﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (31آل عمران).
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي منَّ علينا باتباع الرؤف الرحيم سيدنا محمد، وجعلنا له من المتبعين.
والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، والرحمة العُظمى لجميع العالمين سيدنا محمد ﷺ وآله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة بارك الله عز وجل فيكم أجمعين:
كان ختام كتابنا كما ذكرنا من قبل هو ذكر الواجبات علينا نحو رسول الله ﷺ مأخوذة من كتاب الله، وأدب الله للمؤمنين في قرآنه تبارك وتعالى.
وهذا الكتاب سميناه {الأفق المبين} وقد تحدثنا في المرة السابقة عن واجبين من واجباتنا نحو رسول الله ﷺ، وهو الإيمان به وطاعته، وذكرنا الأدلة على ذلك من كتاب الله تبارك وتعالى.
واليوم والليلة نتكلم عن وجوب إتباعه، وعندما نقول وجوب إتباعه أي أن إتباعه ﷺ ليس للمرء فيه حرية الإختيار، بل هو فرضٌ عليه أن يتبع رسول الله لأن الذي أمر بذلك هو حضرة الله تبارك وتعالى.
والواجب الرابع بعد ذلك هو محبته، والواجب الخامس هو الصلاة والتسليم عليه ﷺ.
ولما كان اللقاء القادم في الخميس القادم في مجمع الفائزين الخيري بالمقطم، سنتناول فيه الآيات التي تذكرنا بالصلاة على النبي:
ويكون على هذا الأساس الحديث في الخميس القادم إن شاء الله بعد صلاة العشاء، في الصلاة على النبي ويشمل الجانب التفسيري الذي نسير فيه يوم الخميس الشهري في الآيات التي تتحدث عن حضرة النبي، ويشمل كذلك الواجب علينا جماعة المؤمنين في الصلاة والتسليم على ختام الأنبياء والمرسلين، فسيكون درساً واحداً في الإلقاء، لكنه يشمل الكتابين معاً لأنه في نفس الموضوع إن شاء الله.
المهم عندنا الليلة:
وجوب إتباعه:
هل يجب على المسلمين إتباع رسول الله ﷺ؟ وكيف يكون هذا الإتباع؟
وضَّح ذلك في آية كتاب الله التي يقول فيها الله:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (31آل عمران).
وعن سبب نزول هذه الآية:
السبب الأول:
ذكر علماء التفسير عدة أسباب للنزول في هذه الآية، وهي وإن كانت متفرقات إلا أنها متفقات في المعنى المطلوب، فإن الرسول ﷺ عندما هاجر إلى المدينة المنورة، دعا كعب بن الأشرف زعيم اليهود في المدينة ومن معه من اليهود من قومه إلى الإسلام والإيمان به، واتباع ما جاء به من الله، كما أمرهم بذلك نبي الله سيدنا موسى وكما ذكرت التوراة المنزلة عليه، فقال كعب:
نحن أبناء الله وأحباؤه، فأنزل الله لهم هذه الآية، أي إن كنتم تحبون الله حقاً ـ وهذه حجة يلزمكم البرهان والدليل على هذه الحجة، والدليل والبرهان على هذه الحجة أن تتبعوني.
السبب الثاني:
وكذلك وجد النبي ﷺ نصارى نجران عندما وفدوا إلى المدينة المنورة للتعرف عليه ومدارسته، وجدهم يعبدون عيسى بن مريم وأمه، فسألهم: لم تعبدون عيسى وأمه؟ فقالوا: ما عبدنا عيسى وأمه إلا محبةً لله، فقال لهم الله:
إن كنتم تحبون الله، وعبدتم عيسى وأمه محبة لله، إذاً كمال هذه المحبة أن تتبعوا ما نزل إليكم في كتبكم من عند الله، وتتبعوا ختام الأنبياء سيدنا محمد وتؤموا به وتؤازروه وتعاونوه وتنصروه، وهذا هو السبب الثاني.
وهنا حدثت حادثة من أهل النفاق، فقد قال عبد الله بن أُبي إبن سلول رأس المنافقين في المدينة: إن محمداً يريد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى بن مريم وأمه.
﴿ فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ الله وَجِيهًا﴾ (69الأحزاب).
والسبب الثالث:
قيل أن النبي ﷺ عندما فتح الله عليه مكة، ودخل الكعبة فوجد الكفار يعلقون على الأصنام بيض النعام ويزخرفونها، ولا يوجد ضابط ولا رابط لذلك، فكل واحد منهم يُزخرف ويُصور ويضع ما يروق له، فقال ﷺ:
(ما هذه ملة إبراهيم التي تدعونها).
وكان أهل مكة يدعون أنهم على دين إبراهيم وعلى ملته الحنيفية، فقالوا كما قال عنهم الله:
﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾ (3الزمر).
أي نعبد هذه الأصنام لتقربنا إلى الله، فخاطب الله تبارك وتعالى في هذه الآية المؤمنين برسول الله ﷺ من أهل ملته والمتبعين لشريعته، وأهل الملل الأخرى كلها، لأن من يزعم منهم أنه يحب الله، عليه أن يتبع إمام الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ﷺ.
إذاً الخطاب في هذه الآية للأولين والآخرين، ولأمم الأنبياء والمرسلين، كما هو خطابٌ لنا جماعة المسلمين، فاتباعه ﷺ شرعٌ لهؤلاء جميعاً كما أنبأ رب العالمين سبحانه وتعالى.
في أي شيئٍ يتبعونه؟
يتبعونه في جميع ما جاء به من عند الله، لأن إتباع النبي دليلٌ على محبة الإنسان لربه، فالذي يحب الله ينبغي عليه أن يتبع رسول الله، والذي يريد أن يحبه الله عليه بمتابعة رسول الله ﷺ ليحبه مولاه.
ومن هنا فإن درجات الإتباع لرسول الله ﷺ تنقسم إلى ثلاث:
درجة المؤمنين:
وهم الذين يتابعونه ﷺ في أفعاله، في الصلاة والصيام والزكاة والحج وكل ما كان عليه في حياته، وهو الذي طلب ذلك فقال ﷺ:
(صلوا كما رأيتموني أُصلي).
ومن خالف في صلاته صلاته ﷺ فصلاته باطلة.
وقال ﷺ في الحج:
(خذوا عني مناسككم).
فأمرهم أن يأخذوا مناسك الحج عن حضرته صلوات ربي وتسليماته عليه.
أما خواص الأمة قديماً وحديثاً:
هم الذين لا يكتفون بماتبعة أفعاله، بل يزيدون على ذلك بمتابعة أخلاقه الكريمة، التي مدحه بها الله وقال له فيها:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (4القلم).
فيتبعونه في عفوه وصفحه وكرمه وجوده وتواضعه ولينه وشفقته ورحمته، وغيرها من الأخلاق الكريمة التي قال فيها ﷺ:
(إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
أما خاصة الخاصة:
فيزيدون عن المتلبعة في أفعاله، والمتابعة في أخلاقه بالمتابعة في أحواله الخاصة التي خصه بها مولاه سبحانه وتعالى في صدقه في مروءته في شجاعته في حُسن ظنه بالله، وحُسن ظنه في خلق الله، في كل الأحوال الكريمة التي جمله بها مولاه، وخصَّه بها دون سواه ﷺ.
أما المحبة فالمحبة معناها الميل إلى لعمل بشرع الله، والرغبة في متابعة سيدنا رسول الله ﷺ.
وأهل المحبة كذلك ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
محبة عامة المؤمنينك
وهي تكون محبة لرؤية النعم والإحسان من غيرهم لهم، وقد قال فيها ﷺ:
فيحبونه لما يرونه فيه بأعين قلوبهم صفات الجمال والكمال الإلهية التي جمله بها مولاه، وحباه بها وخصه بها دون سواه.
فهم في الحقيقة يحبون الله، لأنهم يحبون جمال الله، وإذا ظهر هذا الجمال في أي شخصٍ أحبوه لحبهم لله، وهذا حب أهل خاصة المؤمين لجميع خلق الله أجمعين.
فهم يحبون الكريم لأنه تجمل بوصف الله الكريم، ويحبون العليم لأن الله جمله بإسمه عز وجل العليم، ويحبون الحكيم في تصرفاته، لأنهم يرون فيه دقة صُنع الله في كل أمرٍ فعله الله في الدنيا والآخرة وفي الملك والملكوت، وفي أي ناحية من نواحي عظمة الله تبارك وتعالى.
ولما كان لنبينا ﷺ الحظ الأوفر من الأسماء الجمالية، والأسماء الجلالية التي تتصف بها الحضرة الإلهية، أحبوه لأنهم شاهدوا فيه هذه الكمالات، وتمتعوا برؤية هذه الصفات فيه ﷺ.
قال ﷺ:
(أحبوا الله لما يغذوكم من النعم والآلاء، وأحبوني لحب الله لي، وأحبوا آل بيتي لحبي).
ويقول الإمام أبو العزائم مبيناً سر هذه المحبة:
[أحب ما فيك منه، فهو المحبوب له لا أنت].
حتى في قرارة نفسك أحب في نفسك القلب والروح الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى لتلقي الإلهام والفتوح الإلهية.
وواليهم وأحرص على أن يكونوا دائماً وأبداً خالصين لله، تأتيك من الله سبحانه وتعالى عطاياه، وتفد عليك كل أنواع نُعماه تبارك وتعالى.
وأما خاصة الخاصة:
فمحبتهم نتيجة للجذبة الإلهية السابقة لهم، فإن الله جذبهم إليه قبل خلق أجساد الخلق أجمعين، وقال فيهم في كتابه المبين:
سبقت لهم الحُسنى قبل خلق الأكوان وقبل خلق الزمان والمكان، وهي عانية أزلية سابقة، وبين الله عز وجل سر هذه العناية في {ويحبونه} فحُبه سابق وحبهم له لاحق، أي أن حبهم اللاحق نتيجة حُبه السابق تبارك وتعالى.
ولذلك قال بعض الصالحين:
[إني لأعرف متى يُحبني ربي، فقيل له ومن أين معرفة ذلك؟ قال: هو عرفني، فقيل له: أوحيٌ بعد رسول الله ﷺ؟ قال: قوله {فاتبعوني يحببكم الله} وأنا في هذه الساعة في حالة إتباع لما شرع، أنا في اتباع الآن، وهو صادق القول فأعطاني الحال الذي أنا فيه أن الله مُحبٌ لي في هذه الساعة لكوني مجلَى لما أحب، وهو تعالى ناظرٌ إلى محبوبه، ومحبوبه ما أنا عليه].
فانظر إلى فقه الصالحين.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا فقههم أجمعين.
وقول الله سبحانه وتعالى {فاتبعوني} ـ الأمر هنا للوجوب وليس للتخيير، فاتباع رسول الله ﷺ واجبٌ على كل مسلم، وقد أقامه الله تبارك وتعالى بيننا إنساناً يأكل ويشرب وينام ويتزوج، ويفعل كل أفعال تقتضيها البشرية، حتى لا نقول أننا لا نطيق أن نتشبه به، لماذا وهو بشركم مثلكم؟
فيجب على كل مؤمن يريد أن يُحسن المتابعة لرسول الله ﷺ، أن يبحث عن عمله عليه صلوات الله وسلامه في كل شيئ قبل أن يعمل هذا الشيئ، حتى يعمله طبق عمله، فإذا أراد أن يفعل أي شيئ: يأكل فينظر كيف كان يأكل، فيتابعه في كيفيته.
يشرب فينظر كيف كان يشرب، فيتابعه في كيفية شربه للماء، وشكره للذي أنزل هذا الماء.
ينام ينظر كيف كان ينام، وهكذا في كل أمرٍ من الأمور، ينبغي عليه أن يبدأ أولاً بالبحث عن الكيفية السديدة التي كان رسول الله ﷺ يعمل بها العمل، ثم يُقبل على العمل.
ومن هنا كان سبق الناس إلى مصاحبة الصالحين لأنهم يعلمون أن هؤلاء خير الخلق الذين إتبعوا سيد الأولين والآخرين، وكانوا حريصين على متابعته ﷺ في كل أحوالهم، فقد رُوي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه إمتنع عن أكل البطيخ زماناً، فقيل له: لم لا تأكل البطيخ وقد ورد أنه ﷺ كان يحب البطيخ؟
قال ورد إليَّ بالسند الصحيح أنه كان يُحب البطيخ، ولكن لم يرد إليَّ حديث يطمئن به قلبي كيف كان يأكل البطيخ.
فلما ورد إليه حديث إطمأن إليه أنه ﷺ كان يشق البطيخة نصفين، ثم يقسم كل نصف على هيئة هلال، ويأكل من اليمين متجهاً إلى الشمال، فأكل على هذه الهيئة.
فعلم الخلق أن الصالحين لا يُوجد دقة في اتباع سيد الأولين والآخرين كدقة هؤلاء، لحرصهم على تمام المتابعة لحضرته، فصاحبوهم ليتعلموا منهم كيفية المتابعة لحضرته في عصرنا هذا، أو في عصورهم لأنهم:
صور الحبيب المصطفى مُثلٌ له وهم المرائي للنبي بالاحترام
ومن هنا نخلُص إلى نتيجة هامة وهي أن أمة النبي ﷺ هم الذين إتبعوا حضرة النبي، وصاروا على نهجه، فكل من تبعه فهو من أمته، وكل من أعرض عن متابعته فهو خارجٌ عن أمته، لأن أمته فرض الله عليهم أن يتبعوه ﷺ، وكلمة {فاتبعوني} في زمانه في صورته الظاهرة المحمدية، وبعد زمانه في صوره الورثة الذين ورثوا أحواله الكلية صلوات ربي وتسليماته عليه لما ورد في الأثر:
(من أراد أن يراني فلينظر إلى ورثتي، ومن رأى ورثتي فقد رآني).
لأنهم يمثلون حُسن المتابعة لرسول الله ﷺ.
أيضأ في هذه الآية دليلٌ عظيم على أن النبي ﷺ لا يصل أي نبيٍّ أو رسولٍ إلى منزلته ودرجته مهما فعل، لأن الله أمرهم جميعاً أن يتبعوه، ولا يتم بحالٍ من الأحوال أن يكون التابع أفضل من المتبوع، فهو أفضل الخلق على الإطلاق والجميع ينبغي أن يقتدي به ويتبعه.
وتنبيهٌ آخر في هذه الآية وفي هذه الكلمة العظيمة أنه ﷺ معصومٌ ومنزهٌ عن الخطأ، لأن الله إذا أمرنا أن نتبعه حفظه وعصمه، فلا ينبغي أن يأمرنا بمتابعته في أمرٍ يخالف شرع فيه ربه تبارك وتعالى.
فهو معصومٌ في كل أحواله، فيتبع شرع ربه في كل آناته، ولذلك ينبغي علينا إذا أرادنا أن يُحبنا الله أن نتبع الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله وآدابه التي كان يتأدب بها في الخروج من المنزل وفي دخول المنزل، وفي دخول الخلاء والجلوس في الخلاء، وفي الخروج من الخلاء، وغيرها من الآداب المبثوثة في كتب القوم الكرام، والتي قال فيها الأئمة العلام عن خير كتاب في هذه الكتب ويُسمى {الأذكار} للإمام النووي، كانوا يقولون: بع الدار واشتري الأذكار.
فيتابعونه في كل ما قلناه، إلا الأشياء التي خصَّه بها مولاه: