). هناك فرقٌ بين غين الأغيار للناس العاديين، والأغيار يعني الدنيا وما فيها من الشهوات والأهواء والأولاد والنساء وما شابه ذلك، وبين غير الأنوار، والأنوار لا منتهى لها، ولا حدَّ في إدراكها، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل نفسٍ يرتقي، فكلما ارتقى في مقام يرى المقام الذي قبله كان بالنسبة له غيناً فيتوب إلى الله عزَّ وجلَّ منه ويستغفره.
ولذلك قال: زدني (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (114طه)، والعلم في هذا المقام شهود، وليس علم كعلمنا: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ) (18آل عمران). والعلم هنا شهادة، أى شهود، فكان صلى الله عليه وسلَّم يشهد على الدوام وجه ربِّه عزَّ وجلَّ في تجلياته التي لا تتناهى ولا تُعدُّ ولا تُحد، فإن الله عزَّ وجلَّ يتجلى في كل الأنفاس بتجليات لا حدَّ لها، ولا يدرك ذلك إلا من أعطاهم الله عزَّ وجلَّ هذا المقام العَليّ، وكانوا على صلة مباشرة روحانية بحضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
*********************
[1] البخاري ومسند أحمد عن أبي هريرة رضِي الله عنه
[2] صحيح مسلم ومسند أحمد عن الأغر المزني رضِي الله عنه
……………………………………………………………………..