Sermon Details

17 ديسمبر 2010م
وسائل تأييد الله لرسوله والمؤمنين (خطبة الجمعة)
فضيلة الشيخ/ فوزي محمد أبوزيد
الحمد لله ربِّ العالمين، يوالي من أحبَّه بنعمائه، ويحفظه بحفظه من شرِّ كلِّ ذي شرٍّ في أرضه وسمائه، ويكشف له الحجب عن نور جماله وجلاله وبهائه، حتى يطمئن بأنه في حرزه وعنايته، وبأنه من أحبته وأوليائه. سبحانه .. سبحانه، إذا أراد شيئاً كان، وإذا أراد كون شيء ليس في الإمكان لأحد من بني الإنسان إنما يقضيه بكلمته عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (82يس).
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن اعتمد على حوله وطوله به عزَّ وجلَّ قوَّاه، ومن استمد منه المعونة عاونه بكل شيء في هذه الحياة، ومن تعامل معه وجد الفضل والمنن العظمى في كل أمر بمحض فضل الله، وبإغداق وسعة لا حصر لها لأن هذا فضل الله جلَّ في علاه. وأشهد ن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، تجرَّد من حوله وطوله وقوته، واسند ظهره على مولاه، ورفع حوائجه كلها جملة إلى حضرة الله، ولم يبق له ظاهراً في أمره ولا باطناً في قلبه إلا وجه مولاه، فأواه الله إلى كنفه وبفضله والاه، ونصره بنصرته بأشياء قليلة لا تذكر في كائنات الله.
اللهم صلِّى وسلم وبارك على سيدنا محمد، الظاهر في العالمين شرعه، والمتلو في الكونين كتابه، والذي جعله الله عزَّ وجلَّ سيِّداً في الدنيا وسيِّداً في الآخرة، وارزقنا أجمعين شفاعته واجعلنا ببركته من أهل جواره في جنته، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني جماعة المؤمنين:
نريد أن نتلمس عبرة وعظة لنا أجمعين من هجرة سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، فإن الله عزَّ وجلَّ كان قادراً على أن يأخذ حبيبه ومصطفاه في طرفة عين أو أقل من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، لا يمشى على أرض، ولا يركب مركوباً من عالم الأرض، ولا ينازعه ولا يعارضه بشر!! كان قادراً على أن يتمم ذلك كله في طرفة عين أو أقل.
فلِمَ جعله الله عزَّ وجلَّ يروعه القوم وهو في بيته؟!! ثم يبحثون عنه بعد خروجه من بيته، ويختبأ منهم في الغار لمدة ثلاثة أيام، ثم يمشى بعد ذلك في طريق لا يسلكه سائر الأنام – تعمية عليهم – ويدخل المدينة بعد سفر لمدة أسبوع!! لِمَ كان ذلك؟
لأن الله عزَّ وجلَّ ضرب لنا المثل والأسوة والقدوة جميعاً بالحبيب، وقال لنا في شأنه صلوات ربى وتسليماته عليه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [21الأحزاب].
أراد أن نتأسى به في حياتنا، ونقتدي به صلى الله عليه وسلم في كل أمورنا، فلو أخذ الحبيب كما قد ذكرنا في طرفة عين أو أقل ونقله إلى حيث يريد لقلنا جميعاً هذه خصوصية لمقام النبوة، أما نحن العبيد فشأننا التعب والمشقة والعناء، ولكن الله عزَّ وجلَّ ضرب لنا المثل بسيد الرسل والأنبياء صلى الله عليه وسلم!!
وكأن الله عزَّ وجلَّ يقول لنا: كل من تمسك بدين الله، وحرص على أن يعمل بشرع الله، لابد أن تواجهه مشاقٌّ في هذه الحياة، ولابد أن تقابله مشكلات أو معضلات تريد أن تمنعه من العمل بشرع الله، ومن تنفيذ ما يطلبه الله في كتاب الله، أو الحبيب صلى الله عليه وسلم في سنته الشارحة والموضحة لكتاب الله .. ماذا يصنع؟!!
يصنع كما صنع الحبيب، ويعلم علم اليقين، أنه مادام يتمسك بشرع الله رغبة في رضاه، وطلباً للفضل من الله، ومتابعة لحبيب الله ومصطفاه، فليعلم علم اليقين أن الله لن يتخلى عنه أيضاً – طرفة عين ولا أقل – كما لم يتخلى عن حبيبه ومصطفاه صلوات ربى وتسليماته عليه.
وحتى لا يظن الإنسان بنفسه ضعفاً – إذا كان ليس له نسب كثير، ولا معارف من الأكابر والعظماء، فالجميع يظن أن أمور الحياة تُيسر بالحسب أو النسب أو المعارف أو المال – فإن الله عزَّ وجلَّ قال لنا في شأن الحبيب: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ﴾ [40التوبة]. لم ينصره قومه، ولم ينصره الذين حوله، وإنما الذي نصره هو النصير الأعظم عزَّ وجلَّ، وهو رب العزة سبحانه وتعالى!! ولم يقل الله عزَّ وجلَّ في الآية: (فقد ينصره الله)، لأنه لو قال ذلك كان معنى ذلك أن النصر سيأتي سالفاً، لكن الله ذكر أن النصر معه من قبل القبل، من قبل أن يخلق الله عزَّ وجلَّ الخلق: ﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ﴾. ونصره بالفعل الماضي قبل وجوده، وقبل نشأته، وقبل إيجاد هذه الحياة الدنيا التي نحيا فيها ونعيش على أرضها. فإن الله قد نصره وأيده بنصره، لأن الله عزَّ وجلَّ أيَّد بالنصر كُلَّ من قام بنبوته أو بتبليغ رسالته.
وكذلك كُلَّ من استجاب للمرسلين وتابع سيد الأولين والآخرين فإن الله عزَّ وجلَّ ينصره، ولكن يعلم علم اليقين قول ربِّ العالمين: {وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّك وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ} (الإمام أحمد وابن حبان وسنن ابن ماجة وغيرهم عن أبى هريرة رضي الله عنه)، فلا يتعجل، ولا يستبطئ النصر، لكن يعلم علم اليقين قول سيدنا رسول الله: {وَاعْلَـمْ أَنَّ النَّصَرَ مَعَ الصَّبْرِ} (مسند الإمام أحمد والبيان والتعريف عن ابن عبـاس، قال: كنت خـلف النبـي يوماً، فقال: «يا غُلامُ إنِّـي أُعَلِّـمُكَ كَلِـمَاتٍ، احْفَظِ الله تَـجِدْهُ أَمَامَكَ. تَعَرَّفْ إِلَـى الله فِـي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِـي الشِّدَّةِ، وَاعْلَـمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَـمْ يَكُنْ لِـيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَـمْ يَكُنْ لِـيُخْطِئَكَ، وَاعْلَـمْ أَنَّ النَّصَرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً»)
النصر يحتاج إلى الصبر الجميل، وعدم الهلع أو الجزع أو الشك في دين الله، أو التشكك في إنجاز مولاه، بل يعلم علم اليقين أن الله سينصره في الوقت الذي يعلم فيه أن هذا هو الوقت الصالح لنصره والصالح لتأييده، لأن الله عزَّ وجلَّ أعلم منا بمصالحنا أجمعين.
نصَره الله عزَّ وجلَّ في الدنيا بكل عوالم الأكوان، نصره بعالم النبات، ونصره بعالم الطير، ونصره بعالم الهواء، ونصره بعالم الحيوان، ونصره بعالم الجمادات، ونصره بالإنس الذين ألقى الله في قلوبهم حُبَّه والرغبة في نُصرته صلوات ربى وسلامه عليه، لأن الله عزَّ وجلَّ يُعلمنا أنه إذا أراد نصر أحبابه فإنما يُيسر لهم جميع الأسباب، والنصر في الحقيقة من مُسبب الأسباب ومن مُحركها وهو الكريم الوهاب عزَّ وجلَّ، انظر معي إلى قول الله: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [2، 3الطلاق]. وحسبه أي كافيه أي يكفيه عن الجميع.
وأمر الله عزَّ وجلَّ الأرض أن تكون طوع أمره منذ تحرك من بيته، تحميه من أعداءه، فإذا مشى على الرمل تماسك الرمل تحت قدمه فلم يؤثر قدمه في الرمل حتى لا يعرفوا أثره!! وإذا مشى على الصخر – والصخر شديد يُتعب من مشى فوقه – كان الصخر يلين تحت قدمه حتى لا يتعب في سيره!! لأنه مهاجر لربِّه عزَّ وجلَّ.
ولم يأمر الله جحافل الملائكة أن يحرسوه استهانة بهؤلاء الأعداء، فلو كان لهم وزن عند الله لأرسل الملائكة تدفع عن حبيبه ومصطفاه (سبق وأوردنا في موطن سابق أن هذه المخلوقات ربما كانت ملائكة تشكلت كما أورد بعض العارفين، وهذه كلها مشاهد في نصرة الحبيب كما أشهدها الله أهلها !)، لكنه عزَّ وجلَّ وهو القوى يتحداهم بأشياء ضعيفة في بيئتها ومعروفة لهم بضعفها! فيأمر نبتة معروفة تنبت في كل أرجاء الصحراء أن تنبت فوراً على فم الغار، وهو نبات معروف اسمه: (أم غيلان) ينبت في الصحراء وله زهور كالقطن الذي نعرفه!– نبتت في الحال!! ويأمر ليس صقوراً أو طيوراً جارحة وإنما يمامتين وديعتين أن ينصبا عشاً لهما على هذه الشجرة وأن تبيض الأنثى بيضتين وترقد عليهما. ويأمر أضعف الحشرات وهو العنكبوت أن ينسج بيتاً على باب الغار: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [8المنافقون].
تحدى الله الكافرين بأشياء بسيطة، من عالم النبات ومن عالم الطير ومن عالم الحشرات – كائنات ضعيفة – تحدَّت الكفر والكافرين حتى نعلم علم اليقين قول رب العالمين: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [126آل عمران]. فلا تُرهبنا الذَرَّة، ولا الصواريخ عابرة القارات، ولا الأجهزة الفضائية أو التكنولوجية الحديثة – إذا آمنا بصدق بالله، واتبعنا بإخلاص حبيب الله ومصطفاه – فإن كل هذه المعدات والأجهزة ومن يُشغلها لا وزن لهم عند الله إذا أطعنا وكنا جميعاً كما كان الصادقون من أصحاب رسول الله، إذا دخلنا في قوله: ﴿ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [23الأحزاب].
عبرة للمتقين وأسوة للمؤمنين!! فإن المؤمن بربِّه لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، ولا يستطيع عليه أحد – مهما بلغت قوته، ومهما بلغت مخترعاته وعدته – لأنه معه الله عزَّ وجلَّ، ومن معه الله: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [137البقرة].
فأيَّد الله حبيبه كما رأينا، وجعل كل شيء من عالم الأسباب تحت أمره بقرار من مسبب الأسباب عزَّ وجلَّ، ولذلك عندما لحق به الرجل الفارس العتيد قال النَّبِيُّ: يا أرض خذيه، فامتثلت الأرض وانشقت وأمسكت برجليه وأرجل فرسه، فلما استغاث به قال: يا أرض دعيه، فامتثلت الأرض لأمره وتركته، وكرر ذلك ثلاث مرات لنعلم أن الأرض مسخرة له بأمر الله، لأن الله قال في شأنه وفي شأن أنبياء الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ [64النساء].
أيَّده الله عزَّ وجلَّ، ثم حتى لا نظن أن هذه أشياء خاصة بتأييد الله للنبي، ذكر الله عن هذه الأشياء التي أشرنا إلى بعضها: ﴿فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ [40التوبة]. كل الذي ذكرناه: أشياء رأيناه، أو رآها من أخبرنا بصدق عنها، لكن الله عزَّ وجلَّ نصره بجنود لم نرها، ما هذه الجنود؟ ذلك ما سنذكره بعد الصلاة خوفاً من الإطالة.
قال صلى الله عليه وسلم: { المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ، والمهاجِرُ مَن هَجرَ ما نَهى اللّهُ عنه } (صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه). وقال أيضاً: { وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن وَالله لا يُؤْمِن، قالوا: وَما ذَاكَ يا رَسولَ الله؟ قالَ: جارٌ لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ » قالوا: وما بوائقه؟ قال: «شَرُّه»}( مسند الإمام أحمد عن أبى هريرة). أو كما قال، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين الذي أكرمنا بعزَّته، ووفقنا لإتباع شريعته، وجعلنا في الدنيا من أهل نصرته، وفي الآخرة من أهل جنته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحقُّ الحقَّ يبطل الباطل ولو كره المجرمون. وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وخليله، أكرمه الله عزَّ وجلَّ بنصرته، وألبسه في الدنيا ثوب عزَّته، وجعله في الآخرة شفيعاً لجميع أهل بريَّته.
اللهم صلِّى وسلم وبارك على سيِّدنا محمد، واجعلنا من خيار أحبته، وارزقنا في الدنيا العمل بشريعته، وفي الآخرة جواره في جنته أجمعين، آمين .. آمين، يا ربَّ العالمين.
إخواني جماعة المؤمنين:
ما بيننا وبين أن نكون من الذين ينصرهم الله ويؤيدهم الله في كل أحوالهم، ويرعاهم الله في كل شئونهم، ويستجيب لهم كل دعاءهم، ويحقق لهم كل آمالهم، إلاَّ أن نهاجر الهجرة التي بينها لنا سيدنا رسول الله في حديثه الكريم!!
فعندما دخل مكة فاتحاً صلوات ربى وتسليماته عليه أعلن وقف الهجرة المكانية، أي من مكة أو من أي موضع بالجزيرة العربية إلى المدينة المنورة! وفتح باب الهجرة المعنوية إلى يوم الدين، فقال صلوات ربى وتسليماته عليه: {لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جِهادٌ ونيَّة} (صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما)، وقال صلى الله عليه وسلم: {وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهي اللَّهُ عَنْهُ} (صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما).
فالمهاجر – منذ فتح مكة إلى يوم الدين – هو الذي يهجر المعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن، هو الذي يهجر قالة السوء، كل القول الذي نهي عنه الحبيب، قول الزور والكذب والفجور، وكل ما يؤذى المسلمين ويُشوش على المؤمنين، والذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم في قوله: {المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ وَيَدهِ} (البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما).
ما الذي يؤذى الإنسان المسلم من لسان أخيه؟ وضَّحَ ذلك في الحديث الآخر صلوات ربى وتسليماته عليه فقال: {لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولاَ اللَّعَّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيِّ} (سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه)
لا يسبُّ أحداً من خلق الله – فضلاً عن الإنسان الذي كرمه الله – ولا يلعن شيئاً من الخيرات والبركات التي سخرها له الله، ولا يَصْدُرُ من لسانه أيُّ كلمة فاحشة، جافية أو نابية أو لاغية تؤذى الآخرين، وتضره وتُسَوِّد صحائفه التي يلقى بها ربَّ العالمين، ولا يَصْدُرُ من لسانه الكلامُ البذيء، الذي تستوحش منه الآذان، والذي تفر منه الأبدان، وإنما يهاجر المسلم دوماً في كل أقواله إلى قول الرحمن عزَّ وجلَّ في القرآن: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾. [24الحج].
لا يخرج منه إلا الكلام الطيب، الذي يُطيِّب النفوس، والذي يشرح الصدور، والذي يؤلف القلوب، والذي ينزع الإحن من الصدور، والذي يجعل بني الإنسان الحياة بينهم ألفة ومودة، وصفاء وسرور وحبور. إن معظم مشاكل الناس في زماننا – وفي كل زمان – من اللسان، فلو ملَك الإنسان لسانه فإن الناس جميعاً يحبونه ولا شك. فهذه صفة المؤمن، فالمؤمن الحقّ هو الذي مَلَك لسانه، لا يصدر منه غيبة ولا نميمة، ولا سبٌّ ولا شتم ولا وقيعة، بأي صورة من الصور لأي رجل من المسلمين، ولذلك يقول الإمام علىّ رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه عندما سُئل وقيل له: يا إمام مَن أولياء الله الذين يحبُّهم الله عزَّ وجلَّ؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: {هم الذين أنفسهم عفيفة، وحاجاتهم خفيفة، الناس منهم في راحة، وأنفسهم منهم في عناء}.
إذا سَلِمَ الإنسان من لسانه، فبَشِّره بأن الله عزَّ وجلَّ قد اختاره واجتباه، وجعله حبيباً مقرَّباً لحضرة الله جل في علاه!!!! هذا الإمام البخاري رضي الله عنه حَضَرَتْهُ سكراتُ الموت، وجلس حوله طلابه يبكون على فراقه، فقال لهم: لِمَ تبكون!! وها أنا ذا تُطوى صحيفتي ولم يُكتب لي فيها طوال حياتي غِيبَةٌ واحدة، ولا كذبةٌ واحدة!! صحيفته طول حياته لم يُكتب فيها غيبة لمسلم، ولا كذبة على مسلم!! مع أنه كان عالماً في علوم الحديث، فكان يتداول سيرة الرواة، فلان عن فلان، ويتحرى عن كل راوٍ ليتأكد أنه صادق في أقواله، صادق في أفعاله، صادق في أحواله!!!
فقد ذهب في إحدى رحلاته إلى حضرموت الآن – ليسمع حديثاً بلغه أن هناك رجلاً يرويه.، وعندما وصل سأل عن الرجل فأشاروا إليه، فوجد الرجل يجرى حول جمل له فرَّ منه مسرعاً، وأمسك الرجل حجره هكذا، ليوهم الجمل أن حجره فيه طعام، فلما تبين أن حجره ليس فيه شيء، قال له: تخدع هذه البهيمة!! لا أسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم!! ومع ذلك لم يُرْوَ عنه في حياته كذبةٌ واحدة ولا غيبةٌ واحدة!!
أين نحن من هؤلاء؟!! إذا أردنا أن ينصرنا الله كما نصرهم، وأن يُعزَّنا كما أعزَّهم، وأن يكرمنا كما أكرمهم، فعلينا أن نقتدي بهديهم، وأن نتبع أفعالهم، وأن نكون كما كانوا: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [23الأحزاب]. فنهجر المعاصي والفتن بالكلية، ونُقبل بصدقٍ وإخلاص على ربِّ البرية.
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا الصدق في الأقوال، والإخلاص في النيَّات، ومتابعة الحبيب في الأحوال، وأن يوفِّقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن ينصرنا على أنفسنا حتى لا نرتكب زلاَّت ولا مخالفات تغضبه في هذه الحياة، وأن يجعلنا من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا، وإذا ظَلَمُوا استغفروا، وإذا ظُلِمُوا غفروا، ون يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعُون أحسنه.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، وللمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، يا ربَّ العالمين.
عباد الله: اتقوا الله، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (90النحل).
اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، وأقم الصلاة.
خطبة الجمعة بمسجد عبد المنعم رياض - بنها 17/12/2010م