Sermon Details

بسم الله الرحمن الرحيم
نحن والحمد لله نعلم علم اليقين أنه لا يدور في الكون شيءٌ إلا بمراد الله، وكل المطلوب أن الإنسان يوصِّل للقلوب مراد علاَّم الغيوب، وهذا ليس شرطه نماذج بجدران ولا زمان، حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم والسادة الصالحون السابقون واللاحقون كانوا هم من يذهب حتى للعصاة والمذنبين في أماكنهم.
حضرة النبي لما بُلِّغ من الله بإبلاغ الرسالة أين ذهب؟ ذهب إلى النادي الذي يجتمع فيه أهل مكة حول الكعبة، وبعد ذلك يريد أن يُبلِّغ العرب كلهم، فذهب إلى السوق – سوق عكاظ – ودار على الناس في السوق ليدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ. فمن منا الآن يذهب إلى السوق ليُبلِّغ دعوة الله عزَّ وجلَّ؟!!.
أصحاب حضرة النبي كانوا يصنعون ذلك، وكذلك الصالحون كانوا يفعلون ذلك، فسيدنا عمر كان يذهب إلى السوق، وكان يذهب ليمتحن التجار في معرفة أحكام الحلال والحرام في البيع والشراء، ويقول لهم: ((من لم يتفقَّه في ديننا أكل الربا وهو لا يدري)). حتى يُبصِّرهم بالدين، وليكونوا مع التجار الصادقين الذي يقول فيهم سيدنا رسول الله: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصدقين والشهداء والصالحين يوم القيامة)[1].
وكان الصاحون لهم أساليب عجيبة وغريبة في هذا المجال، وأذكر واحداً منهم فقط، وكان من إخواننا نحن ومن تلاميذ الإمام أبي العزائم رضي الله عنه، وكان اسمه الشيخ عبد السلام الغريب، وكان له حالٌ عجيب.
ذهبوا لمولد الفرغل، والمولد ملآن لنهايته، والفرغل في هذا الزمان كان ينافس مولد سيدي أحمد البدوي وبه آلاف مؤلفة من الناس، والناس في المولد أغلبهم منصرف، فمنهم من هو مشغول بالأكل، ومنهم من هو مشغول بالشرب، ومنهم من هو مشغول باللهو، وهو يريد أن يُسمعهم كلمة خير، فماذا يفعل؟!!، أمسك بظرف خطاب ومشي ينادي في السوق: ((معي خطاب من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، من يريد أن يعرف ما في هذا الخطاب يتبعني .. معي خطاب من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ومن يريد أن يعرف ما في هذا الخطاب يتبعني)). وظل هكذا حتى وصل إلى المسجد، ولما وصل إلى المسجد لم يكن هناك موضع لقدم، لأن الناس يريدون أن يعرفوا ماذا في هذا الخطاب، وكانوا – ولأنهم صادقين مع الله – فكان ربنا يلهمهم بالطريقة السديدة التي تجمع الخلق على الله!!، فمهَّد وتكلَّم، وبعد ذلك قال لهم في النهاية:
أن كل حديث من أحاديث سيدنا رسول الله فهو خطاب لكم، وبدأ بحديث لرسول الله يفسِّره بما يلائم الحال، والقال الذي يلائم هؤلاء الرجال، ليُحقق المنفعة التي ذهب من أجلها لهذا المكان. ولماذا ذهب إلى هناك؟، ذهب لينفع المؤمنين، فكان بُغية الدعاة والصالحين المنفعة، والمنفعة لا تحتاج إلى مكان ولا تحتاج إلى زمان، ولكن تحتاج إلى رجال يؤهلهم الله لسماع العلوم التي تنزل على العبد من حضرة الله، فيكون الكلام نازلاً من فضل الله إلى صدور رجال الله، وما أنا وغيري إلا آلة تُردد ما يلهمنا به الله جلَّ في علاه.
مرةً ثانية ذهب إلى بورسعيد – قال له الشيخ: تذهب لأحباب بورسعيد لأنهم يريدون واحداً يُحيي لهم شهر رمضان، فذهب وسألهم ما خطتكم؟ فوجدهم عاملين جدولاً لتسع وعشرين مسجداً لتسعة وعشرين ليلة، وكل ليلة في مسجد، فقال لهم: وماذا أصنع بالمساجد؟ مَنْ بالمساجد فهم مهتدون، أنا أريد جماعة يتفضَّل الله عليهم بالهداية بسببي ـ وبورسعيد تشتهر بالمقاهي الكبيرة. فقالوا له: وماذا تريد؟، قال: اعملوا لي كشفاً بتسعة وعشرين مقهى، وأريد واحداً فقط يرافقني كل يوم.
بعد أن صلوا العشاء والتراويح يذهب إلى المقهى ومعه رفيق، والمقاهي هناك تسهر حتى الصباح، يجلس هو ورفيقه على المضدة ويتكلم ولكن بصوت عالي قليلا، وبجواره من يلعب كوتشينة، ومن يلعب طاولة، ومن يلعب دومنو، ومن يتسامروا مع بعضهم، وبعد قليل ينضم لهما من يجاورهما ويسمع له، وبعدها من الجهة الأخرى ينضموا ليسمعوه، وبعدها من بالمقهى كلهم يجتمعون عليه ليسمعوه، فيصعد على المنضدة ويجعلها كالمنبر ويظل يتحدث حتى موعد السحور، ويأخذ من بالمقاهي ويرسلهم إلى المساجد. لأن من بالمساجد لا يحتاج إلى من يوجهه إليها، لكن يريد أن يأخذ هؤلاء إلى المساجد.
هذا يا إخواني مثلاً من أمثال إخواننا الدعاة الصالحين، نسأل الله عز وجل أن يُلحقنا بهم أجمعين.
لكن الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ تحتاج كل ما في الموضوع إلى الصدق والإخلاص، أن الإنسان يكون ناوياً بإخلاصٍ أداء رسالة الله عزَّ وجلَّ، ويطلب من الله عزَّ وجلَّ العون، فيجمع الله عليه الصادقين والصالحين، ويجعل لكلامه وقعاً في قلوبهم، فكلنا يتكلم وما أكثر المتحدثين في هذا الزمان، لكن سيدنا أبو ذرٍّ رضي الله عنه سأله ابنه وقال له: يا أبتِ، لِمَ أجد لكلامك وقعاً في آذان الحاضرين غير كلام غيرك؟، فقال: ((ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة)). هل من مات ولدها وتنوح عليه كالتي أستأجروها لتنوح على واحد مات لهم؟!!.
الأمة والحمد لله في هذا الزمان مليئة بالمتحدثين علماء وأجلاَّء، وكلهم يريد أن يأتي بالحديث بسنده، والروايات المختلفة له، لكنهم غير قادرين أن يحصَّلوا ما كان يفعله الصالحون مع أنهم كانوا كثير، ولكنهم كانوا قليلي الكلام وكثيرى الصمت، وكان لهم تأثيرٌ في القلوب، يقول في ذلك سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: ((تسبق أنوارهم أقوالهم فتجذب القلوب وتُهيئها لسماع علوم الغيوب)). وقال أيضاً: ((حال رجلٍ في ألف رجل، خيرٌ من كلام ألف رجلٍ في رجلٍ واحد)).
العلم يحتاج للحال، والحال يا أحبة لا يحتاج إلى زمان ولا مكان، بل يحتاج أن الإنسان يخرج من حيطة الزمان ودوائر المكان، ويكون مع الله عزَّ وجلَّ أينما حلَّ وحيثما توجَّه: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (4الحديد).
فنحن والحمد لله ربِّ العالمين كل ما نرجوه من الله عزَّ وجلَّ أن يُديم علينا إخلاص القصد نحو وجهه عزَّ وجلَّ، ويُحصِّن نوايانا من الرياء والشهرة والسُمعة، ويجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم عزَّ وجلَّ.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
*******************
2 الخميس 21/1/2016م الموافق 11 ربيع آخر 1437ه – الوسطى العياط بنى سويف ـ