بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله الذي أكرمنا وعلَّمنا ما ينفعنا في الدنيا، وما يرفع شأننا يوم لقاء حضرة الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي رقاه مولاه وحباه وأدناه وأعطاه بصيرة نورانية رأى بها كل شيء سيحدث لأمته إلى يوم الدين، فأخبرنا وبيَّن لنا حتى لا نزلَّ ولا نضلَّ، بل نكون في حصن الله أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله الكرام، وصحابته العظام، وكل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وعلينا معهم أجمعين بمنك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.
الرسول صلى الله عليه وسلَّم كان يتنزل عليه الوحي من السماء بالأنباء من الله، ومع أن اليهود – قاتلهم الله – يعلمون أنه نبي، وأنه يتلقى الوحي من الله، إلا أنهم كان شيمتهم التكذيب والبهتان، مع أنهم كما قال الله في شأنهم مع رسولنا الكريم: ” يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ” (146البقرة).
هم يعرفون رسول الله أكثر من معرفتهم لأولادهم، سألوا أحد علمائهم الكبار وكان قد أسلم وهو سيدنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقالوا له: كيف يعرفون النبي أكثر من أبنائهم؟ قال لهم: أنا غير متأكد أن أولادي هل مني أم من غيري، لكن نحن متأكدين أنه نبي الله، وأنه رسول الله بالأوصاف التي وصفها لنا الله، وذكرها لنا سيدنا موسى كليم الله عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام.
فكانوا دائماً يبحثون عن الأسئلة الصعبة، وعندما يروا حضرة النبي جالساً بين أصحابه يريدون أن يحرجوه ويسألوه عن هذه الأسئلة، ظناً منهم لخيبتهم أنه صلى الله عليه وسلَّم سيعجز عن إجابتهم، مع أنهم يعلمون أنه يتلقى الوحي من الله في الحال، لأن سيدنا جبريل كان ينزل من فوق السماوات السبع من عند سدرة المنتهى إلى الأرض في لمح البصر، يحكي سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال:
سيدنا رسول الله ضحك حتى بدت نواجزه، يعني ظهرت أسنانه، وكان سيدنا رسول الله من أوصافه الجميلة، أن جُل ضحكه التبسم، يعني يظهر عليه أثر البسمة لكن بدون صوت، والبسمة التي يصحبها صوت القهقهة لم تكن طريقته صلى الله عليه وسلَّم.
وكان صلى الله عليه وسلَّم يتبسم على الدوام، إذا تكلم يتبسم، وإذا مشى يتبسم لمن يراه، وإذا جلس مع قوم يبشُّ لهم ويتبسم لهم ويوزع النظرات لهم، حتى كان كل واحد منهم يظن أنه هو الأحب لرسول الله من بينهم، لأنه كان يوزع النظرات للكل.
قدرة الله
وفي الحال نزل قول الله تبارك وتعالى: ” وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ “ لا أحد أبداً في الأولين ولا المعاصرين ولا الآخرين يستطيع أن يُلمح أو يُصرح بشيء عن حقيقة رب العالمين تبارك وتعالى، فهو كما قال عز وجل عن نفسه: ” لا تُدْرِكُهُ الابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ” (103الأنعام).
ونحن لا نرى إلا الكثيف، فلا يوجد شيء لطيف نستطيع أن نراه، فنحن نرى الجدار ونرى العامود لأن هذا شيء كثيف مصنوع من عناصر الأرض، كعالم الإنسان وعالم الحيوانات وعالم الطيور وكل ما على البسيطة.
لكن هناك حقائق لطيفة، يعني لا تُرى بالعين المجردة، مثل الملائكة الحفظة البررة، منهم الكرام الكاتبين وهم معنا على الدوام، ولكن لا يراهم أحدٌ منا لأن أجسامهم لطيفة لا تُرى بالعين المجردة.
وأيضاً معنا عالم من العوالم الذين لا يغادروننا ولا يفارقوننا إن كان في البيوت أو في مجالسنا وفي كل زمان ومكان وهم الجن، ولكن لا يراهم أحدٌ منا.
فهذا عالم اسمه عالم اللُطف، فإذا كان ما صنعه الله عز وجل من ألطافه الخفية لا يصل إلى إدراكه أي قوى في البشرية، فكيف بمن صنع وأوجد هذه الألطاف الخفية؟!! من الذي يستطيع أن يرى أو يصف من يقول للشيء كن فيكون تبارك وتعالى؟! لا أحد.
وحتى الإنسان، فنحن أجساد مكونة من عناصر الأرض، وتعود مرة ثانية إلى الأرض: ” مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ” (56طه) لكن هذه الأجسام كيف تتحرك وتذهب وتجيئ؟ بسر الله الذي فيها وهي الروح، ما شكل هذه الروح؟ هل يوجد أحدٌ في العالم كله وصل إلى الآن إلى سر الروح؟ لا، وأيضاً وهذا سؤال من الأسئلة التي سألها اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ” وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ” (85الإسراء) فهي من عالم الأمر، ولا يُطلع الله تبارك وتعالى عليه أحد إلا لمن سمح له بأن يتجول ويسوح في عالم الأمر، وهؤلاء قلة قليلة من الناس قديماً وحديثاً.
إذاً ينبغي علينا أجمعين أن نتأدب إذا كان الحديث عن رب العالمين تبارك وتعالى، ولا نتكلم عن حضرته إلا بما ذكره عن ذاته في قرآنه الكريم، وهذا الأدب الذي أدَّب به نبينا صلى الله عليه وسلَّم أصجابه الكرام.
لماذا؟ لأن هذا الأمر يسمونه المزلقة، يعني الحالة التي ينزلق فيها كثير من الخلق، فيخوض في الحق بغير علم فيهوي والعياذ بالله إلى جهنم وبئس القرار.
تنزيه ذات الله
فذات الحق لا شأن لنا بها، نتكلم عن أنفسنا، أو نتكلم عن ما هو مثلنا، لكن عن الله عز وجل: ” لا تُدْرِكُهُ الابْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ” (103الأنعام) هو الذي يحدثنا عن نفسه.
والقرآن أتى بالمعنى الأجمل والأكمل من الذي ذكره اليهود عن حضرة الله، فقد ذكروا أن الأرض على إصبع، والسماء على إصبع، والجبال على إصبع، والنبات على إصبع، وبقية ما في الكون على إصبع، وهل الله له أصابع كأصابعنا؟! فهذه تؤدي إلى التشبيه، وحاشا لله تبارك وتعالى، بل لله كمال التنزيه.
لكن انظر إلى وصف الله: ” وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “ الأرض كلها يوم القيامة ستُطوى: ” يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ” (48إبراهيم) وستكون في قبضته، وليست القبضة كقبضتنا، لكن رهن مشيئته ورهن إرادته يفعل فيها ما يريد لأنه الفعال لما يريد.
” وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه “ وأيضاً ليست يمين كيميننا، فلنا يمين ولنا شمال، وحضرة النبي قال:
واليدين يعني العطاء، فالله عز وجل يُعطي من يشاء لمن يشاء بكيفية لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى.
لكن لماذا ذكر هذا؟ لأن هذه الأشياء هي التي كانوا يعترضوا عليها في القرآن، لأنه قال عن السماء: ” يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ” (104الأبياء) نطوي السماء يوم القيامة كما نطوي أي كتاب ونضعه في الدوسيه، والسجل يعني الدوسيه الذي استحدثناه ونضع فيه الكتاب، لكن الكيفية لا يعلمها إلا رب البرية، ولذلك قال لنا: ” سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ “ ليس لنا شأن بمحاولة تشبيه الله عز وجل مع عُلو قدره، ومع ارتفاع شأنه بخلقه تبارك وتعالى.
وللأسف ظهر جماعة في زماننا من المسلمين الذين مكَّن الله لهم في الأرض وأعطاهم مال وبترول وغيره، يقولون: آيات القرآن لا نؤلها ونتركها كما هي، مثلاً يقولون في قول الله: ” وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ ” قبضته كهذه القبضة، ويقولون في قوله: ” وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه “ يمينه كهذه اليمين.
حتى أن أحدهم وكان إماماً وعالماً، صعد المنبر يوم الجمعة وذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الذي يقول فيه صلوات ربي وتسليماته عليه:
وكان واقفاً على الدرجة العُليا من المنبر وقال: إن الله يتنزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل هو درجة من درجات المنبر!.
هل هي يهودية في الإسلام؟! يهودية في الإسلام، لكننا نقول: نزِّه الله سبحانه وتعالى عن جميع الأوصاف البشرية، له عينٌ لكن ليست كعيننا، لأن عيننا محصورة لا ترى إلا من في الأمام، وترى إلى أمد محدود، لكن عين الله ترى جميع الكائنات في جميع الجهات في وقت واحد، ولا ينشغل بشيء عن شيء.
وأذننا لا تسمع إلا الذي يتكلم معها، فلو تكلم اثنين لا تفهم الاثنين في وقت واحد، ولا تسمع إلا لمسافة محددة، وبلغة محددة وهي اللغة التي أعرفها، لكن لا تسمع لغة الطيور، ولا لغة الحيوانات، ولا لغة الحشرات، ولا لغة الجمادات، لكن الله عز وجل عندما يقول: ” إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” (56غافر) فهو السميع لجميع أصوات الكائنات بجميع اللغات في جميع الجهات في وقت واحد، ولا يشغله سمعٌ عن سمع.
فهل يجوز أن نساويه بالحقائق البشرية التي نحن فيها؟ لا، لذلك يجب أن ننزه الله سبحانه وتعالى عن ذلك: ” سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ “ .
وبعد ذلك بدأ الله سبحانه وتعالى يُفصل أمور الآخرة التي سنحضرها جميعاً، وسنكون إذا وفقنا الله من السعداء أجمعين في هذا اليوم في جوار حبيب الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلَّم.
القيامة أولاً، وبعد ذلك الآخرة التي فيها الحساب، وفيها الميزان، وفيها الصراط، وفيها ما فيها من أشياء لا مجال لذكرها.
القيامة والنفخ في الصور
كيف ستتم القيامة؟ شرح الله عز وجل لنا ذلك: ” وَنُفِخَ فِي الصُّورِ “ ما الصور؟ حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم كان يترقبه منذ بعثته، وقد مرَّ على بعثته ما يزيد عن الألف وأربعمائة سنة، فالأمر قريب.
ولذلك سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل يوماً على سيدنا رسول الله، فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ رَاقِدًا تَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةٌ لِيفًا، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ إِلا الْحَصِيرُ، وَأَثَّرَ الْحَصِيرُ فِي جَنْبِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ ذَرِفَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
ورسول الله الله صلى الله عليه وسلم ظهر، فماذا يكون وراءه؟ الساعة على أثره صلوات ربي وتسليماته عليه.
والصور لو رجعنا إلى تفسير الكتب القديمة لا يوجد تفسير له ورد عن حضرة النبي، ولا عن الصحابة الأجلاء، فالسادة المفسرين القدامى – غفر الله لهم – كان الشيء الذي لا يجدوا له تفسير ورد عن رسول الله، أو عن الصحابة المباركين، يأخذوا التفسير من كتب أهل الكتاب، وكتب أهل الكتاب مليئة بالأكاذيب والخيالات.
فالكلام عن الصور في لغة الأقدمين كلام لا يقبله عقل، وليس له دليلٌ من النقل، وماذا يحتاج؟ يحتاج إلى صاحب بصيرة منيرة يُطلعه الله عز وجل على هذا الشكل ليُعرفنا ما الصور، حتى وصلنا في عصرنا وأكرمنا الله عز وجل بالإمام أبو العزائم رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: ((الصور عالم محيط بالسماوات وما فيها، والأرض وما فيها)) السماوات السبع وما فيها، والأراضين وما فيها كلهم داخل الصور، عالم آخر.
وإن كان هناك قراءة أخرى للآية تزيد المعنى إيضاح: ” وَنُفِخَ فِي الصُّوَرِ ” فكل إنسان له صورة، فعندما يُنفخ في صورنا كلنا يحدث ما سيحدث، لأن القرآن جميل كله جمال، والقراءات القرآنية تزيد فيه الجمال، من الذي سينفخ؟ الملك الموكل بالنفخ في الصور هو سيدنا إسرافيل.
” فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ ” الصعق يعني الإغماء أو فقدان الوعي، فساعة ما ينفخ النفخة كل من في السماوات ومن في الأرض من الأحياء في هذا الوقت والحين سيُغمى عليه ويفقد وعيه وستكون هذه بداية نهايته، نسأل الله عز وجل أن يعجل بنا ولا يُحيينا إلى هذا الوقت، لأن هذا الوقت قال فيه صلى الله عليه وسلَّم:
قبل قيام الساعة يُرسل الله سبحانه وتعالى سحابة تقبض القرآن من صدور القراء الحافظين، ثم يُرسل الله عز وجل سحابة تقبض أرواح المؤمنين، وهم الصالحون المستقيمون، والكافرون الموجودون لن يغسلوهم ولن يكفنوهم ولن يدفنوهم، فيُرسل الله ملائكة من عنده تغسلهم وتكفنهم وتصلي عليهم وتدفنهم، من الذي سيبقى في الأرض بعد ذلك؟ الحثالة الكافرين والمشركين لعنة الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين.
فالنفخة الأولى اسمها نفخة الصعق، كل من على الأرض سيُصعق إلا من شاء الله، من الذي دخل في هذه المشيئة ولن يتم له الصعق؟ أيضاً عندما ننظر في كتب التفسير القديمة نجدهم يجتهدوا بغير دليل، منهم من يقول جبريل، ومنهم من يقول إسرافيل، ومنهم من يقول حملة العرش، فمن أين أتيت بالدليل؟!
فالأحسن أن نقول :لا يعلمهم إلا الله، ما دام لا يوجد دليل من السنة عن رسول الله، فلا نخمن، بل نترك الأمر لحضرة الله، ولا نأخذ من اليهود ولا غيرهم، ولا نخمن بعقولنا وخيالنا، ونسلم الأمر لربنا سبحانه وتعالى.
بعد نفخة الصعق هناك نفخة أخرى وهي نفخة القيامة: ” ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ “
وهناك نفخة أخرى أشار الله إليها الله في سورة النمل: ” وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ ” (87النمل) وهذه نفخة ثالثة اسمها نفخة الفزع.
بعض الواقفين يقولون: ليس هناك إلا نفختين اثنين، لكن إجماع السادة العلماء الأجلاء أنهم ثلاث نفخات، وأولهم نفخة الفزع، والفزع يعني الحذر، يعني انتبهوا وتجهزوا لأن القيامة على الأبواب، وأن القيامة قادمة، وهي سنة الله في خلقه: ” وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ” (15الإسراء) لا بد أن ينبه أولاً، فيرسل رسول أو يرسل كذا، حتى في الموت، فعندما يأتي ملك الموت للإنسان، يقول له: لِمَ أتيتني فجأة؟ يقول له: ألم يُرسل الله لك رسولاً تلو الرسول؟ يقول: أين هؤلاء الرسل؟ يقول: المرض، فهذا رسول لتتجهز وتستعد، والشيب رسول، فعندما يشيب الشعر دليل على أن الأمر قد اقترب فتستعد.
كل هذه نُذر يرسلها الله للمرء ليتجهز ويستعد للقاء الله سبحانه وتعالى، هذه الأمور كان السلف من قبلنا ينتبهوا لها، ولكننا للمشاغل التي زادت عن الحد نسينا، ولم يعد ينتبه لها الكثير ولا يتجهزون عندما يرونه.
خاصة أن الأمر بالنسبة لهم أصبح سهل، فإذا ابيض الشعر يُحضر صبغة الشعر ويغير لون الشعر فينسى أمر الشيب، وإذا أصابه مرض يأخذ العلاج ويُشفى ويُهيأ له أنه لن يصاب بشيء آخر من هذا النوع، مع أن الأمراض كثيرة وزادت عن الحد.
فنفخة الفزع تكون في البداية، وبعدها نفخة الصعق، والتي يتوفى الله فيها كل من على ظهر الأرض، وتبدأ الأرض تستعد للنفخة الأُخرى وهي نفخة القيامة، كيف تستعد؟ هذا الكلام فسره ووضحه الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه، والإمام علي قال فيه حضرة النبي:
من باب مدينة العلم؟ سيدنا علي، أو تستطيع أن تقول: وعليٌّ بابها يعني بابها عالي، عندما تعلو همتك، وتعلو روحك تصل لهذا الباب، وتدخل وتأخذ من هذا العلم المكنون.
فسيدنا علي هو الذي ترجم هذه الأشياء، وسيدنا علي كان يقول: ((والله ما من آية في كتاب الله نزلت، إلا وأعلم متى نزلت؟ وفيم نزلت؟ وأين نزلت؟)) وكان يقول: ((لو فسرت فاتحة الكتاب بما أعلم لوقرتم سبعين بعيراً)) ما هذا؟ علم من الله تبارك وتعالى من باب: ” وَاتَّقُوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله ” (282البقرة).
قدَّر القدير سبحانه وتعالى أن يُعاد الإنسان: ” كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ” (104الأنبياء) كيف يعيده؟ سيدنا الإمام علي وضح هذا الأمر فقال: إن الرجل عندما يأذن الله له أن يعاشر زوجته ويقدِّر الله له منها إنساناً، غلام كان أو بنت، ينزل ملكٌ من السماء فيُقسِّم هذا الماء إلى ثلاثة أقسام، قسمٌ ينزل في الرحم يتكون منه الجنين، وقسمٌ يُوضع في المكان الذي سيُدفن فيه، وقسمٌ يصعد إلى سماء المـُزن تحت العرش.
ولذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في البقيع ومَرَّ بِجِنَازَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ:
{ قَبْرُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: فُلانٌ الْحَبَشِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ سِيقَ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ إِلَى تُرْبَتِهِ الَّتِي مِنْهَا خُلِقَ }[10]
هذا المكان الذي فيه جزء منه ناداه وجاء به إلى هنا، ولو أن هذا المكان بعيد عنه فإن الله يُوجد له مصلحة في هذا المكان، قال صلى الله عليه وسلَّم:
هو ذاهب إلى المكان الفلاني اليوم لأجل مصلحة كذا، والسر الإلهي أنه ذاهب ليدفن في أرضه التي ذُرَّ عليها من ترابه، فهذه حقيقة الإنسان.
بعد أن ندفن الإنسان قدرة القادر تبارك وتعالى أنه يتحلل، يبدأ الشعر أولاً ينزل، ثم الأسنان والعينين، ثم الجلد، ثم اللحم، ثم العظم، حتى يتحلل تماماً، إلا جزء واحد، قال صلى الله عليه وسلَّم:
الجزء الأخير الذي في مؤخرة العامود الفقري، والذي نسميه باللغة الدارجة العُصعُص لا يذوب أبداً، حتى ولو مات الإنسان في البحر فإن السمك لا يأكل هذا الجزء.
ولو وقع في حريق النار لا تأكل النار هذا الجزء، لأنه الذي منه وحوله يتكون جسد الإنسان كما يريد الرحمن تبارك وتعالى.
إذا مات البشر، وكلهم أصبحوا في تراب الأرض، قال سيدنا الإمام علي رضي الله عنه: فيُسلط الله سبحانه وتعالى على الأرض ريحاً قوية وشديدة من جهاتها الأربع، وتشتد هذه الريح حتى تحول الجبال إلى كثبان يعني أكوام رملية تجعل الجبال كثيباً مهيلاً، فترج الأرض كلها حتى يتجمع لكل إنسان عند قبره ترابه الذي يتكون منه جسده.
هذه الريح تستمر فترة، إلى أن تُسوي الجبال ببقية الأرض بالبحار، بعد ذلك يأمر الله تبارك وتعالى كما أخبر حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم:
وانتبهوا للعبارة، فالجزء الذي كان فوق هو الذي سينزل من سماء المزن ويتسبب في وجوده من جديد، كما أراد الحميد المجيد تبارك وتعالى: ” كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ” (29الأعراف).
تمطر السماء أربعين عاماً مني كمني الرجال، وكل قطرة مني تنزل على صاحبها الذي تعرفه، ولا تذهب لأحد غيره بقدرة القادر تبارك وتعالى.
فيتكون جسم الإنسان، وتبقى الروح، فتأتي النفخة الثالثة: ” ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ” تخرج الأرواح من مستقرها، ماذا يكون شكلها عندما تخرج هذه الأرواح الكثيرة؟! انظر كيف وصفها الله: ” يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ” (7القمر).
لم نر أسراب الجراد في بلادنا والحمد لله، ونسأل الله أن يقينا هذا الوباء إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها.
فالجراد عندما ينزل على بلاد الله كما حدث في السودان أو اليمن أو على الجزيرة العربية أو على غيرها، فيكون سربه في السماء عشرات الكيلومترات ولذلك عندما ينزلون على قطعة أرض لا يتركوا فيها شيئاً أبداً، يأكلون الورق والفروع وكل شيء.
فالأرواح من كثرتها ستخرج كالجراد، وضرب لنا هذا المثل ليقرب لنا حقيقة نراها ونعرفها: ” كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ” (7القمر).
كل روح تعرف البيت الذي كانت تسكنه، فتذهب إليه ولا تذهب لأحد آخر، فيحتي الجسد بأمر الحي تبارك وتعالى، فإذا هم قيام فيهم الحياة، وفيهم القوة، وفيهم الحركة، وينظرون.
النشأة الثانية
النشأة الأولى للإنسان كانت يوم ألست بربكم، وكانت روحانية صرفة، ونشأة الدنيا كان الجسم فيها ومعه الروح، والنشأة الثانية التي فيها الجسم ومعه الروح ستكون في يوم القيامة إن شاء الله.
وحضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم بين لنا عدة أمور في هذه النشأة تسترعي انتباهنا، فهل سنكون هناك بنفس الهيئة التي كنا عليها في الدنيا؟ لا، إذا كان الإنسان من أهل الجنة ستكون له هيئة، وإذا كان من أهل النار والعياذ بالله ستكون له هيئة، من الذي وصف الهيئتين؟ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
فطعام الجنة ليس له فضلات، ولا يحتاج لجهاز إخراج ولا حمامات لأنه لا توجد فضلات، فالأكل الذي يأكلوه كيف يخرج؟ قال:
الفضلات تخرج كرشحات عرق لها رائحة كرائحة المسك، فانظر إلى الفرق بين الأذى الذي يخرج منا في الدنيا، والفضلات التي تخرج في الجنة!!.
الجسم في الدنيا معرض للأمراض، ويتألم من الحر ومن البرد، لكن الجنة ليس فيها حر ولا برد، ولكن تكييف إلهي، وحتى التكييف الذي في الدنيا أحياناً يُسبب الأمراض، لكن في الجنة تكييف إلهي: ” لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ” (13الإنسان) ليس فيها حر، ولا برد، ولا مرض، لأن الجسم مجهز لذلك.
العلم يقول أن جسم الإنسان في الدنيا يتغير كل سبع سنين، طفل ثم صبي ثم شاب ثم رجل ثم شيخ ثم عجوز، وقد يعود للطفولة بعد ذلك نسأل الله الحفظ والسلامة: ” وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ” (70النمل) لكن أهل الجنة كما أخبر حضرة النبي صلى الله عليه وسلَّم:
يظلون شباباً في سن الثلاثة والثلاثون، ومتى يبلغ أربعة وثلاثين؟ لا يبلغها بل يظل في سن الثلاثة والثلاثين، لأن القوة في الثلاثة والثلاثين، والجمال في الثلاثة والثلاثين.
وكذلك النساء، لا يأتيهن حيض ولا نفاس في الجنة، والذي كان يسبب لهن تعب في الدنيا، لأنه كما قلنا لا يوجد مرض ولا تعب ولا عناء في الجنة.
وهل شكلنا سيكون بنفس الملامح التي نعرفها؟ هو، ولكن الجسم سيكون في طول سيدنا آدم، قال صلى الله عليه وسلم:
يكون الواحد منا طوله ستون ذراعاً، وهو الشكل الموافق للجنة، غير الشكل الذي نحن فيه فهذا للدنيا، لأنه يتعب ويمرض ويهرم ويشيخ، أما أهل الجنة لا يتبولون ولا يتغوطون ولا حتى يتنخمون، ولكن جمال في جمال، لأنها دار الجمال، ومن يدخل فيها يحيا في هذا الجمال على الدوام إن شاء الله.
حتى أنه لا يوجد في الجنة طلب، فما يخطرعلى بالك تجده أمامك بدون طلب، والملائكة للتشريف فقط، فهم يسلمون علينا فقط: ” سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ” (24الرعد) لكن ما تريده من طعام أو شراب بمجرد أن يخطر على البال تجده أمامك في الوقت والحال.
هذه النخلة فيها ثمر وتريد أن تأكل بلح منها، فهي تمشي إلى أن تصل عندك، وتُنزل السباطة في حجرك، وتأخذ البلحة التي تريدها، وكل بلحة لها طعم غير أختها، والبلحة التي تأخذها تنبت غيرها في الحال ولها طعم آخر، وهكذا بقدرة من يقول للشيء كن فيكون.
أما أهل النار فهم الكافرون والمشركون، ولن يدخل أحد من المؤمنين النار إلا الذين يتباهون ويجاهرون بعمل المعاصي، وهذا مسكين ضحكت عليه نفسه، فكلما جلس مع جماعة يقول: أنا فعلت كذا وكذا من المعاصي!!، ويفضح نفسه مع أن الله ستره، وهؤلاء يقول فيهم حضرة النبي:
هو الذي فضح نفسه فلا بد أن يُحاسب، فهؤلاء سيذهبون إلى جهنم ويعذبوا، ما الجزء الذي في الإنسان يذوق العذاب؟ الجلد، ولذلك عندما يمسك إنسان بمشرط ويجرح يده، سيتألم عند الجلد، وولكن عندما يدخل في اللحم لا يؤلم، لأن الجلد الذي يتألم، ولذلك قال الله فيهم: ” كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ” (56النساء).
وجلد الإنسان لا يتحمل شيء، لذلك سيكون له شكل آخر في جهنم، قال صلى الله عليه وسلَّم في جلد الكافر:
وهذا تشكيل وتكوين تقريبي وضحه وبيَّنه لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم للنشأة الثانية.
بعد أن تتكون هذه الأجسام تدخل فيها الأرواح، في هذا الوقت يكون الله قد بدِّل الأرض وبدَّل السماوات، وجعل أرض أُخرى للحساب، غير هذه الأرض التي نحن عليها، وأرض الحساب ستكون أرضيتها من فضة، حتى تعكس الحرارة، ومن يقف عليها ستُصليه بالعذاب، فالشمس الآن عندما تُسلَّط على الأرض فهل التراب يسخن؟ لا، حتى لو سخن ستكون سخونته خفيفة، لكن عندما تكون الأرض معدن فماذا يفعل؟ لا يستطيع أحدٌ أن يقف عليها.
فتكون الأرض من فضة بيضاء، وتسع الخلق جميعاً من أول آدم إلى يوم القيامة، وكلهم يقفون في موقف واحد.
منهم من يقف، ومنهم من يجلس تحت ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم جماعة عندما تدخل الروح فيه يجد وفد من الحرس الجناني جاء ليستقبله، ومعهم ملابس من الجنة، ومعهم شراب من الجنة، ويأخذوه ويزفوه حتى يُدخلوه الجنة، وهذا ليس له شأن بالحساب ولا بالعذاب ولا بهذه الأمور كلها.
ومنهم الكافرين، فيجد فرقة من مباحث جهنم واقفين ومستعدين ومعهم السلاسل، ليقبضوا عليه ويجروه بالسلاسل للحساب، وهذا الكلام كله في كتاب الله.
أهل الجنة الذين يدخلون من غير حساب سيدخلون الجنة، وأهل الموقف المنعمين ستزفهم الملائكة، فمنهم من سيجلسوه تحت العرش، ومنهم من يجلسوه قدام العرش على منبر من نور، أما خزنة جهنم فسيقبضون على الكافرين ويأخذوهم في السلاسل: ” فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا ” (32الحاقة) ويبدأ بعد ذلك الحساب.
وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم
[1] البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه