• Sunrise At: 6:05 AM
  • Sunset At: 6:03 PM

Sermon Details

17يناير2022

تجهيز القلب لتلقي الفتوحات الربانية

ABOUT SERMON:

شارك الموضوع لمن تحب

تجهيز القلب لتلقي الفتوحات الإلهية

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ – الحمد لله المنزه في عُلاه عن الشبيه والمثيل والنظير والوزير والمشير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الله ومصطفاه، ونور الله الدال بالله على حضرة  الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وكل من اقتدى بهُداه، وصار على دربه إلى يوم الدين .. آمين.

قلنا أن الإنسان له ظاهر وله باطن، له ظاهر في عالم الملك الذي نعيش فيه الآن وهو الجسم، وهو من عناصر هذا الكون الذي نحن فيه.

وله باطن من عالم النور، وفيه المعاني الغيبية والأشياء الإلهية التي تُمارس ما كلَّفها به رب البرية من خلال الجسم، ولكنها لا تُرى، بينما يُرى أثر فعلها، ويُرى نتائج عملها، ولكن لا يستطيع الأولون ولا الآخرون أن يروا ما فيها أو يروا حقيقتها لأنها حقيقة نورانية إلهية لا تُرى بالعين المجردة الإنسانية.

وقلنا أن الإنسان هو المخلوق الأكرم والأعظم والأعزُّ عند الله، لأن الله عز وجل خلق كل ما في عالم السموات من الملائكة الكرام والكروبيين وغيرهم بيد واحدة: ” بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ” (88المؤمنون) وخلق كل ما في عالم الأرض وعالم الملك وعالم الشهادة بيدٍ واحدة: ” بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” (1الملك) وخلق الإنسان بيديه: ” مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ” (75ص).

والبعض وجد حيرة في كلمة (يد) ونسبتها إلى حضرة الله، لكن اليد هنا ليست كيدنا فإن الله ليس كمثله شيء: ” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ” (11الشورى.

فخلق الملكوت بالجمال، ولذلك كل ما فيه نورٌ وجمال، ليس هناك معصية ولا مخالفة: ” لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ” (6التحريم).

وخلق عالم المُلك بالجلال في الاختبارات والابتلاءات، فالأرض كلها ومن عليها في بلاء وابتلاء شديد: ” تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ” (1-2الملك) أي ليختبركم.

وقال للإنسان: ” يَا أَيُّهَا الانْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ” (6الإنشقاق) فالحياة كلها في عالم الدنيا بالنسبة لجسم الإنسان كدحٌ وهم وغم ومرض وتعب وشقاء، وما على هذه الشاكلة.

والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي خلقه الله بالجمال والجلال، فما فيه من عالم المُلك يتعرض للجلال وللقهر وللشدات التي نحن فيها الآن، وما فيه من عالم الملكوت إذا ارتضاهم ولجأ إليهم وأكرمهم سيعيش في جمال ما بعده جمال، لأنهم من عالم الجمال.

فيه من معاني الغيب أو عالم الملكوت العقل والنفس والقلب والروح، وكل هذه العوالم التي لا تُرى بالعين المجردة، ولا تصل إليها الحواس، ولم يصل إليها العلم العقلي المنطقي الذي هو الأساس فيما بين الناس الآن.

فهذا القلب هو الوُصلى بين عطاءات الله التي يرسلها إلى هذا الجسم لينفذ مراد الله في شرع الله الذي أنزله على رسول الله: ” بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ” (20الرحمن).

كيف نُعد هذا القلب للفتوحات الإلهية حتى يفتح الله على العبد بما فتح به على العارفين والمخلصين والصديقين وغيرهم من الصالحين أجمعين؟

خطوات التعرض لفضل الله

خطوات لا بد منها يجاهد فيها المرء حتى يتعرض لفضل رب العالمين سبحانه وتعالى:

1- تحصيل العلوم الشرعية:

العلوم الشرعية إذا حصَّلها السالك تحمي القلب من هجمات الشك والضلال والوهم والخيال الذي قد يُسيطر عليه فيُبعده عن الله تبارك وتعالى بعداً كلياً.

وتحميه كذلك مما يتعرض له بعض السالكين من الشطح – كما نسمع عنهم – وإهمال شرع الله، وادعاء أنهم مقربون إلى حضرة الله، تنزه الله تبارك وتعالى عن ذلك.

وكلما زاد علم الإنسان بشرع الله وعمل به، كلما عجز الشيطان عن الوسوسة له وإغوائه، وكلما زاد جهل الإنسان بشرع الله كان أكثر عُرضة لتزيين الشيطان ووسوسته وإغوائه لأنه يزين للإنسان فيما يجهله، ولكنه لا يستطيع أن يُزين له فيما يعلمه، إلا إذا كان والعياذ بالله يمشي وفق حظه وهواه، وترك العمل بما أمره به مولاه تبارك وتعالى، نسأل الله الحفظ والسلامة.

ولذلك نجد في أحوال العارفين أحوال تصدق ذلك، فهذا سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وأرضاه عندما كان في خلوته، ورأى نوراً من الأرض إلى السماء، فوسوس له خياله أن هذا نور الله، فسمع من يقول: عبدي عبد القادر، قال: لبيك سيدي، قال: إني أبحتُ لك المحرمات، قال: اخسأ يا ملعون، فإذا بالنور يتحول إلى دخان، قال: كيف عرفتني يا عبد القادر؟ قال: لأن الله لم يحرم شيئاً على لسان نبي ثم يبيحه لوَليّ.

التحريم والتحليل انتهى عند حضرة النبي، وبعد النبي لا تحليل ولا تحريم، فقال الشيطان: نجوت مني يا عبد القادر بعلمك وفقهك، ولقد أخرجت قبلك سبعين رجلاً بهذه الطريقة، لماذا؟ لجهلهم، دخل الشيطان عليهم وأخرجهم من عالم النور والحقيقة للخيالات والضلالات والوساوس والهواجس التي تسيطر على قلوبهم وعقولهم، ولا يمنع هذه الوساوس إلا العلم الشرعي:

{ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ }[1]

ولذلك كان أهم ما يبدأ به المريد هو العلم الشرعي، ولو نظرنا نظرة بتأني إلى كبار الصالحين نجد أنهم جميعاً بلا استثناء تبحروا في البداية في العلوم الشرعية، حتى أن أغلبهم ألَّف كتباً في الفقه، فهذا سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه بعد أن حفظ القرآن برواياته السبع، تبحَّر في الفقه على مذهب الإمام الشافعي، وله كتاب في الفقه سماه (الجوهرة) وكذلك سيدي إبراهيم الدسوقي، وكذلك سيدي عبد القادر الجيلاني عمل كتاباً سماه (الغُنية لطالبي طريق الحق عز وجل) بثَّ فيه كل ما يحتاج إليه السالك من العلوم الشرعية.

وكذلك سيدي أحمد الرفاعي رضي الله عنه فقد درس الفقه أيضاً على المذهب الشافعي، وكان يشتهر في عصره كتاباً يُسمى (التنبيه) لأبي إسحاق الشيرازي، شرحه سيدي عبد القادر رضي الله عنه في ست مجلدات، مما يدل على التبحر في علوم الشريعة.

وكانوا يأمرون بذلك مريديهم وأحبابهم؛ أنه لا بد للسالك أولاً أن يحيط بالشريعة المطهرة، بالكيفية التي يعمل بها، لا نطالبه بأن يكون مفتياً يفتي، أو فيلسوفاً يتكلم مع هذا وذاك، ولكنه يتعلم من الشريعة ما يحتاجه في أعماله التي يتقرب بها إلى مولاه تبارك وتعالى.

فمثلاً إذا لم يكن عنده شيء يستوجب الزكاة فهو ليس في حاجة إلى أن تتسع معرفته في أمور الزكاة، إلا إذا وُجد عنده ما يستحق الزكاة، وليس في حاجة إلى أن يتوسع في مناسك الحج إلا إذا عزم فعلياً على أداء فريضة الحج، وهكذا.

فيتعلم من الفقه ما يحتاج إليه في حياته العملية، التي تكون على قدم صدق في التعامل مع رب البرية سبحانه وتعالى.

2- تصفية القلب:

 بعد أن يتعلم ما لا بد له منه من العلوم الشرعية، يُقبل على القلب، وعليه نحو القلب أمرٌ هامٌ أولاُ ووهو أن ينقي هذا القلب مما يبعده عن القرب من الله ونوال رضا الله تبارك وتعالى.

ونضرب هنا مثالاً: أنت تريد أن تزرع الأرض وتأتي بمحصول جيد، فلا بد أن تجهز هذه الأرض أولاً، وتنقيها من الحشائش وغيرها التي تشارك النبات الذي تريد أن تزرعها فيه لتأتي بالمحصول الوفير.

كذلك لا بد أن ننقي القلب أولاً من الأشياء التي لا يحب أن يراها فيه الله، وخاصة أنه موضع نظر الله:

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }[2]

ماذا يريد من القلوب؟ القلب السليم: ” إِلا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” (89الشعراء) والإمام أبو العزائم رضي الله عنه يقول:

نَفَس بقلب سليم رفعة ورضا

وألف عام بلا قلب كلحظات

أهم شيء أن يتنفس الإنسان نَفَسه والقلب سليم، فينقيه من الأحقاد والأحساد والغل والبُغض والكُره، ويقول فيها الله عز وجل لنا في القرآن: ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ” (47الحجر).

وإذا نظرنا بعين يقين إلى ألفاظ الآية نجد فيها العناية، (ونزعنا) والنزع يحتاج إلى الشدة، لأن هذه الأشياء لا تخرج بسهولة ويُسر، فتحتاج إلى الشدة في انتزاعها، وهذه واحدة.

والثانية: يريد الله منا أن نخلعها بجذورها، حتى لا تظهر مرةً أخرى بعد ذلك، فالنبات الذي نقطعه من على سطح الأرض يخرج مرة أخرى كالبرسيم وغيره، لكن إذا قلعناه بجذوره لا يخرج مرة أخرى.

إذاً هذه الأمراض لا بد أن تخرج بالكلية، ولا تعود أبداً إلى أرض القلب لتظل تقية نقية لرب البرية سبحانه وتعالى.

وهذا جهاد الإنسان، ولا يستطيع أحدٌ مهما أوتي أن يخلع داء الحقد أو الحسد أو الغل أو الكُره من قلب إنسان إلا إذا أراد هذا الإنسان ذلك.

هل يستطيع أحدٌ مهما كان مقامه أن يخلع هذه الأشياء من قلب إنسان بدون إرادته؟ أبداً، لا بد أن يكون له إرادة فيها أولاً، وقد قال صلى الله عليه وسلَّم لسيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه:

{ يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ }[3]

إن شئت قلت: كان معه في الجنة العاجلة: ” مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ ” (29الفتح) جنة الشهود، وجنة الطاعة، وجنة الإقبال على الله عز وجل، وجنة مجالس العلم:

{ إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الْعِلْمِ }[4]

فقد جعل االله تبارك وتعالى كل شيء من أعمال البر والخير جنة، نمشي فيها ونرتع فيها كما بيَّن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلَّم.

والذي معه هنا في هذه الجنان، بالطبع سيكون معه يوم لقاء حضرة الرحمن، وسيكون معه إن شاء الله يوم القيامة في الجنة العالية، لقوله صلى الله عليه وسلَّم:

{ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ }[5]

وقول الله تبارك وتعالى: ” وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً ” (69النساء) فيكون مع سيدنا رسول الله الذي يحبه، وأصحابه من النبيين والمرسلين، والصديقين والصالحين، وغيرهم من أهل المعية المباركين، نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون منهم أجمعين.

إذاً لا بد أن يعالج القلب ويخرج منه هذه الأشياء، والإمام أبو العزائم رضي الله عنه عدَّد لنا هذه الأشياء في قصيدة طويلة، بدأها بقوله:

أيا رفقتي يا خلتي يا أحبتي

على العُروة الوُثقى فسيروا ورافقوا

يقول من جملتها:

دعوا الكبر والحسد القبيحين سادتي

دعوا طمعاً فيما يزول ورافقوا

وإياكموا أخلاق إبليس إنها

لقد أبعدته وهو طاووس رامقُ

لا بد من التخلي عن هذه الأخلاق بالكلية ليتحلى (التحلي بالتخلي).

3- تجميل القلب بما يجبه الله:

إذا تخلى عن هذه الأخلاق التي لا يحبها الخلاق، جمَّل القلب بما يحبه الله من المحبة والمودة والشفقة والرحمة والعطف والحنان، وغيرها من صفات النبي العدنان صلى الله عليه وسلَّم.

والنبي صلى الله عليه وسلَّم وسَّع الأمر أيضاً في أحاديثه الشريفة، فقال صلى الله عليه وسلَّم:

{ لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا }[6]

فهنا قد تحققت الأُخوة في طريق الله، كما قال الله: ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ” (47الحجر) إذا نزعوا الغل فقد أصبحوا إخواناً.

إذاً كل من فيه علةٌ من هذه العلل التي أشرنا إليها وذكرناها لم يصل إلى درجة الأُخُوة، وطبعاً هذه الصفات كثيرة، منها الطمع ومنها الجشع ومنها الأثرة ومنها الأنانية، ولا نستطيع حصرها كلها، لكن أشرنا إليها في دروسنا وكتبنا والحمد لله رب العالمين.

لا بد أن يُفرّغ القلب مما لا يحبه الله، ويملأه بما يحبه الله ويرضاه، ولنا مشهد عال في هذا الأمر، فقد قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ بَيْنَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ – وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ – بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذَا أَتَانِي آتٍ فَشَقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَمُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا }[7]

فقد ذكر كتاب السير والأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته الملائكة الكرام عندما كان نائماً في الحِجر في الليلة التي اصطفاه الله فيها ليُعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى، كيف جهزوه؟ أضجعوه وشقوا صدره وأخرجوا قلبه ووضعوه في طست، وأخرجوا منه مضغة سوداء، وهذه التي نريد أن نُخرجها، فهو صلى الله عليه وسلم ليس عنده مضغة سوداء، لكنها إشارة لنا نحن، وقالوا: هذا حظ الشيطان، ثم جاءوا بطست مملوءاً إيماناً وحكمة، والإيمان والحكمة أشياءٌ معنوية وليست أشياء حسية، لكن لنعرف أنه يجب أن نفعل هذا، ونرفع حظ الشيطان من هذه الأخلاق التي توافقه ثم نأتي ببضاعة الحبيب الأعظم التي رباه عليها الله تبارك وتعالى ونجعلها في قلوبنا.

4- حفظ القلب من الأغيار:

نجاهد بعد ذلك أن لا يدخل في القلب أحدٌ غير الله، فيقف الإنسان على باب قلبه بواباً لا يسمح بدخول غير، ولذلك يسمونها الأغيار، لماذا؟ لأن القلب مملوء بالأنوار، فلا يريد أن يغبِّر هذه الأنوار التي جعلها فيه الله سبحانه وتعالى، وأعظمها وأبهاها نور النبي المختار صلى الله عليه وسلَّم.

يقول سيدي أبو اليزيد البسطامي رضي الله عنه في هذا لجهاد: ((جاهدتُ نفسي اثني عشرة سنة، ثم وقفتُ على باب قلبي، أمنع دخول غير الله اثني عشرة سنة أخرى)) يعني ممنوع الدخول لغير حضرة الله، والخواطر التي تمر يمنعها، يقول في في هذه الخواطر سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه:

وإن خطرت لي في سواك

إرادةٌ يوماً قضيت بردتي

أحكم أنني رجعت مرة أخرى للوراء، وليست الردة هنا بمعنى الإرتداد عن الدين، لماذا؟ لأنه سمح بخاطر في غير الله يدخل في قلبه، ولذلك قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه في قول الله: ” وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ” (24الكهف) قال: لا يكون الذكر ذكراً حقيقياً حتى ينسى الإنسان أثناء ذكره ما سواه، لكن إذا كان يذكر الله ويذكر معه غيره، فإن الله يقول كما قال صلى الله عليه وسلَّم:

{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ }[8]

القلب الذي فيه لهو أو فيه سهو لا يقبل الله منه هذا العمل، ولذلك:

اذكر ربك إذا نسيت سواه

قل بقلبٍ في الذكر يا ألله

5- الذكر الخالص لله:

فإذا منع دخول غير الله في قلبه، من المال ومن الولد ومن الزوجة ومن الجاه ومن حب الدنيا ومن كل شهوات الدنيا ومتعها وأهوائها ومتعلقاتها، ولم يبق في القب غير الله، فيبدأ يذكر الله بقلبه، ويردد بقلبه ألفاظ الذكر (يا الله) التي يقولها بلسانه، ولا يزال يذكر الله بقلبه حتى يغيب عن نفسه، فتُمحى حروف ألفاظ الجلالة من قلبه، ويكون ذكره حضوراً بين يدي ربه سبحانه وتعالى.

6- التسليم لله في فتحه وعطاه:

فإذا ذكر الله بهذه الكيفية أصبح متعرضاً لنفحات الله، وجاهزاً لأن ينال عطاءات الله، مع أن عطاءات الله وفتوحات الله هي فضل من الله، لا بعمل ولا بأمل، وإنما:

إذا تعرَّض عبدي لنيل فضلي تحلى

بحُلة الحُسن مني وبالشهود تملى

أما الذي لا تزال نفسه موجودة لم تمت ويقول: أنا في هذا المقام لي سنين ولم أنل شيئاً، فأنت لم تصل إلى مقام الكمال في التعرض لفضل الواحد المتعال، فمن يتعرض لفضل الله لا يُحدد لنفسه عطاءاً، ولا يختار لنفسه مقاماً من مقامات الاجتباء أو الاصطفاء، فهو يتعرض وهم يقيموه حيث أرادوا، لأنه إذا أقامك أعانك.

لكنك تتمنى شيء معين، فهذا من نفسه، وقد لا تصلح لهذا الأمر فلا تُعان، والإنسان إذا وُكل إلى نفسه في أي أمر لا يستطيع أن يقوم به، لأننا لا نقوم بأي عمل إلا بتوفيق الله ومعونة الله، ولا يتم لنا حصول مراد إلا بفضل الله تبارك وتعالى:

سر الوصول إلى الجناب العالي

حب النبي محمدٍ والآل

والفضل فضل الله يُعطى منةً

بالحب في طه العزيز الغالي

كم عاملٍ في ظُلمةٍ لا يشهدن

إلا وساوس نفسه بخيال

7- دوام شكر الله:

لا تزال وساوس النفس موجودة، فما عليَّ إلا أن أجهز القلب للعطاءات الإلهية، ثم أتعرض بعد ذلك لفضل الله وإكرام الله، وأنتظر العطاء من الله، وعليَّ بعد ذلك أن أحافظ على العطية، فعلى المـُعطَى له حفظ العطية، وليس على العاطي، وحفظ العطية يكون بدوام الشكر: ” لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ” (7الرعد).

فلو حصل الإنسان على عطية ربانية ونسبها لنفسه، يكون قد خرج من هذه الدائرة، وربما يكون كفوراً، لأنه كفر بأنعم الله التي خلعها عليه تبارك وتعالى.

يعني مثلاً أعطاه الله علماً إلهامياً، فعندما يجالس الناس يفتخر ويتباهى ويبين أن هذا العلم لكفاءته ومهارته وسعة اطلاعه، ولا ينسب الفضل إلى مولاه، فهنا هل تُحفظ هذه العطية؟ لا، لأن حفظ العطية يحتاج إلى دوام الشكر: ” لَئِنْ شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ” (7الرعد).

ولا يليق بالإنسان أن يختار مع الله: ” وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ” (68القصص) ولذلك كانوا يقولون:

فكن عبداً لنا والعبد يرضى

بما تقضي الموالي من مراد

أسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح لنا وعلينا وبنا فتوحات إلهية، وعطاءات ربانية، وأنوار قدسية.

وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم

[1] البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه

[2] صحيح مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه

[3] جامع الترمذي عن أنس رضي الله عنه

[4] المعجم الكبير للطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما

[5] الحاكم في المستدرك والطبراني عن عائشة رضي الله عنها

[6] صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

[7] المعجم الكبير للطبراني ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه

[8] جامع الترمذي ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه

 درس بعد صلاة العشاء الجميزة – السنطة -الغربية 14 من جمادى الآخر 1443هـ 17/1/2022م

Fawzyabuzeid - Copyright 2023. Designed by Fawzyabuzeid