• Sunrise At: 6:05 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

15 أكتوبر 2020

نور الإيمان سورة الشورى الآيات 51-53

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

نور الإيمان

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ ” (51-53الشورى).

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله منزل هذا الكلام على قلب سيد الأنام، فأخرجنا به ومَن قبلنا من الظلمات إلى النور، وجعلنا به خير أمة أُخرجت للناس، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد بيت الله المعمور بالله، ونور الله الدال على الله، وشمس الحق المشرقة بنور هداه، شفيع المذنبين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

آيات القرآن هي خير من تحدثت عن النبي العدنان، فالقرآن خير بيان يبين فضل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه وأخلاقه وكل شيء له في الدنيا وفي الآخرة.

ونحن مطالبين جميعاً أن نقرأ القرآن ونتدبر معاني القرآن، فكل مسلم وإن كان غير قاريء ليس مطالب بالتلاوة فقط، لكن لا بد أن تقرأه وتتفهمه وتتدبره وتعرف ماذا يريد الله منك في هذا الكتاب.

لو كان ابنك في مكان بعيد وبعث لك بخطاب، فإنك لا تقرأه وأنت مشغول البال أو تتحدث مع فلان أو غيره، ولكن تجلس وتتأنَّى لتعرف ماذا يريد ابنك منك في هذا الخطاب، إن كان محتاج للمال، أو يريد شراء شيء، أو يريد أن يتزوج.

كذلك نفس الأمر، فهذا خطاب جاء من رب البرية إلى كل أفراد الأمة المحمدية، يعني النساء والرجال والشيوخ والصغار، الكل مطالب بقراءة هذا الكلام بتدبر وتأني وفهم، ثم المسارعة إلى العمل بما يطلبه الله تبارك وتعالى منا في هذا الكلام.

ورد في الأثر: ((عبدي أما تستحي مني! يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي، فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك منه شيء، وهذا كتابي أنزلته إليك وأنت معرض عنه!، أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك!))

ولذلك يجب في احتفالنا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أن نبحث عن آيات القرآن التي وصف الله لنا فيها حضرة النبي، ونبينها ونوضحها لزوجاتنا ولأولادنا ولبناتنا، لأننا مكلفين بذلك، وبعد ذلك لكل من حولنا من المسلمين، لأننا مأمورين أن يبلغ الشاهد منا الغائب من المسلمين، ويعلِّم العالم الجاهل، وإلا سيُسأل ويحاسب يوم لقاء الله تبارك وتعالى.

ولا مانع إذا كنا لا نعرف أن نقوم بالإحتفال بهذه الشاكلة أن نطالع في سيرته، فنقرأ عن أوصاف حضرته، لأننا مطالبون أن نكون على هيئته، يقول الله تعالى: ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا ” (21الأحزاب).

الرسول واليهود

والآيات التي معنا تتكلم عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فجماعة من اليهود قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تركوا بلاد الشام حيث المياه والحدائق الغناء والخيرات الوفيرة، جماعة منهم سكنوا في الصحراء، وجماعة سكنوا في المدينة وكان اسمها يثرب قبل الهجرة، وجماعة ذهبوا حول مكة، لماذا؟ كان عندهم أوصاف حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم، ويعلمون أنه سيظهر في مكة وسيهاجر إلى المدينة، وكانوا يطمعون أن يكون النبي منهم، مع أنهم يعرفون أوصافه ونعوته كما قال الله: ” يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ” (146البقرة).

وسيدنا موسى عليه السلام أمرهم أن يتبعوه وأن ينصروه وأن يعاونوه ويؤازروه، لكنهم لأن قلوبهم سوداء ومظلمة لما ظهر النبي العربي امتلأت بالحقد والحسد والكره والبغض لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وتفننوا كيف يؤذوه، بل أنهم أكثر من مرة حاولوا أن يقتلوه.

فكانوا يتآمرون عليه، وفي معارك الكفار يتفقوا معه وفي وسط المعركة يتركوه ويهربوا، ويكشفوا الجزء الذي يحرسوه من المدينة حتى يدخل العدو ويهزم جيش المسلمين ويستأصل المسلمين، فكانت هذه طريقتهم.

وسبب نزول هذه الآية أنهم ذات مرة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم: لماذا لم تكلم الله وتنظر إليه كما كلمه موسى ونظر إليه؟ وهذا الكلام فيه جزء حقيقة، وفيه جزء كذب، فسيدنا موسى كلم الله ولكن هل نظر إليه؟ لا، فهذه من عندهم وهي طبيعتهم، فهم قومٌ بُهت، فرد الله عليهم بذاته وقال: ” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلا وَحْيًا “.

أنواع الوحي للأنبياء

كلام الله للأنبياء أصناف، إما أن يكلمه عن طريق الوحي، والوحي ليس معناه الملك، ولكن يُلقي في روعه كلامه عز وجل، فعلى سبيل المثال الحديث القدسي، من الذي نزل بالحديث القدسي وهو عن الله؟ ليس سيدنا جبريل، ولكن ألقاه الله في روع حبيبه ومصطفاه، وهو عبَّر عنه بالألفاظ التي نفقهها ونفهمها ونتعايش بها في هذه الحياة، ولذلك كان يقول:

{ إِنَّ الرُّوحَ الأَمِينَ قَدْ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ }[1]

فالنبي الذي يكلمه الله كيف يكلمه؟ وحي.

ومن أنواع الوحي للأنبياء الرؤيا المنامية، فرؤيا النبي وحي، ولذلك سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام لما رأى في المنام في اليوم السابع من ذي الحجة أنه يذبح ولده، وتكررت الرؤيا في اليوم الثامن من ذي الحجة، وتكررت للمرة الثالثة في اليوم التاسع من ذي الحجة، فعرف أنها وحيٌ من الله، فأتى إبنه وقال له: ” يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ” (102الصافات) فماذا قال له الولد؟ ” قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ” (102الصافات) عرف أن هذا أمر، لأن هذه رؤيا من الله، ورؤيا الأنبياء وحيٌ.

وكذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما رأى في المنام أنه ذهب مع أصحابه إلى البيت الحرام وطاف حوله، فقصَّ عليهم الرؤيا، ولأنهم كانوا متعجلين أرادوا أن يذهبوا إلى البيت الحرام ويطوفوا حوله، فذهبوا ولكن الكفار منعوهم، وكان ذلك لحكمة يعلمها الله، وهي أن هذه الأحداث الكبيرة تبين الصادقين من المنافقين وضعاف الإيمان، يقولون: كيف يقول الرسول أنا رأيت في المنام أني دخلت الكعبة وطفت حولها، ثم يتفق مع الكافرين أننا لن ندخل هذه السنة وسندخل السنة القادمة؟!!.

حتى أن سيدنا عمر نفسه أراد أن ينقل هذا الأمر إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لكن رسول الله أخبره أنه لم يقل أننا سندخل البيت ونطوف به هذا العام تحديداً، يعني سندخل إن شاء الله ولكنكم استعجلتم، فنزل قول الله: ” لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ ” (27الفتح).

فالنوع الأول من الوحي للأنبياء إلقاء في الروع، يعني في روح إلإنسان وحقيقة الإنسان الباطنة التي هي أصلاً سر نفخة الرحمن: ” فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ” (72ص).

وكذلك الرؤيا المنامية للأنبياء وحيٌ من الله تبارك وتعالى، فالنبي الذي يكلمه الله يكون عن هذين الطريقين، إما عن طريق الروع، وإما عن طريق المنام.

وطريق الروع نختصره بكلمة واضحة ونقول عن طريق الإلهام، أي يلهمه الله هذا الكلام.

أما الذي يكلمه الله كلام مباشر فلا بد: أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ “ لكن لا كلام مع الرؤيا، فالكلام مع الرؤيا لو تم لموسى لم يطلب ولم يُلح في الطلب، ويقول: ” رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ” (143الأعراف) فلو رآه وهو يكلمه هل يطلب هذا الطلب؟ لا.

من الذي فاز بالكلام والرؤيا في وقت واحد؟ لا أحد غير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما كان في: ” قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ” (9النجم) وماذا حدث هناك؟ ” فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ” (10النجم).

لكن الوحي كلام ونظر ورؤيا، وهذا إجماع العلماء الأجلاء من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رأى ربه وكلَّمه في هذه الليلة، وهذا الكلام نردده في كل صلاة، ماذا قال له؟ التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، ورد عليه وقال له: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولأنه كان يحبنا وحريص علينا أدخلنا معه، فقال له: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

ما الحديث الذي دار؟ ” فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ” (10النجم) لا أحد يسأل في هذا الأمر، لأن هذه كانت محادثات خاصة بين الحبيب وحبيبه لم يطلع عليها ملكٌ مقرب، ولا نبيٌّ مرسل، لأنه أمرٌ خُصَّ به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لبيان مزيته وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين السابقين.

لكن أي مخلوق غير رسول الله يكلمه الله فلا بد أن يكون من وراء حجاب، يعني لا يرى ولا يتمتع بالنظر ولا بالرؤية.

النوع الأخير من الوحي: ” أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ “ يُرسل ملك الوحي، وملك الوحي سيدنا جبريل، وهو الذي اختص بالنزول بالوحي من الله إلى جميع أنبياء الله ورسل الله، وكان ختام الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه أنواع الوحي التي خصَّ بها الله سبحانه وتعالى الأنبياء، والله تبارك وتعالى من فضله وكرمه وجوده تفضل ببعض منها للأولياء عن طريق الإلهام، فالأولياء يُلهمهم الله من لدنه ومن عنده ما به يستديرون في هذه الحياة، وما به يستضيئون بتوجيهات الله جل في علاه.

وهذا الإلهام يكون إشارة إلهية تأتي إليه بغتة وفجأة بدون تفكر ولا تدبر ولا قراءة، وإنما يرسلها الله في الوقت والحال، لأنها واردةٌ من عند الله عز وجل لأمر ذي بال.

إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ” الله عز وجل – وهذا الكلام رد على اليهود – في ذاته وفي كبريائه وفي علوه وفي تنزيهه عليٌّ على أن تراه العيون، أو تسمعه الآذان، أو تدركه الأبصار .. عليٌّ على كل الصفات التي قد تخطر ببالك، فكل ما خطر ببالك فهو هالك، والله من وراء ذلك.

إياك أن تفكر في يوم من الأيام أنك تتخيل حضرة الله تبارك وتعالى، فالخيال لا شأن له بهذا الأمر، لأنه عليٌّ وحكيمٌ تبارك وتعالى.

ثم بيَّن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلَّم أعظم ما خصه به من الوحي: ” وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ” هذه الروح هي القرآن، فكما أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا ولو لحظة بدون روح، فكذلك لا يستطيع إنسانٌ أن يعيش لحظة في الهداية بغير روح الله وكتاب الله تبارك وتعالى، لأنه سر البداية، وسر العناية، والروح التي تبعث في قلوبنا التوجه إلى الله، والإقبال على الله، وحب العمل الصالح الذي يقرب إلى حضرة الله تبارك وتعالى.

وهم يعرفون، وهذا إعلاء لشأن حضرة النبي: ” مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ “ لم تكن تعرف القرآن قبل أن ينزل عليك، وهذا دليل الإعجاز، ودليل الإعجاز الآخر أنه أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ونزل عليه القرآن بلسان عربي مبين، وهذه أيضاً إعلاء لشأن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلَّم.

” مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ “قبل اختيار الله تبارك وتعالى له كان يذهب إلى غار حراء ويتعبد لله على ملة إبراهيم، ويعلم أنه سيصطفيه ويجتبيه ويوحي إليه، لكن متى؟ كان أمراً خفياً أعلمه الله بعد نزول الوحي عليه.

نور القرآن

” وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ “ القرآن نور والنبي صلى الله عليه وسلَّم نور كما قال الله فيه: ” قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ” (15المائدة) والله سبحانه وتعالى نور كما قال عن ذاته:” اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ” (35النور).

فالله نور، والنبي نور، والقرآن نور: ” نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ” (35النور).

فجعل الله تبارك وتعالى القرآن نور، حتى لا يهتدي إليه إلا من جعل الله في قلبه نور، والذين ليس في قلوبهم نور، لو جئتهم بأساطين القراء أو أكابر العلماء هل يستطيعون أن يغيروهم؟ لا، لأنه ليس عنده جهاز الإستقبال الذي يستقبل عن الله سبحانه وتعالى.

فإشارات البث موجودة في كل مكان، لكن القنوات الفضائية وما فيها من برامج، أين نراها؟ في شاشة، وهذه الشاشة شرطها أن يكون هناك جهاز استقبال يستقبل هذا البث ويترجمه ويظهره على الشاشة.

وكذلك الأمر، فأمواج الإلهامات الإلهية، وأمواج الحكم المحمدية، وأمواج البث القدسية موجودة في الأكوان، لكن من الذي يستطيع أن يستقبلها؟ لا يوجد غير الإنسان الذي وضع فيه القابل وجهاز الإستقبال حضرة الرحمن تبارك وتعالى.

ومَن لا يملك جهاز الاستقبال هل يستطيع أحد أن يغيره من الكفر الذي هو فيه إلى الإيمان؟! لا أحد، لكن لو هدى الله إنساناً على يدي إلى الإيمان أعلم أن الله يريد أن يعطيني هذا الفضل، لأنه من البداية مؤهل ومعه جهاز الاستقبال الذي يستقبل به أمواج الإيمان من حضرة الرحمن، ومن النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم: ” وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ” (40النور) هذا النور معنوي وليس نور حسي، نور معنوى موجود في القلوب التي هداها وأحبها وقربها حضرة علام الغيوب.

ولذلك نور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الذي كان يراه بما في قلبه من نور ويخضع له ويؤمن به؟ الذي جهَّزه الله، وأودع فيه الاستجابة.

الآخرين قال له فيهم: ” وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ” (198الأعراف) هل هم لا يرونه؟ يرون الظاهر، ولكن لا يرون النور الساكن بداخله، والذي هو به رسول الله، فالظاهر محمد، والذي بداخله رسول الله، فهم يرون الظاهر فقط، ولا يرون الباطن لأنهم ليس عندهم جهاز الاستجابة أو جهاز الاستقبال الذي يستقبل عن الله سبحانه وتعالى.

وجهاز الاستقبال هو من فضل الله تبارك وتعالى علينا، قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:

{ إِنَّ اللَّهَ عز وجل خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ }[2]

من الذي يقدر أن يغيره أو يبدله؟ لا أحد إلا ملك الملوك سبحانه وتعالى إذا تدخل بقدره في قوله: ” يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ” (39الرعد) لكن لا يوجد بشر مهما كان شأنه يستطيع أن يتدخل في هذا الأمر.

سر الهداية

” وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا “ وهو القرآن الكريم، وأنت تهدي أيضاً: ” وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ” ولكن الهداية هنا هي هداية البلاغ، وهداية البيان، فهو عليه أن يبلغ، وعليه أن يبين، وعليه أن يُنذر، لكن من الذي يجيب؟ من سبقت له السعادة من حضرة السميع المجيب سبحانه وتعالى، كالمؤذن يؤذن في المسجد، من الذي سيستجيب ويُحرك نفسه ويتوضأ ويأتي إلى المسجد لأداء الصلاة؟ الذي اجتباه الله سبحانه وتعالى واصطفاه وهيأه بأن يقف بين يديه ويتلذذ بمناجاة الله تبارك وتعالى.

الآخر سيسمع وهو مشغول، وحتى لو سمع الآذان وهو غير مشغول، لكن يجد عنده جمود فلا يستطيع الحركة، ولا يستطيع أن يتوضأ، ولو سأله أحد وطلب منه يتعلل بأعذار ويقول: ما زال الوقت مبكراً، أو معي مصلحة، وأعذار كثيرة مثل هذه.

الأعذار هنا لا يختلقها المؤمن المقبل على الله، لأن المؤمن المقبل على الله لا يعتذر أبداً إلا إذا كان عُذرٌ يقبله الله، ومنصوصٌ عليه في كتاب الله، أو في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.

فالمؤمنون الصادقون يقولون: ” رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلايمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا ” (193آل عمران) هؤلاء المؤمنون الصادقون.

فالله سبحانه وتعالى بيَّن لنا أن النبي صلى الله عليه وسلَّم معه هداية البيان والبلاغ، لكن هداية الإحسان وهداية العيان هذه على حضرة الرحمن سبحانه وتعالى، ولذلك قال له في آية أُخرى: ” إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ” (56القصص).

لماذا بيَّن الله لنا هذا البيان؟ حتى نعلم علم اليقين أنه لا أحدٌ يستطيع هداية ابنه إلى الله إلا إذا أراد الله تبارك وتعالى، يعني لا تغصب عليه أو تضربه أو تُكرهه: ” لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ” (256البقرة) لأنك لو أكرهته على الصلاة وضربته عليها سيُصلي وأنت موجود، لكن وأنت غائب سيترك الصلاة، فكأننا لم نفعل شيئاً.

ستُكره ابنتك على الزي الإسلامي المحتشم، فستلبس هذا الزي أمامك وهي ذاهبة للكلية أو للمدرسة، ولكنها عند باب الكلية تنزع الحجاب، وبعد أن تخرج وقبل وصولها للبيت تلبسه مرة أُخرى، فهل تنفع هذه الطاعة عند الله؟ لا.

فما الذي نريده؟ لا بد أن يقتنع الابن من داخله، ويعمل العمل الذي يعلم علم اليقين أنه يُرضي به مولاه، وأن الله يطلع عليه ويراه، فماذا أفعل؟ أستعين بالدعاء على طلب الهداية للأبناء، وأطلب من الله أن يهدي أولادي، وأن يصلحهم، وأن يحفظ لي بناتي ويستر عوراتي، وهكذا ألجأ دائماً إلى الله.

لكن لو كان الأمر بيدي فإني سأنسي أن أرجع إلى الله تبارك وتعالى، فهذا الأمر ليس لأي عبد من عباد الله ولا حتى لحضرة النبي نفسه.

فلا يصح أن أطلب من أي عبد من عباد الله مهما كان شأنه وأقول له: اهد لي ابني، وهل معه الهداية؟ لا، لكن أقول له: ادعو لابني بالهداية، لأنه لا أحد يملك الهداية إلا رب العزة تبارك وتعالى.

الأمر الآخر أن الله تبارك وتعالى أعلمنا أن الهداية من الله، والأعظم من الهداية أن يحفظها علينا حتى نلقاه، فأُريد أن أضمن أن أظل على هذا الهدى حتى ألقى الله مسلماً ويُلحقني بالصالحين، لذلك أحتاج أن ألح في الدعاء وأستغيث في الرجاء، ليحفظ لي إيماني حتى أخرج من الدنيا مسلماً موحداً لله تبارك وتعالى.

وأكون في نفس الوقت خائف أن يتخلى عني طرفة عين ولا أقل، فأميل هنا أو أرجع هنا.

في إحدى الغزوات كان رجل في صفوف الكافرين من الفرسان الأشداء، ولكن كما ورد في بعض الأثر أن النبي أخبر أنه سيموت مسلماً، وآخر في صفوف المسلمين وكان فارس عتيد جبار فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيموت كافراً.

الذي في صفوف الكفار جُرح جرحاً شديداً ولكنه أسلم ونطق بالشهادتين ثم مات، لم يتوضأ ولم يُصلي ولا صام، ولكن خُتم له بالإيمان كما أخبر الرحمن النبي العدنان.

الرجل الثاني الذي في صفوف المسلمين جُرح جرحاً شديداً، وكان من يصاب يحملوه في المؤخرة للعلاج، يروي ذلك سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه فيقول:

{ شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ لَهُ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَى النَّارِ، قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ }[3]

لا أحدٌ منا يضمن لنفسه أن يموت على الإيمان إلا إذا شملته عناية الرحمن، ولذلك كان سيدنا رسول الله بذاته في كل صلاة يقول:

{ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ }[4]

من الذي يقول هذا الكلام؟ سيدنا رسول الله، فما بالنا نحن؟!! والله علَّمنا في القرآن أن نقول له دائماً: ” رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ” (8آل عمران) والنبي أمرنا أن نكرر عقب كل صلاة هذه الآية ثلاث مرات.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يدعو في دعاء القنوت في صلاة الصبح في كل ليلة ليعلِّم أصحابه:

{ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ }[5]

وهل أنا غير مهدي الآن؟ لا، ولكنه يريد حفظ الهداية، والله تبارك وتعالى مع علو شأنه وجلاله وكبريائه علَّمنا أن نقول في كل ركعة من ركعات الصلاة: ” اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ” (6-7الفاتحة).

ففي الفجر نطلب الهداية، وفي كل ركعة من ركعات الصلاة نطلب الهداية، وبعد الصلاة نطلب الهداية، لماذا؟ نريد أن يحفظ الله علينا الهداية.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا إيماننا، وأن يهدينا سبلنا، وأن يجعلنا نعيش في الدنيا في طاعته ورضاه، وأن يختم لنا بالإيمان أجمعين يوم نلقاه، وأن نخرج من الدنيا ونحن ننطق بلفظ صحيح صريح: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وأن نكون من أهل هذه الآية، وتلحقنا هذه العناية يوم لقاء الله.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] مسند الشافعي والبيهقي

[2] جامع الترمذي ومسند أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

[3] البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

[4] جامع الترمذي ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه

[5] جامع الترمذي وسنن أبي داود عن الحسن بن علي رضي الله عنهما

1 درس بعد صلاة العشاء المنيا – مغاغة 28 من صفر 1442هـ 15/10/2020م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid